هل يسهم الإخوان في تعزيز وجود النظام؟
هناك إجابة بـ «نعم»، نعم الإخوان يسهمون بشكل غير مباشر في تعزيز وترسيخ وجود النظام. وبعيدًا عن ردود الأفعال الانفعالية التي من نوع «وهل نسكت عن الحق؟»، «وما البديل؟»، «ولن نتهاون ولن نتخاذل». يمكن قراءة المشهد من زاوية أخرى تبدأ بسؤالين:
1. ما هي أهم ركيزة يستند إليها النظام الحالي في وجوده؟.
2. متى يقف النظام عاريًا مرتبكًا أمام الأزمات الاقتصادية والتدهور في السياحة والحالة الأمنية؟.
يمكننا الاستفادة من بعض ما خلص إليه متخصصو علم النفس السياسي لعقد مقاربة بسيطة على واقع الشعب المصري في استجابته لخطاب السلطة وعلاقة ذلك بالإخوان ودورهم:
(1) يعتمد الناس على الصور النمطية العنصرية عندما يرون أنها مناسبة للموقف وخصوصًا عندما لا يكون هناك معلومات متعارضة، كما يميل العقل الإنساني إلى التصنيف وإلى الإجابات السهلة، وهو ما تعنيه نظرية السكيماscheme وهي إحدة نظريات التعصب:
حيث ترد ظاهرة التعصب على الطريقة التي يصنف بها العقل البشري المعلومات، والتي ينطبق عليها الصور النمطية العنصرية والتي تأتي من حاجة الإنسان إلى تبسيط الواقع ووضع الناس والأشياء في أصناف، والتي غالبًا ما تتشكل في الجانب السلبي منها نتيجة لنزعة الإنسان إلى إقامة ارتباطات وهمية بين الأفراد والجماعات التي ينتمون إليها (هوتون، علم النفس السياسي، 2015: 309).
(2) أي سلطة تحتاج إلى عدو، سواء أكانت هذه السلطة متمثلة في نظام حكم أو تنظيم سياسي/ ديني ، وجود العدو يضمن قدرتهم على التأثير على الجماهير، وفي حال عدم وجوده يمكن ببساطة خلقه عن طريق استثارة مشاعر الجماهير وانفعالاتهم كما يفعل الديماغوجيين، كما يقول كانط: «الشعب بحاجة مستمرة إلى ديماغوجيين».
الديماغوجية هي القدرة على كسب تعضيد الناس ونصرتهم عن طريق استثارة عواطفهم واللعب بأحاسيسهم ومشاعرهم، و دفعهم إلى التحرك في اتجاه ما أو الحكم على أمر ما بالرغم من وجود اعتبارات كثيرة موضوعية ترجح عدم التحرك في هذا الاتجاه. وهو ما استطاع النظام فعله مع الإخوان من خلال ارتدائه الحلة الوطنية الشريفة المدافعة عن الأمن القومي أمام العدو اللدود الذي يعيث في الأرض فسادًا على حد قوله، حيث استطاع خلق عدو لـ «مصر» من الإخوان المسلمين، وأصبح «الإخوان» هي الإجابة السهلة التي يفهمها رجل الشارع حين يُسأل النظام عن تدهور الحالة الاقتصادية أو الأمنية.
إنه يفهم جيدًا أنه في حاجة إلى استثارة الجماهير بما زرعه فيهم من عداء لهذا الفصيل، ولن يتوانى عن صنع مشاهد وتركيبها لتكون صالحة لهذه المهمة، فهو مثلاً يهمل أية بيانات تعلن فيها جماعة أنصار بيت المقدس أو تنظيمات أخرى بتبنيها لأية أفكار أو عمليات، وتتمسك بإظهار الإخوان على أنه العدو الوحيد، لأسباب منها:
1. أن شرعيته مرتبطة ببقاء الإخوان كعدو.
2. أنها لا تملك في حقيقة الأمر حلولًا للخروج من المأزق الاقتصادي بعد أن أهملها المجتمع الدولي، ولم يقدم الدعم المنتظر سوى أن تبقى شماعة الإخوان معلقة.
3. أن النظام قد استطاع برمجة شريحة كبيرة من المجتمع المصري على عدة صور ونماذج خلال الفترة الماضية يمكن استخدامها بسهولة مع كل أزمة تمر بها البلاد، مثل الأمن القومي في مواجهة التكفيريين، «حتى لا نكون مثل سوريا والعراق».
حتى أنه من اعتياده الفج على ذلك، بدأ في اتهام شخصيات لطالما وقفت ضد سيطرة الإخوان على نقابة الأطباء وهاجمتهم بشدة مثل الدكتورة منى مينا وكيلة نقابة الأطباء التي تم اتهمامها بأنها تنتمي للإخوان حين وقفت ضد ممارسة الأمن المهينة لطبيب، وعلى إثرها حدث احتجاج من الأطباء وعقدت الجمعية العمومية للأطباء .
وكما حدث في أحداث الدرب الأحمر الأخيرة في فبراير 2016 التي قتل فيها رجل أمن أحد السائقين فثار الأهالي وقطعوا الطريق أمام مستشفى أحمد ماهر بالقرب من مديرية أمن القاهرة . وارتبكت الأجهزة الأمنية وحين حاولت بعض أجهزة الإعلام اتهام الإخوان بأنهم وراء مقتل السائق كان الأمر مستهجنًا بعد تعاطف جماهيري واسع مع القضية والتنديد بالممارسات الأمنية التي ظلت الأجهزة الأمنية تردد أنها فردية.
الأحداث يومية تثير الجماهير وبعيدة كل البعد عن الحاجة إلى تثوير من الإخوان، بل إن الأجهزة الأمنية والإعلامية تقف مرتبكة أمامها وهي غير قادرة على اتهام الإخوان فيها، كما حدث في نوفمبر 2015 في حادثة اعتداء ضابط على طبيب بالإسماعيلية في صيدلية والتي تم تصوير حادث الاعتداء بكاميرات الصيدلية واقتاده إلى القسم واعتدى عليه مرة أخرى فأصيب بأزمة قلبية وفارق الحياة، وتم التعامل مرة أخرى بأنها حالة فردية من الأجهزة الأمنية، وانتشر المقطع وثار الرأي العام.
وغيرها من الأحداث الكثيرة التي تؤكد أن الوضع الاقتصادي والأمني بمصر في حالة يرثى لها. و رغم قناعة الإخوان أن الشعب لن يتحرك ويصفونه أحيانًا كثيرة بأنه شعب «عبيد» و«اعتاد على الذل» إلا أن الأحداث كلها تؤكد أن الجماهير تثور تلقائيًّا أمام تلك الانتهاكات أو الوقوف تضامنًا مع شخصيات ليس لها أي علاقة بالصراع السياسي، كذلك حركة تجاوب الشارع مع تلك المواقف تؤكد أن هناك فتيلًا صغيرًا مشتعلًا في كل بقعة في مصر بسبب سوء الأوضاع بشكل عام، وليس الأمر في حاجة إلى تثوير جماعة أو تنظيم. في ذات الوقت الذي يبرز حالة ارتباك شديدة لدى الأجهزة الأمنية والإعلامية كلما خلت الساحة من (الإخوان) العدو الذي رسمه في أذهان الجماهير، إنه لا يستطيع أن يضع على الطاولة سببًا للانهيارات المتتالية في السياحة والاقتصاد والوضع الأمني.
هل يقبل العقل الجمعي للإخوان الانسحاب الرسمي من المواجهة؟
فلنتخيل أن الجماعة أعلنت أنها تعلم جيدًا أن الشعب بأجمعه يقف في مواجهة نظام قمعي ظالم، وأن الصراع ليس بين الإخوان والنظام ولكنها معركة حقوق وعدل وكرامة، وأنها ليست منشغلة سوى بتضميد الجراح وسلامة المعتقلين في مقابر السجون المصرية، هل سيقبل العقل الجمعي من الإخوان هذا الخطاب وخاصة بعد تأثره طوال الفترة الماضية بخطاب حماسي ومزايدات للتضحية؟، أم سيعتبرونه انسحابًا وضعفًا وخذلانًا؟.
تشكل وعي أفراد الجماعة على شعارات وخطاب تعبيري ينظر إلى أي وضعية ظلم أن المقابل لها هو التضحية إلى آخر رمق وإما النصر أو الشهادة. الصورة الذهنية أو النمطية في اللاوعي لا ترى في تلك الوضعية سوى الصبر والاحتساب والاستمرار في المسير لأنه ابتلاء، ومن هنا يصبح الحديث عن المناوارات السياسية أو التفكير في مسارات أخرى نوعًا من أنواع التصالح أو المهادنة أو خيانة الدماء.
ما هو مفهوم المهادنة؟، وما هو مفهوم النصر المؤزر؟، هل اليوم الذي سيتخلى فيه النظام الحالي عن الحكم هو نصر مؤزر؟، وماذا عن اليوم الذي يليه؟، وماذا عن الذين ماتوا؟، وماذا لو لم يتم محاكمة من قتلهم؟، وهل سيحدث؟، وما الفرق بين الإيمان بعدل الله وبين التفكير بواقعية؟.
في هذه المرحلة من الصعب أن تغير معتقدًا أصيلاً في المكون التربوي لأبناء الجماعة لأنه سيُفهم أنه في سياق مهادنة وسكوت عن الحق، بل ويتم اتهام أي ممن يحاول البحث عن مخرج يضمن سلامة المعتقلين أنه نوع من خذلان الدماء، وتبدأ المزايدات بين المتأثرين بهذا الخطاب في مساحة من الفعل الكلامي أو بعض المحاولات التي لا تتعدى كونها ألعابًا نارية يباركها بل ويزايد عليها أنصار تيار من التيارات المتصارعة داخل الإخوان كمباركة بعض أعمال نوعية تحت اسم العقاب الثوري وما شابه، إلا أن لها مآلًا آخر خطيرًا؛ وهو أنها تضع الإخوان في دائرة المتهم والإجابة السهلة عن كل كارثة تحدث، وهذا ما يريده النظام، بل ربما يعمل على عدم غياب هذه الحالة التي يقتات على وجوده منها، وخاصة أنه لا يريد أن يظهر في مواجهة مع الشعب.
الانسحاب هنا لا يعني التخلي عن الحراك ولكن عن البحث عن دور في ضوء متجرد تماما عن محاولة التمسك بشعارات من باب عدم فقدان الصفوف المؤيدة لكل طرف من أطراف الإخوان المتصارعة داخليًا، وفي ضوء محاولة فهم طبيعة المرحلة وسيكولوجية الجماهير، وعوامل استجابته لخطاب السلطة.
ومن منطلق آخر يمكن الاستفادة من خطاب منتشر بين بعض أفراد الإخوان مثل «أن الشعب المصري لم يكن ليستحق مرسي»، وأنه شعب يستحق ما يحدث له لسكوته عن الظلم، ورغم أن هذه اللغة غير صالحة للنقاش إلا أنه يمكن أن نفترض صحتها جدلاً فيكون منطقًا لإعلان انسحاب الإخوان من «المواجهة المباشرة»، وتكون سببًا وجيهًا لأن يترك الإخوان هذا الشعب يلقى مصيره الذي يستحقه، فإن كانوا فعلاً يستحقون القهر والظلم فسيحدث، وإن تعلموا فربما تكون تباشير الخروج من المأزق.
التمسك بالشعارات يعيق القدرة على المناورة
الحاجة ملحّة لتفكيك هذه الشعارات وهذا الخطاب المسيطر على القواعد والقيادات منعًا لهدر المزيد من الوقت، وتحليًا بالشجاعة في إعلان الموقف والقدرة الحقيقية دون التمترس حول أحلام ورؤى، حفظًا لأرواح الآلاف من المعتقلين والمطاردين الذين يتم تصفيتهم بلا أدنى وجه حق سوى رغبة النظام في أن يكون الإخوان دائمًا الإجابة، كما حدث في تصفية واتهام واعتقال العشرات على إثر قضية مقتل النائب العام حتى يومنا هذا.
حين تكون المعركة غير متكافئة فإنه لا بديل عن المناورة. في هذا العالم لا تصلح الآن سوى المناورات. الحروب هي حروب باردة ينتصر فيها الأذكى والأكثر قدرة على أخذ حقوقه بتفاوض ذكي. التفاوض لا يعني دائماً المهادنة، ولا يعني المصالحة ولا يعني تجاوز الدماء، ولكن يعني القدرة على أخذ حقك بإرادتك الحرة.
سلامة المعتقلين وحفظ النفس دور عظيم أكثر تأثيرًا من فتح قنوات فضائية يتحدث فيها الإخوان إلى أنفسهم ويجترّون شعارات لا جدوى لها، وأكثر تأثيرًا من مؤتمرات في الخارج ليس لها أي صدى في الداخل. الوضع بالغ السوء في المعتقلات وأسر ضحايا الشهداء والمصابين ويحتاج إلى جهود دولية وليس فقط إلى تفرغ منظمات بأكملها. الدور الحقوقي في الداخل والخارج الذي يحتاج إلى المزيد من الاحترافية والقدرة على تخليص تلك الأرواح من يد الظلم والقمع ليس دورًا هينًا. أما النظام الذي يقتات على قهر شعبه فلن يستمر طويلاً وسيبرع في إسقاط نفسه بنفسه ومن داخل الشعب الذي أيده يومًا، بل ومن داخل أذرعه التي ستتصارع فيما بينها، وسيحدث ذلك يومًا ما.