أصبح الدور الذي يلعبه الفاعلون من غير الدول من ثوابت المشهد الشرق أوسطي، وتزايدت وتيرته على الأقل منذ عقد ونصف؛ فبعد أن كان “حزب الله” حركة مقاومة محلية فى 2006 اصبح بحلول 2004 وبفضل الكثير من الأحداث من بعد الربيع العربى فاعلا إقليميا مؤثرا فى المعادلات الكبرى فى المنطقة!

وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فالأمر أقدم عهداً من ذلك، نظراً لخصوصية القضية وعدم وجود دولة فلسطينية. وعلى الرغم من أن الفاعلين من دون الدول يضطلعون في العادة بأدوار ذات طابع محلي في مناطق الصراعات التي يتمركزون فيها، بما يجعل من الصعب الحديث عن دور إقليمي لهذا النوع من الفاعلين بالشكل المعهود في الحديث عن الدور الاقليمي للدول، إلا أن الأمر يختلف نسبياً بالنسبة للحالة الفلسطينية، كونها القضية الأكثر انفتاحاً على التفاعلات الإقليمية وتأثراً بها، ونظراً للخصوصيات الجغرافية والديموجرافية المميزة للنضال الفلسطيني تاريخياً.

في هذا الإطار، ظل الدور الاقليمي الذي تمارسه الفصائل الفلسطينية يتراوح بين حدّين: الأول أن تمثل وكيلاً لأحد الأطراف الخارجية الذي يتعهد بدور الكفيل الإقليمي للحركة، ومن ثم تكون أداة يتم توظيفها من قبل هذا الكفيل، الراعي الرسمي للحركة، لتحقيق مصالحه؛ ولعل النموذج المتطرف في هذا الجانب في التاريخ الفلسطيني هو أبو نضال (صبري البنا)، والذي لم يجد باتريك سيل تعبيراً لوصف دوره خير من “بندقية للإيجار” كما يشير عنوان كتابه عنه. والثاني هو قدرة الحركة، من خلال استخدام شتى الموارد والأدوات المتاحة والممكنة، على توظيف التناقضات الإقليمية لتحقيق مصالحها كفصيل فلسطيني له أهداف يمكن تعريفها على أساس وطني مفارق لمصالح حلفاؤه الخارجيين. وبين هذا وذاك يمكن أن ننظر إلى تفاعلات أي فصيل فلسطيني مع مجريات الأحداث في الشرق الأوسط، فيما يمكن اعتباره دوراً إقليمياً يتجاوز النطاق الجغرافي للأراضي الفلسطينية المحتلة محل الصراع.

على الرغم من أن الفاعلين من دون الدول يضطلعون في العادة بأدوار ذات طابع محلي في مناطق تمركزهم، إلا أن الأمر يختلف نسبياً في الحالة الفلسطينية

بهذا المعنى، يمكن دراسة الدور الإقليمي للفصائل الفلسطينية على المحورين السابقين في ضوء مؤشرين اثنين: الأول هو موقع القضية الفلسطينية – أي مدى مركزيتها من عدمه – من جدول أعمال الإقليم. والثاني هو موقع الفصيل على متصل “السلطة – المقاومة”؛ بما يتضمنه ذلك من صراعات حول الشرعية التمثيلية، وحول وضع أجندة العمل الوطني وتوجيه بوصلته.

في إطار المحددات السالف ذكرها، سنحاول في هذا المقال استكشاف مدى حضور مثل هذا الدور لدى الممارسة السياسية والعسكرية لحركة حماس منذ تأسيسها وحتى اندلاع الثورات العربية، توطئة لتناول – في مقال قادم – تأثير التغيرات الإقليمية الحادثة بعد الثورات على سلوك الحركة، ومن ثم محاولة التعرف من خلال المقالين على مقاربة الحركة لمصالحها ورؤيتها للدور الذي يمكن أن يخدم هذه المصالح من خلال الانخراط في الصراعات الاقليمية خارج الأراضي الفلسطينية من عدمه.


القضية الفلسطينية بين المركزية والتهميش

ظلت القضية الفلسطينية تحتل مكانة مركزية بالنسبة للتفاعلات الشرق أوسطية حتى نهاية السبعينيات، ومع قيام الجمهورية الإسلامية في إيران وتوقيع معاهدة السلام المصرية الإيرانية في الربع الأول من عام 1979، كان ذلك إيذاناً بانتقال مركز الثقل الإقليمي بعيداً نسبياً عن القضية الفلسطينية، شرقاً إلى منطقة الخليج والحدود العراقية الإيرانية، مع انكفاء الفلسطينيين على تعقيدات الحرب الأهلية اللبنانية، فضلاً عن رحيل منظمة التحرير إلى تونس. وعلى الرغم من أن اندلاع الانتفاضة الأولى بنهاية عام 1987 أعاد القضية الفلسطينية إلى واجهة المشهد الشرق أوسطي، إلا أنه مع قدوم عقد التسعينات وتوقيع اتفاق الطائف، انتقل مركز الثقل أكثر ناحية الخليج، وترافق ذلك مع تدشين المسار السلمي للقضية الفلسطينية عبر محطتي مدريد وأوسلو. واستمر الخليج وقضاياه يمثل مركز الثقل الاقليمي طول العقد الأول من الألفية الجديدة، وعمّق من ذلك التزايد المطرد للنفوذ الخليجي داخل النظام الاقليمي العربي، فضلاً عن التنافس بين بعض الأطراف الخليجية على توجيه هذا النظام.

مع قيام الجمهورية الإسلامية في إيران وتوقيع معاهدة السلام المصرية الإيرانية في الربع الأول من عام 1979، انتقل الثقل الإقليمي بعيداً نسبياً عن القضية الفلسطينية

في ظل الحقبة الخليجية، صارت مجريات الأحداث على خط الصراع العربي الإسرائيلي، سواء على الجبهة الجنوبية في غزة، أو الشمالية في جنوب لبنان، مرهونة في جزء كبير منها بتطورات قضايا الصراع في منطقة الخليج (وذات الأمر بالطبع بالنسبة لليمن ولبنان على سبيل المثال)، وأصبح القطبين الرئيسين في الخليج، أي السعودية وإيران، هم قادة المحورين الإقليميين المتناحرين، محور الاعتدال والممانعة. واستمر الأمر على ذلك الحال إلى أن انطلقت ثورات الربيع العربي، فتبدلت خريطة التحالفات الاقليمية؛ ومع استمرار تصاعد النفوذ الخليجي في النظام الإقليمي العربي، انتقل مركز ثقل التفاعلات في المنطقة إلى المشرق العربي واليمن وليبيا، مع اتخاذ الصراع هناك منحى أكثر راديكالية يتجاوز إعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية إلى الصراع حول بناء تلك الدول، وربما، كما تذهب بعض التخوفات، إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة من جديد.

في ظل هذه التحولات الإقليمية، وتراوح موقع القضية الفلسطينية منها بين حقبة وأخرى، كيف تفاعلت حركة حماس مع هذه التطورات، وكيف تشكّل دورها الإقليمي، إن كان ثمة ما يمكن اعتباره دوراً إقليمياً لها (!)، وما هو أفق تطور هذا الدور مستقبلاً؟


حماس وجدل الداخل والخارج

حين ظهرت حركة حماس إلى الوجود رسمياً في الشهر الأخير من عام 1987، كانت حركة فتح تتزعم انتفاضة الحجارة. وكانت حماس في ذلك الحين تمثل النموذج النقيض لحركة فتح؛ فبينما عملت فتح منذ تأسيسها على بلورة كيانية وطنية فلسطينية، بوصفها حركة تحرر وطني ظهرت في حقبة تاريخية كان أبرز عناوينها تحرر مجتمعات دول الجنوب من الاستعمار وتأسيس دولة وطنية؛ يشير الميثاق التأسيسي لحركة حماس إلى كونها جزءاً من جماعة الإخوان المسلمين، وأن فلسطين تمثل وقفاً إسلامياً. هذا الفارق بين الحركتين انعكس بوضوح على طبيعة تفاعل كل منهما مع الفاعلين الخارجيين. فتاريخ حركة فتح يشير إلى أنها كانت تتميز باستقلالية كبيرة عن الأطراف الخارجية، وهذه الاستقلالية كانت هي المحدد في تشكيل مواقف الحركة، فضلاً عن جعلها تمثل تهديداً ومنافساً لبعض هذه الأطراف، وهو ما يظهر في المحطات المفصلية في تطور علاقة فتح بدول الطوق الثلاثة: الأردن حيث أحداث أيلول الأسود، ومصر بالنسبة للسلام مع إسرائيل، وسوريا خلال فصول الحرب الأهلية اللبنانية.

يشير الميثاق التأسيسي لحركة حماس إلى كونها جزءاً من جماعة الإخوان المسلمين، وأن فلسطين تمثل وقفاً إسلامياً

مع تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وعودة حركة فتح إلى الداخل الفلسطيني، أتيحت لحماس هوامش أكثر اتساعاً للتحرك، سمحت بها فراغات المقاومة التي خلفها تدشين المسار السلمي لمنظمة التحرير بقيادة حركة فتح. وإقليمياً، باعد موقف منظمة التحرير من الغزو العراقي للكويت بين القيادة الفلسطينية ودول الخليج منذ مطلع التسعينيات، كما ظلت الخصومة الشخصية بين القيادتين الفلسطينية والسورية على حالها، في حين شهد عقد التسعينيات تقارباً بين منظمة التحرير والأردن. هنا اختمر السياق الإقليمي الحاضن والمحدد لإطار تحرك حركة حماس، وفق كونها حركة مقاومة مناهضة للمسار السياسي السلمي الذي انتهجته منظمة التحرير من جهة، وأنها تمثل جزء من تنظيم أممي من جهة أخرى.

لم تستطع حماس الاستفادة من فرصة الجفاء الخليجي الفلسطيني الناجم عن موقف منظمة التحرير من أزمة الاقتحام العراقي للأراضي الكويتية، وذلك بسبب موقف الأخوان المسلمين – باستثناء إخوان الخليج – المناهض للتدخل الدولي لتحرير الكويت من جهة، ومن جهة أخرى بدء تطور العلاقة بين حماس وإيران منذ عام 1990، وبحزب الله في لبنان منذ عام 1992. كما ظلت العلاقة بين مصر والحركة، في ظل الدعم المصري لمنظمة التحرير، محافظة على حدها الأدنى الذي لا يصل إلى درجة الخصومة السياسية الصريحة، إلى حين تغييب الشيخ ياسين والدكتور الرنتيسي بالاغتيال عام 2003.

كانت علاقة حركة حماس بالأردن هي الأكثر التباساً، فقد كانت حماس جزءاً من تنظيم الإخوان في بلاد الشام، والذي يضم إخوان الأردن وفلسطين معاً، وكان إخوان الأردن على الدوام خير سند للنظام الملكي في وجه المعارضة القومية واليسارية. كما كان الملك حسين في حاجة لحركة حماس كورقة ضغط على منظمة التحرير. لكن مع التقارب الفلسطيني الأردني منذ اتفاقية وادي عربة عام 1994 تراجعت أهمية حماس نسبياً بالنسبة للأردن وأخذت العلاقة بين الطرفين تتخذ منحنى هابطاً في مجراها الرئيسي، فقد بدأت التناقضات في الظهور في ذات العام مع بيانات كانت تطلقها حماس من العاصمة الأردنية عقب تنفيذ عمليات فدائية رداً على مجزرة الحرم الإبراهيمي مما أحرج النظام الأردني، كما صرّح الملك حسين عام 1995 بعدم اعتراف الأردن إلا بمنظمة التحرير كممثل وحيد للفلسطينيين، وفي 1996 شارك الأردن في مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة الإرهاب، والذي صنّف حركة حماس كمنظمة إرهابية. ومع رحيل الملك حسين وتولي الملك عبد الله، انتهت العلاقة بين الطرفين بترحيل قادة حماس، وتحول هذه العلاقة بشكل كبير من ملف سياسي بيد الملك إلى ملف أمني بيد جهاز المخابرات.

اختمر السياق الإقليمي الحاضن والمحدد لإطار تحرك حركة حماس، وفق كونها حركة مقاومة مناهضة للمسار السياسي السلمي من جهة، وأنها تمثل جزء من تنظيم أممي من جهة أخرى

لم يعد أمام حماس إلا الحاضنة السورية وحليفتها الإيرانية. وهنا نشير إلى عنصر هام في اختلاف حماس عن فتح، وهو إلتزام حماس بعدم استخدام أراضي أية دولة في تنفيذ عمليات فدائية واقتصار هذه العمليات على الداخل الفلسطيني، وهو العنصر الذي ساهم في استقرار علاقتها بالنظام الأردني في السابق، وبالنظام السوري كذلك، على عكس حركة فتح التي كانت تاريخياً مصدر إزعاج لهذه الأنظمة. وعلى هذا النحو استمرت علاقة الاعتماد المتبادل بين حماس ومحور الممانعة، بوصف حماس تمثل، بشكل ما، وكيل لهذه الأنظمة في الداخل الفلسطيني، وفي ذات الوقت تستطيع حماس الاستفادة من دعم هذه الأطراف في تنفيذ أجندتها المقاومة في تخريب المسار السلمي، وهو ما وجد بيئته المثلى مع الانتفاضة الثانية، والتي التحقت بها حماس ووظفتها بذكاء، بما يلائم نهجها العملياتي، في زيادة رصيدها السياسي كحركة مقاومة، إلى حين الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من قطاع غزة.

شهدت تلك السنوات عدة تحولات، كانت أولاها عام 2003 هو تغييب القيادة التاريخية للحركة ، ما أدى إلى تزايد ثقل قيادات الخارج في صناعة قرار الحركة، وهو ما أطلق التناقض الكامن في تكوين الحركة من عقاله، أي التناقض بين البعد الأممي الذي لا يجد، من الناحية الأيديولوجية، غضاضة في تجاوز الطابع الوطني على مستوى التحالف وصنع القرار، وبين الاعتبارات المحلية الخاصة بالداخل الفلسطيني، والتي كان لها الغلبة فيما سبق بحكم إقامة القيادة التاريخية للحركة داخل غزة، فأصبح الطابع العام لتوجه الحركة أكثر قرباً من أجندة محور الممانعة، مع وجود توترات ملحوظة في عملية صنع القرار، بين قيادات الداخل وقيادات الخارج.

في العام التالي 2004 كان رحيل ياسر عرفات ومجيء أبو مازن بخياراته الأكثر مهادنة والمدعومة مصرياً، وتلى ذلك في 2005 تولي أحمدي نجاد السلطة في إيران، مما زاد من حدة الاستقطاب الاقليمي، وجعله أكثر انعكاساً على الانقسام الفلسطيني داخلياً. وفي 2005 أيضاً كان الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وهو ما تم ترجمته في خطاب الحركة على أنه تتويجاً لجهودها في مقاومة الاحتلال، مما فاقم من شعورها بالاستحقاق وضرورة كسر احتكار النهج السلمي الأحادي لمنظمة التحرير لتمثيل الفلسطينيين؛ ولم يكن كسر هذا الاحتكار ليحدث من دون المشاركة في السلطة، وهو ما تحقق عام 2006.

شهد العام 2007 حدثين هامين، داخلياً قامت حركة حماس بإحكام قبضتها القوية على قطاع غزة، وحسم صراع السلطة هناك، وما تبعه من حصار للقطاع، وإقليمياً كان الحضور التركي إلى المنطقة برعاية أمريكية، لسحب البساط من تحت الدور الإيراني الذي كان يشهد مداً إقليمياً تزايدت وتيرته بعد حرب 2006 بين حزب الله وكيلها في لبنان وبين إسرائيل، وهذا الحضور التركي انعكس منذ ذلك الحين وصاعداً في صورة تقارب مع كل من سوريا وحركة حماس.

استمر الوضع على هذا الحال بالنسبة لحماس، سلطة محاصرة في غزة؛ تحالف صريح عربياً مع سوريا، وقطر فيما بعد؛ مراوحة برجماتية بين الطرفين الإيراني والتركي، للاستفادة عسكرياً من الأولى، وسياسياً من الثانية؛ مع خصومة سياسية متفاوتة الحدة مع دول محور الاعتدال، بلغت ذروتها في العداء الخطابي إزاء مصر رغم استمرار التنسيق الضمني بين الطرفين في بعض الملفات، وعلى رأسها، بالطبع، سماح السلطات المصرية بعهد مبارك بتكون الأنفاق والعمل بها، والسماح من خلالها بدخول السلاح إلى القطاع. وقد ترسخ هذا الوضع مع حرب غزة الأولى، واستمر بشكل كبير حتى اندلاع الثورات العربية.


بين الجغرافيا السياسية والأيدولوجيا

استمر وضع حماس، كسلطة محاصرة في غزة؛ متحالفة عربياً مع سوريا، وقطر فيما بعد؛ مراوحة برجماتية بين الطرفين الإيراني والتركي؛ مع خصومة سياسية مع دول محور الاعتدال

على هذا النحو تبلورت أولوية حماس في دعم سلطتها في غزة، وكان التحدي بالنسبة لها يتمثل في تجاوز معضلة الجمع بين السلطة والمقاومة، وتجنب تكرار مسار حركة فتح، وهو ما لا يتسع المقام لمناقشته تفصيلياً، لكن يلاحظ من السرد السابق أن حركة حماس منذ تأسيسها وحتى مرحلة حكم غزة لم يكن لها ما يمكن اعتباره دوراً إقليمياً إلا فيما ندر، فعلى العكس من الظروف التاريخية التي واجهتها فتح وفرضت عليها خيارات مفصلية فيما يتعلق بالكفاح المسلح، جعلت البعد الجغرافي / الإقليمي حاضراً في تلك الخيارات، فقد أدى التمركز الداخلي لحماس داخل الأراضي الفلسطينية إلى انحصار أولوياتها في توسيع قاعدتها الشعبية وترسيخ أقدامها في الداخل الفلسطيني، سواء من خلال اتباع نهج المقاومة بغرض تخريب المسار السياسي السلمي، أو عبر ترسيخ سلطتها الناشئة في قطاع غزة.

بعبارة أخرى، كانت أهداف ومصالح حماس منذ تأسيسها متمركزة جغرافياً في الداخل الفلسطيني، وكانت العلاقة بالخارج تتمثل بشكل رئيسي في حشد الدعم السياسي والمالي والعسكري، دون وجود أهداف تجعل من النهوض بدور إقليمي، عبر اتخاذ أراضي الدول الأخرى وصراعاتها ساحة وموضوعاً لهذا الدور، خياراً من شأنه توليد قيمة سياسية مضافة للحركة؛ وهو ما سهّل بدوره عليها التكيف مع تغيرات البيئة الإقليمية بين مرحلة وأخرى بما لا يؤثر بشكل جوهري على أهداف الحركة داخلياً، دون أن يكون هذا التكيف بلا ثمن بطبيعة الحال.

يلاحظ من السرد السابق أن حركة حماس منذ تأسيسها وحتى مرحلة حكم غزة لم يكن لها ما يمكن اعتباره دوراً إقليمياً إلا فيما ندر

إضافة إلى ذلك العامل الخاص بالجغرافيا السياسية، فإن هذه القدرة العالية على التكيف تجد جذورها في الطابع الأممي المميز أيديولوجياً لحركة حماس، بحكم انتمائها الإخواني ورؤيتها للقضية، والذي جعلها على قدر من المرونة في تعاطيها مع الأطراف الخارجية بدون عوائق فكرية تتصل بمفهوم الوطنية، فلم تواجه صعوبة في الذهاب بعيداً في علاقة تحالف مع أطراف خارجية ضد خصومها من الفصائل الفلسطينية، وهو ما ظهر في أكثر صوره فجاجة مع حدوث الانقسام الفلسطيني، وتورط الحركة في اقتتال أهلي في الوقت الذي كانت علاقتها بحلفائها الخارجيين في أوج ازدهارها على مستوى تلقيها الدعم المالي والسياسي والعسكري.

كما فرضت التحالفات الخارجية على الحركة تبعات أخرى فيما يتعلق بعلاقتها مع مصر، فتورطت في احتكاكات خشنة مع الدولة المصرية، كما حدث في واقعة قيام قناص تابع للحركة باغتيال جندي مصري على الحدود المشتركة في الأسبوع الأول من عام 2010، وربما لم تكن العلاقات مع مصر تأخذ هذا المنحى الصدامي الخشن لولا انخراط الحركة في لعبة المحاور في المنطقة، والتي من الطبيعي أن تجبرها في بعض الأحيان على تسديد بعض الفواتير إلى شركائها الإقليميين، على النحو الذي أضر علاقة الحركة بمصر، رغم التنسيق الذي لم ينقطع بين الطرفين في أحلك لحظات العداء والهجوم الإعلامي، وجعل العلاقة بين الطرفين لا تخضع للمحددات الموضوعية فقط والمصالح المشتركة لكليهما، لكنها تأثرت كذلك بلعبة المحاور والأحلاف على المستوى الإقليمي الأكثر اتساعاً، خاصة مع وقوع فلسطين على خط التقاطع بين مختلف المشاريع الإقليمية.

بعد اندلاع الثورات العربية، تغيرت البيئة تماماً، فانفض تحالف الحركة مع سوريا، وأصبحت البيئة الإقليمية أكثر سيولة وتحولاً، وظهر فاعلون جدد من دون الدول في المشرق العربي وسيناء، وعرفت غزة حربين في 2012 و2014، واشتد الحصار على القطاع.

السؤال الآن، هل يكون التحول في البيئة الإقليمية، خلال مرحلة ما بعد الثورات، إيذاناً ببزوغ دور إقليمي للحركة، وانخراطاً أكبر في صراعات المنطقة، بما يساعدها على تحقيق أهدافها ومصالحها؟ وكيف سيلقي عامليّ الجغرافيا السياسية والأيديولوجيا بظلالهما على مستقبل ممارسات الحركة؟