هل لا زال الفكر اليساري حيا؟ 4 مفكرين يجيبونك
تُوجت محاولات تجسيد أفكار كارل ماركس (المؤسس الأشهر للتيار اليساري في العالم) في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1917 بقيام الثورة البلشفية في روسيا، والتي نُظر إليها كحدث زلزل العالم وشقه لنصفين. ولكن مع مرور الوقت أنتجت هذه الثورة نموذجا سلطويا جديدا شديد الدكتاتورية، كما دعم الكثير من الأنظمة الدكتاتورية مثلما دعم بعض الحركات التحررية القومية. ولم يكن النموذج الصيني الذي رفع شعار الاشتراكية إلا نموذجا آخر للرأسمالية (نظام مغلق واقتصاد مفتوح). كل ذلك إضافة إلى أزمات اليسار الحديثة وفشله في بناء بدائل كاملة لا تنجر بالتدريج أثناء توليها السلطة لليمين، جعل من الفكر اليساري يبدو وكأنه أفكار بالية أو سلطوية باسم كفاح الفقراء والمضطهدين، ولم يعد لها من مكان سوى متحف التاريخ.
لكن ربما الفكر اليساري نفسه لم يمت تماما، وما زال هناك إنتاج فكري وأدبي غزير للعديد من المفكرين اليساريين، أيضا هناك العديد من الأحزاب اليسارية التي تغص بها أوروبا وتنجح واحدة تلو الأخرى في الوصول أحيانا للحكم أو قريبا منه.
عن الفكر اليساري الحديث وما ينتج فيه نعرض لكم أربعة مفكرين لديهم زخم هائل من الفكر اليساري، ربما لا نوفي حق بسطه في سطور معدودة.
أنطونيو نيجري
لسنا فوضويين، وإنما شيوعيون، شهدوا كيف أمكن تطوير قمع البشرية وتدميرها بواسطة الحكومات الكبرى الاشتراكية والليبرالية. وشهدنا أيضا كيف أن كل هذا تم طرحه من جديد في الحكومة الإمبريالية، عندما جعلت دوائر التعاون الإنتاجي قوة العمل في مجملها قادرة على أن تؤسس نفسها في حكومة.
أنطونيو نيجري منظر ماركسي ومناهض للحكم الإيطالي، ولد عام 1933. ألّف العديد من الكتب معظم بالمشاركة مع المفكر الأمريكي مايكل هاردت، منها: «انتفاضات: السلطة الدستورية والدولة الحديثة» (1999)، «الإمبراطورية» وهو أهم أعماله حتى أن البعض أطلق عليه: «منافستو القرن الحادي والعشرين»، «الجمهور: الحرب والديموقراطية في عصر الإمبراطورية» (2004).
اتهم بالمشاركة في جماعة الألوية الحمراء التي قامت بقتل رئيس الوزراء الأسبق أالدوا مور، حكم عليه بالسجن ثلاثين عاما لكنه استطاع استغلال الحصانة البرلمانية في الهروب لفرنسا، حيث حاضر في الجامعة بجانب ميشيل فوكو وجاك دريدا، وقرر العودة لإيطاليا فتم تقليص فترة عقوبته لثلاث عشر عاما عام 1997 وداخل السجن ألّف بعض أهم كتبه، قبل أن يطلق سراحه في مطلع الألفية.
قدم نيجري نقدا للرأسمالية يُظهِر أحد شروخها، وهو الشرخ بين العقيدة الرأسمالية وتطبيقاتها، فبينما تتبنّى الرأسمالية التعددية السياسية، إلا أنها تؤدي إلى تكوين سلطة أحادية تسيطر عليها فئة اجتماعية محدودة. يعتبر نيجري واحدا من أبرز الدارسين المعاصرين لسبينوزا، حيث يرى أن سبينوزا هو تنويري راديكالي يقدّم رؤى أكثر مناسبة للعصر الحديث.
سلافوي جيجك
جيجك مفكر نيوماركسي ومحلل نفسي. ولد عام 1949 في ليوليانا سلوفينا. تأثر بتلامذة المحلل النفسي الشهير جان لاكان. نال العديد من الدرجات العلمية وعمل أستاذا زائرا في العديد من الجامعات كجامعتي شيكاغو وكولومبيا. يوصف بغزارة كتاباته، فقد أصدر حتى الآن أكثر من سبعين كتابا متنوعا بين الفلسفة والسياسة والتحليل النفسي والسينما والجنس. نشر أول أعماله عام 1989 بعنوان: «موضوع الأيديولوجيا الرفيع»، وفيه يحلل جيجك أطروحات هيغل بمنظور جان لاكان. وعُرف بعدة كتب مثل «الحياة في زمن آخر».
يرى أن النظرية الماركسية تفتقد للتحليل النفسي لسلوك الأفراد؛ ذلك أن الأيديولوجيا تشتغل على مسارات الأفراد الغرائزية والنفسانية، فمن الأهمية بمكان أن نتوصل إلى صياغة نظرية لتلك المسارات، حيث يختلف مع التعريف الكلاسيكي للأيديولوجيا الماركسية في أن البشر ينساقون بسذاجة مع الرأسمالية جاهلين أنهم مُستغلين. ويرى جيجك «أن البشر يعلمون أنهم يُخدعون ومُستغلين وماذا هم فاعلون وماذا سيؤدي إليه، ومع ذلك فهم يفعلونه». وهنا يطرح مفهوم التشكيكية مكان مفهوم الوعي الزائف؛ ويرى أن تحليل ماركس يتشابه مع أسلوب تحليل فرويد حيث تجاهلا السر وراء الشكل وانشغلوا بسر الشكل ذاته. يتساءل فرويد لماذا تتخذ فكرة كامنة الشكل الذي تتخذه؟ ولماذا تتحول بحيث تتخذ شكل الحلم؟ مثله لا يكترث ماركس كثيرا لتحديد قيمة السلعة من خلال كمية العمل التي يستهلكه إنتاجها بقدر اهتمامه بتفسير لماذا العمل لا يستطيع أن يفرض طابعه الاجتماعي إلا بواسطة الشكل السلعي لمنتوجه؟
يتكلم جيجك عن أربع تناقضات للرأسمالية: الثلاثة الأول يتمثلون في خصخصة المشاعية (أي الفضاءات والمواد المشاعة بين جميع البشر) وهي: الملكية الفكرية كملكية فردية، والتلوث البيئي، أي خصخصة البيئة الخارجية للفرد، وعلم التعديلات الوراثية، أي خصخصة البيئة الداخلية للفرد. أما التناقض الرابع فهو العنصرية الجديدة، وهو التميز العنصري الاجتماعي في المجمتع بين المستبعدين والمستوعبين، ويظهر ذلك في المراكز المدينية بقوة.
من حيث العمل الحركي يتفق جيجك مع أحد تعريفات لينين للثورة باعتبارها تقوم على مرحلتين غالبا: المرحلة الأولى وهي المرحلة التي لا يدرك فيها القائمون على الثورة أن الخطر في مؤسسات الدولة، فتجري محاولات فاشلة للتغيير الديموقراطي من داخلها؛ ثم المرحلة الثانية وهي تغيير مؤسسات الدولة ذاتها. أما بخصوص فشل اليسار فيرى جيجك أن اليسار يفتقد للبديل، فدائما يفتقد اليسار للخطوة، وأن تُعمِل مهاراتك بحسب قدراتك، فمن السهل جمع حشود كبيرة والدعوة للتظاهر ثم ماذا بعد؟ يفتقد اليسار لـ «ما هو بعد» وأن يُشعِر الناس بالتغيرات الحادثة نتيجة لذلك.
ديفيد هارفي
ولد 1935، وهو منظر اجتماعي وماركسي وأستاذ الأنثروبولوجيا والجغرافيا المتميّز في مركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك، ومدير مركز الحيز والثقافة والسياسة، ومؤلف عدد من الكتب الرائدة بينها: العدالة الاجتماعية والمدينة (1973)، حدود رأس المال (1982)، أمكنة الأمل (2000)، موجز تاريخ الليبرالية الجديدة (2005)، مدن متمردة: من الحق بالمدينة إلى الثورة المدينية (2012).
من فكرة تحقق القيمة، انطلقت أفكار هارفي؛ ففائض القيمة بحسب ماركس في الجزء الثاني من كتاب رأس المال يُنتَج في مكان -المصنع- ولكن لا يتحقق إلا في السوق. والسوق بالنسبة لهارفي حاليا هو أماكن السكن، حيث يفرق أغلب الماركسيين بين مكان العمل ومكان السكن ويتركز نضالهم في مكان العمل، في حين أن فائض القيمة لن يتحقق إلا في أماكن السكن، وهنا يصبح الصراع الطبقي أوسع، حيث يستطيع العمال بنضالهم أخذ بعض الزيادات والحوافز في مصانعهم، ولكن الرأسمالية من المرونة بحيث أن تأخذ هذه الزيادة من منازلهم عن طريق إيجار السكن وشراء السلع وفواتير الكهرباء والماء. وهكذا يجب أن يتم التنبيه وتوسعة دوائر الصراع بحيث يشمل أماكن السكن كما العمل.
يهتم هارفي بالمدينة باعتبارها مكان تكتل رأس المال بالإضافة أنها أماكن تحقق فوائض القيمة. فيرى أن النضالات يجب أن تشمل أماكن تكتل رأس المال في كل البلدان، حيث يحاول الرأسماليون الانتشار في أماكن كثيرة وبأشكال مختلفة؛ ولكن هارفي يرى أن هذا بهشاشة الفراشة. فرأس المال لا يتحرك من تكتلاته إلا بمقدار بسيط. هكذا يجب مزاحمة هذه التكتلات، والنضال من أجل مقاومة ظاهرة طرد الفقراء من المدينة إلى الأطراف، التي يراها مركزية في نضالات المدينة، فبداية الانتصار الطبقي يبدأ من البقاء في المدن وطرح مفهوم المساواة والحق في التمتع بمُقدّرات المدينة. وهذا ما حدث بصورة رمزية من حركة احتلوا وول ستريت والمظاهرات التركية.
يرى هارفي أن من عيوب الحركة الماركسية والأناركية، التعصب لشكل دائم من التنظيم، لذا يحب البدء في البحث حول أشكال مختلفة ومتنوعة ما بين هرمية وأفقية حسب طبيعة النضال. كذلك يجب مراعاة عالمية النضال.
شارون سميث
كاتبة وناشطة نسوية ماركسية ولدت عام 1956. برغم قلة مؤلفاتها إلا أنها اشتهرت بكتاباتها النسوية. لها كتاب «النار الخفية: تاريخ الطبقة العاملة الراديكالي»، وهو يتحدث عن تاريخ اليسار في الولايات المتحدة منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى القرن الحادي والعشرين. ولها أيضا كتاب «المرأة والاشتراكية: مقالات عن تحرير المرأة»، ويدرس كيف عالج التقليد الماركسي الكفاح من أجل إنهاء اضطهاد المرأة، وموقفه من النظريات الأخرى.
ترتكز سميث على كتابات ماركس وأنجلز عن الأسرة النواة في نمط الإنتاج الرأسمالي، حيث تقوم المرأة بدور مواطن من الدرجة الثانية لأنها طبقا للتقسيم الرأسمالي للأسرة منوطة بدور الأعمال المنزلية، فهي من جهة لا تُكلِّف رأس المال، ومن جهة أخرى تقوم بتربية جيوش العمال القادمة.
لا تختلف سميث مع التراث الماركسي في أن التحرر الكامل للمرأة سيتم بتحرر الطبقة العامة الذي سيحدث بدوره بالثورة على الرأسمالية؛ ولكن تنتقد سميث بعض مفاهيم الماركسيين عن لا جدوى الحركات النسوية التي ليس لها بعد طبقي، فهي ترى أن النضالات النسوية ستكون في أوجه كثيرة خارج نطاق الكفاح الطبقي للعمال، مشددة على أن المنظومة الذكورية تُوجِّه انتقادات حادة وتحاول تحويل الحركات النسوية لأشكال ساخرة. وتتفق سميث مع ضرورة نقد الحركات النسوية السلطوية التي تقوم على تدعيم فئة معينة من المرأة، هي المرأة من الطبقة البرجوازية الكبري.