هل لا تزال أطروحات «ما بعد الإسلاموية» ذات جدوى؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
لقد مرت الإسلاموية بتحولات كبرى خلال العقد الماضي، حتى أنه قد يصعب كثيرا على المرء اليوم الوقوف على إجابة مباشرة لسؤال تقليدي وهو: «من هو الإسلامي؟». تستند الإجابة بشكل كبير على قصة ما يُعرف اصطلاحا بالإسلاموية. فالإسلاموية الممثَّلة في جماعة الإخوان المسلمين مثلا فقدت جزءا كبيرا مِن وزنها في الشارع في السنوات الأخيرة لصالح عدد من المشاريع الاجتماعية الإسلامية البديلة. فقد استند النموذج الكلاسيكي للإسلام السياسي الحداثي على فكرة أن المرء يُعبّر عن شخصيته الإسلامية من خلال الاشتراك بشكل رسمي في جماعة إسلامية. بعبارة أخرى، أن تكون إسلاميا يستلزم مساحة مستقلة ومنفصلة من الحياة الاجتماعية.
على النقيض من ذلك، فالعديد من البدائل الإسلامية المطروحة اليوم تدور حول أماكن وأنشطة متعلقة بما يقول عنه المُنظِّر الاجتماعي هنري لوفيفر: «عالَم الحياة اليومية». من ثم، يصبح كونك إسلاميا نمط حياة: كيف ينظم المرء احتياجاته؟ ماذا يدرس وكيف يقضي وقت فراغه؟ كل هذا يتم حين ينضم الفرد لمجموعة إسلامية. وبالنظر في المساحة الاجتماعية والسياسية التي تشغلها الإسلاموية الآن، وفي الوقت الذي فقدت فيه جماعة الإخوان المسلمين احتكارها لفكرة تأسيس نظام اجتماعي إسلامي؛ نرى أن وجه الإسلاموية سيتغير بقوة مستقبلا.
ما هي «ما بعد الإسلاموية»؟
هذا الطرح الخاص بالسياسات الإسلامية ارتبط بقوة بأطروحات ما بعد الإسلاموية التي وقف عليهاآصف بيّات وأوليفيه روي منذ منتصف التسعينات على الأقل. وفي حين أن الفضلَ يرجع لبيّات في صك مصطلح «ما بعد الإسلاموية» (في إشارة منه للتوجهات الإيرانية البراجماتية بعد وفاة الخميني)، إلا أن المصطلح تم شرحه وتوضيحه باستفاضة في كتاب أوليفييه روي «فشل الإسلام السياسي The Failure of Political Islam». في هذا الكتاب، يوضح روي أن الإسلام السياسي مِن النوع الذي تقدمه جماعة الإخوان المسلمين بتراثها الإخواني ككل فشل على محورين:
المحور الأول، هو أن الحركة لم تستطع أبدا أن تكون حركة جماهيرية كبيرة تحوز على أصوات الناس بكثافة. كان هذا هو حال الحركة في الوقت الذي كتب فيه روي الكتاب؛ باستثناء الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر التي حققت انتصارا في فترة طباعة الكتاب. فيما بعد، عام 2010، أكدت الأبحاث التي قام بها إجلال نقفي وتشارلز كورزمان أن الأحزاب الإسلامية حصلت على ما لا يزيد عن 8% من الأصوات في الأماكن التي ترشحت فيها، وحتى في الأماكن التي لم تبذل فيها الدولة جهودا للسيطرة على العملية الانتخابية. إلا أن هذا الوضع تغيير بشكل ملحوظ في 2011 و2012 بالنتائج التي وصل لها حزب النهضة في تونس وحزب الحرية والعدالة في مصر. سيتم توضيح هذا بشكل أكبر خلال المقال.
المحور الثاني الذي يتحدث عنه روي مثير حقا للاهتمام. فبينما كانت الحركات والأحزاب الإسلامية تتكيف وتندمج في العمليات السياسية في الدولة القومية الحديثة، لاحظ روي أن تلك الأحزاب والحركات ظلت محافظة على نهج فكري مبهم. المقصود هو أن الإسلاميين واجهوا تدريجيا صعوبات في تقديم «حلول إسلامية» للمشاكل الأساسة في الحكم والاقتصاد. وبالرغم من انتشار شعار «الإسلام هو الحل»، يرى روي أن الحلول التي تقدم بها الإسلاميون لا تختلف كثيرا عن تلك التي تقدم بها يمين-الوسط. يورد روي: «لقد فاز المنطق السياسي على المنطق الديني».
بعد ذلك بعشر سنوات، طوّر روي من مفهوم «ما بعد الإسلاموية» في كتابه «الإسلام المعولم Globalized Islam». في كتابه، يلاحظ روي أن الزيادة في أشكال الورع في العالم الإسلامي صاحبها على النقيض تقهقر التدين من النطاق العام للنطاق الخاص. بعبارة أخرى، قد يكون المسلمون أصبحوا أكثر تدينا؛ لكنهم لم يكونوا مهتمين بأسلمة المجتمع عبر الإسلام المسيس. فالمعايير الإسلامية المرغوب فيها، يدعي روي، كانت تُطبق بشكل خاص وفردي في المقام الأول.
تنظيمات إسلامية من طراز جديد
ولكن إن أردنا أن نتناول بتعمق «ما بعد الإسلامويّة» كمصطلح تبناه المسلمون كنزعة فردية ومنهج سياسي، حيث يتشابك التدين مع الممارسات الاستهلاكية الرأسمالية، قد نُدفع لتجاهل توجهات أخرى لها تأثير في المشهد السياسي الإسلامي. وقد لاحظ دارسون وآخرون أن تحوّل العديد من المسلمين لتبني تعابير ومصطلحات شخصية أكثر فردانية وشخصانية لا يعني بالضرورة رفضًا للفكر الإسلامي. وفي هذا الصدد، لا تزال رغبة المسلمين في العمل الجماعي موجودة مِن أجل تغيير المجتمع نحو نموذج إسلامي مثالي. حتى أن طبيعة وأنماط هذا العمل الجماعي في حد ذاته تتغيّر. ومن هذا المنظور، وبتغيّر طبيعة النشاط الإسلامي عوضًا عن توقفه، أصبح هناك احتمال ظهور تشكيلات ونماذج إسلامية أخرى مِن المرجح أن تكون ذات أهمية متزايدة بالنسبة لمستقبل السياسة الإسلامية:
(1) نهوض المسلمين «صعود حركات اجتماعية جديدة»
وفقا للنماذج العامة، هناك نزاعات غير مركزية في التيارات الإسلامية تتبنى الدعوة والتعبير عن القيم الأخلاقية عوضًا عن السعي لسلطة سياسية رسمية، مثل الحركة الخضراء في أوربا The Green Movement، ونستطيع أن نرى نمو وظهور أنماط مثل تلك الحركة في العالم الإسلامي. فالحركة التي تمحورت حول الإصلاحي والداعية الديني التركي فتح الله كولن هي مثال على ذلك، هناك أيضًا صعود لشبكات ومنظمات عدة ترتبط جذورها بالسلفية.
(2) غرق النشاط الإسلامي في التسلية والترفيه
لقد أصبح بمقدرونا اليوم الإشارة إلى تزايد الهيب هوب الإسلامي، الزي الإسلامي الحداثي وغير ذلك من أشكال الثقافة الشعبية كفضاءات جديدة للمقاومة والتعبير عن النشاط الاجتماعي. لقد تجاوزت تلك الفضاءات التركيز على الهويّة السياسية، ومع ذلك، يجب الإشارة إلى أن بعض مساحات التفاعل بين الإسلام والترفيه قد تكون مساحات ذات تأثير على السياسة التقليدية. فالبرامج التلفزيونية الإسلامية كتلك التي يقدمها عمرو خالد أصبح لها زمرة واسعة من البرامج التي تُحاكيها والتي أصبحت ذات قدرة كبيرة على التعبئة الاجتماعية؛ ويمكن الاستفادة منها كوسائل إعلام «ترفيهية»، تشجع الناس على الانخراط في تغيير البيئة والظروف المحيطة بهم.
(3) المنصات والشبكات مقابل المنظمات الرسمية
لقد وضحت ظاهرة عمرو خالد أن هناك سمة ما أصبحت شائعة ومتزايدة في النشاط الإسلامي (تمامًا كالممارسة في مجالات اجتماعية تحولية أخرى مثل المشاريع الاجتماعية): لقد أصبح هناك رغبة في العمل من على المنابر وعبر شبكة من المراكز بدلا من العمل عبر المنظمات الاجتماعية والسياسية الهرمية الرسمية. والفكرة هنا، أن الناشط يستطيع أن يكون أكثر فعالية باستخدام سرد بسيط ومقنع عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة مثل المواقع، وكُتيّبات «هل تعلم»؛ والتي تُمكن الجماهير من المشاركة بشكل واسع في تحقيق تلك الرؤى. ويمثل هذا النموذج كل من عمرو خالد وتنظيم القاعدة، على الرغم من الاختلاف الشديد بينهما، فقد نجحوا في تعبئة الأشخاص لتحقيق نتيجة جماعية عن طريق جمع أفكارهم وتطلعاتهم في بوتقة واحدة في إطار المشروع المشترك الكبير الذي يجمعهم.
في الحقيقة، هناك زوجين من القواسم المشتركة بين الملاحظات الثلاثة السابقة والتي قد لا تكون مترابطة بشكل واضح في نشاطات ما بعد الإسلاموية:
أول تلك القواسم هي تلك المتعلقة بطبيعة مساحات ومجالات الحياة التي لا تتجزأ منها. والتي يقول عنها آصف بيّات أن الكثير من نشاطات ما بعد الإسلاموية يتخذ شكل «اللاحركة non-movement» -بمعنى أنها تفتقر للتنظيم الرسمي وأجندة الأولويات الصارمة المحددة مركزيا- لأنها تتعلق بمساحات وأنشطة الحياة اليوميّة. وهذه الرؤية للتغيير الاجتماعي تتحاشى السياسة كغاية من وراء هذا النشاط، على سبيل المثال، تشكيل الأحزاب الساسية أو الترشح في الانتخابات. عوضًا عن ذلك، تحاول تلك الجماهير التعبير عن ميولهم السياسية من خلال خيارات وممارسات دنيوية عادية مثل: الأكل، التسوق، الدراسة، العمل … إلخ.
المحور الثاني الذي يجب التركيز عليه، يرتبط بما يُطلق عليه عالم الاجتماع ألبرتو مليتشو Alberto Melucci «شبكات المعنى العام/المشترك Networks of Shared meanings» وهي تلك التي تخلقها تلك الأشكال من النشاط الإسلامي. وعليه، فإن هذا النموذج يرشح إمكانيّة بناء وتغذية أشكال من الحركات الاجتماعية والتي ترتكز، ليس على الصرامة والقيادة والبناء الهرمي، بل على الالتزام المشترك بين مجموعة من الناس تجاه مجموعة كبيرة من القيم والمباديء الاجتماعية، وبالتالي يتسع نطاق تلك الحركات وتتعدد أشكالها، ويتم الانخراط فيها نسبة إلى فرد مؤسس لها، أو سردية جماعية تجمع المشاركين فيها، أو مجموعة من القيم التي يتوحد الجميع تحت رايتها.
بين الاجتماعي والسياسي
ومع ذلك، علينا أن ندرك أن كل ما سبق ليس جديدا. فقد أثبتت أنشطة جماعة الإخوان المسلمين على مدار العقود الثلاث الماضية أن التعبئة الجماهيرية تتحقق عبر بناء قواعد قادرة على التعبئة الاجتماعية التي تبدأ في المقام الأول من المجتمع المدني، الجاليات والطوائف ثم الأحياء والجيران. بصراحة، وبسبب أن أبواب السلطة السياسية الرسمية غُلّقَت في وجه الإسلاميين، فقد جنحَ الإسلاميون إلى إيجاد قنوات جديدة يُمكِن من خلالها ممارسة السلطة الاجتماعية. إلا أن الغاية من وراء تلك الفاعليات ما بعد الإسلاموية في الفضاءات الغير سياسية كانت سياسية أيضًا.
وعليه، نستطيع أن نفهم لماذا رأت الدولة المصرية في برامج عمرو خالد حول تحسين الذات تهديدا سياسيا محتملا
ومع ذك، فقد احتوى نموذج «ما بعد الإسلاموي The post islamist» على اختلافات هامة. فعوضًا عن التغلغل في المجتمع المدني كقناة للوصول لسلطة الدولة الرسمية الغير متاحة لأحد –مثلما كان الحال مع الإخوان المسلمين فيما مضى وفي أعقاب انقلاب يوليو 2013– استثمر ما بعد الإسلامويون جهدهم في فضاءات أنشطة الحياة اليومية لأنهم رأوا أن تلك المساحات والقنوات يمكن من خلالها ممارسة سلطة الدولة. وبعبارة أخرى، مِن خلال توضيح طبيعة التعليم، الاستهلاك والترفيه وربطهم بمفهوم إسلامي ما، فقد دخل ما بعد الإسلامويون في مواجهة مباشرة مع الدولة التي تقولِب وتهيكِل مواطنيها لدعم أجندة معينة. ومن هذا المنطلق، نستطيع أن نرى أن بعض أشكال التعبئة الجماهيرية عند ما بعد الإسلامويين تتحدى احتكار الدولة لقولبة المواطنين وتشكيل آفاقهم ومعاييرهم كما يحلو لها. لذلك وجبَ علينا تقدير مشروع فتح الله كولن المتدرج والمتعدد الأجيال لإخراج كوادر تركية متكيفة مع الدين في المجال العام باعتباره مسعى سياسيا أساسيا. وعليه، نستطيع أن نفهم لماذا رأت الدولة المصرية في برامج عمرو خالد حول تحسين الذات تهديدا سياسيا محتملا.
لقد ظن البعض أن بروز أطروحات ما بعد الإسلاموية، في أعقاب الانتفاضات العربية وبعد أن حقق كل من حزب النهضة والحرية والعدالة انتصاراتهم الصغيرة، هي علامة على دخولنا حقبة ما بعد الإسلاموية وليس خروجنا منها. لكن المدافعين عن ما بعد الإسلاموية أمثال أوليفييه روي اعتصموا بالمباديء الجوهرية للأطروحة، قائلا ما خلاصته: أن الإسلاميين الذين تم انتخابهم ليس لديهم أي مساحة سياسية لتنفيذ أجندة أعمال تركز على الشريعة، حتى أن تلك الأجندة قد تعيق حل الكثير من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي كانت نواة للكثير من الاحتجاجات. وقد تحدث وزراء من حزب الحرية والعدالة أمثال عمر درّاج وزير التعاون الدولي، في فترة رئاسة محمد مرسي، عن قروض صندوق النقد الدولي وليس عن الإسلام.
وعليه، هل لا زالت أطروحات ما بعد الإسلاموية ذات جدوى؟ من الواضح أن هناك العديد من العلماء والمراقبين لم يقبلوا بتلك الأطروحة من الأساس. وإذا كنا ببساطة نسأل ما إذا كانت الأفكار الجوهرية التي شكلت أطروحة ما بعد الإسلاموية دائمة وذات أهمية وفقا للمفاهيم التي تطرحها عن نفسها، فالإجابة نعم. هذا لأن ما بعد الإسلاموية لم تكن أبدا مجرد تلك الأحزاب السياسية ذات الهوية الدينية الموجودة/الناجحة في المجال السياسي العام. بدلا من ذلك، فإن ما بعد الإسلاموية تسعى لفهم العلاقة بين السياسات الإسلامية الشرعية وغيرها من الفضاءات، اللاعبين الفاعلين، الشبكات والحركات التي تحمل أجندات اجتماعية ذات طبيعة إسلامية.