لا تبتعد عن الشمس: كيف يؤثر العزل على صحتنا؟
ها قد مضى أكثر من شهرين على إجراءات العزل والبقاء في المنزل، وقد بدأ جسدك يتصرف بغرابة!
تعاني من الإرهاق والتعب وتشعر بآلام في جسمك دون القيام بمجهود يذكر، تواجه تقلبات في النوم وتعافر لتقع في النوم أو تستيقظ في الصباح بعد رنين لا نهائي للمنبه، هذا إن استيقظت. وأحياناً قد تجتاحك نوبات من الفجع تتبعها نتائج صادمة عندما تضع قدمك على الميزان، لا تزيدك إلا اكتئاباً وخمولاً. ربما كل ما يحدث لك هو علامة على افتقاد جسمك لشيء لا يمكن للبشر الاستغناء عنه، إنها الشمس!
جرعة من الفيتامين
أكثر فضيلة معروفة تهدينا إياها الشمس -بعد الطاقة- هو فيتامين د، لكن الشمس لا تطلق عليك سيلًا من إشعاعات الفيتامين كما يعتقد البعض، بل تعطيك الطاقة الضوئية اللازمة التي يتم امتصاصها عبر الجلد- وبالتحديد أشعة UVB- لتصنيع النواة الرئيسية لمركب الفيتامين (vitamin D3)،الذي يتم تحويلها بواسطة الكبد والكلى إلى الشكل الفيتاميني الأكثر فاعلية، في شيء يشبه عملية البناء الضوئي التي يصنع بها النبات غذاءه.
يذهب فيتامين-د إلى الأمعاء ويعزز من امتصاص الكالسيوم والفوسفات الموجودين في الطعام وترسيبهم في الهيكل العظمي ليحافظ على بنية وصحة العظام. لذلك فإن نقصانه الحاد يتسبب في الإصابة بالكساح في الأطفال وهشاشة العظام في الكبار.
وبما أن فيتامين-د لا يتواجد بكمية تحترم إلا في الأسماك الدهنية مثل السلمون والسردين وزيت كبد الحوت- أطعمة من الصعب أن تتناولها بشكل يومي- وهو موجود بكميات أقل في صفار البيض والكبدة وبعض منتجات الألبان وحبوب الإفطار المدعمة، فإن الشمس تظل المصدر الرئيسي للحصول على الفيتامين في الأطفال والبالغين. وقلة التعرض لأشعة الشمس هي السبب الرئيسي خلف معظم حالات نقصان فيتامين-د.
تشمل أعراض نقصان فيتامين-د الآتي:
- شعور عام بالإعياء والتعب
- آلام العظام والظهر وآلام العضلات
- مزاج سيئ
- ضعف التئام الجروح وتكرر الإصابة بالعدوى، خاصة البرد والأنفلونزا
- تساقط الشعر
يعاني من هذا النقص مختلف الأعراق والأعمار حول العالم، حتى في بلاد الشرق الأوسط التي تغمرها الشمس مثل المملكة العربية السعودية-على عكس المتوقع. ويعود الأمر إلى أنماط الحياة الحديثة التي ترتكز على الأنشطة المستقرة في الأماكن المغلقة، والمناخ الحار الذي يحد من الأنشطة الخارجية خلال النهار، والأسباب الثقافية المتعلقة بارتداء الإناث لملابس غامقة تغطي الجسم بالكامل.
ومن المهم الإشارة إلى أن البشرة الغامقة تعاني صعوبة أكبر في تصنيع فيتامين-د من البشرة الفاتحة، بسبب ارتفاع نسبة صبغة الملانين في البشرة الغامقة، والتي تعمل كواقٍ طبيعي للشمس. أي أنهم يحتاجون لقضاء وقت أطول تحت أشعة الشمس لتصنيع كمية الفيتامين نفسها عند البيض، مما يجعل الأشخاص ذوي البشرة الداكنة أكثر عرضة للإصابة بالنقص.
وبما أن كثيرًا منا أصبح يدرس أو يعمل من البيت نظرًا لظروف انتشار الوباء، فمن البديهي أننا أصبحنا أكثر عرضة لنقص فيتامين-د. إذ قال دكتور أليسون تيدستون، كبير خبراء التغذية في بريطانيا، في مؤتمر صحفي بأبريل الماضي: «مع بقاء الأمة في العزل لإنقاذ الأرواح وحماية النظام الصحي، يقضي الكثير من الناس وقتًا أطول في الداخل وقد لا يحصلون على كل فيتامين-د الذي يحتاجونه من أشعة الشمس. لحماية صحة العظام والعضلات، يجب عليهم اعتبار تناول مكمل يومي يحتوي على 10 ميكروجرام من فيتامين -د».
إلا أن دور فيتامين-د لا يقتصر على صحة العظام فحسب، بل هناك أدلة علمية متزايدة تقترح أنه قد يكون لفيتامين-د فائدة في الوقاية من أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم، وتقليل خطر الإصابة بأمراض المناعة الذاتية مثل مرض السكري (نوع 1)، التصلب المتعدد والتهاب المفاصل الروماتويدي، وحتى بعض أنواع السرطان. وفي الآونة الأخيرة، انتشرت أخبار عن احتمالية الاستفادة منه في علاج كوفيد-19، فهل للأمر أساس من الصحة؟
فيتامين د وكوفيد-19
من إحدى فوائد فيتامين-د المثيرة للانتباه هي الوقاية من الأنفلونزا نوع A، ففي دراسة على أطفال المدارس باليابان، اتضح أن تعاطي 1200 وحدة دولية من فيتامين د 3 يوميًا خلال فصل الشتاء، قلل خطر الإصابة بالأنفلونزا بأكثر من 40% .
وفي تحليل إحصائي شمل 25 تجربة عشوائية، أظهرت النتائج أن تناول مكملات فيتامين-د يومياً أو أسبوعياً يقلل من خطر الإصابة بعدوى الجهاز التنفسي الحادة بنسبة 70% في من يعانون من نقص حاد في فيتامين-د، وبنسبة 25% في بقية المشاركين.
الأمر الذي دفع فريق من الباحثين، من جامعة نورث ويسترن بالولايات المتحدة الأمريكية، إلى إجراء دراسة إحصائية للبيانات المتاحة من 10 دول ضربها فيروس كورونا المستجد، ليجدوا علاقة قوية بين نقص مستويات فيتامين-د وارتفاع نسبة الوفيات من مرضى كوفيد-19.
ويقترح الباحثون أن فيتامين د ينظم عمل الجهاز المناعي ويمنع رد الفعل المبالغ منه تجاه الفيروس الذي يتسبب في التهاب مفرط وتدمير الرئتين، وهو في الأغلب ما يقتل مرضى كوفيد-19. وعلى أساسه فإن الحفاظ على مستويات صحية من فيتامين-د قد يقلل من خطر الوفاة بسبب كوفيد-19 حتى النصف، حسب نتائج الدراسة مع ملاحظة أنه لم تتم مراجعتها مراجعة علمية دقيقة بعد، ولا يمكن الاعتماد على نتائجها في إعطاء أي توصيات طبية.
وفي صدد الأمر، ظهرت، مؤخراً، عدة دراسات تربط بين حدة الإصابة ومعدلات الوفاة ونقص فيتامين-د، إلا أن هذه الدراسات هي دراسات مبنية على مجرد الملاحظة، أي أنها لا تدعم وجود علاقة سببية بين نقصان الفيتامين وحدة المرض. فقد يكون الأمر مجرد علامة مرتبطة بعوامل أخرى كالسن والعرق والحالة المرضية، دون أن يكون للفيتامين تأثير فعلي في التخفيف من حدة المرض. لذا فإنه لا يمكننا القول إن إعادة فيتامين-د إلى المستويات الطبيعية قد يقي من المرض أو يعالجه، دون وجود تجارب سريرية تثبت ذلك. إلا أنه أمر يستحق المزيد من الدراسة والبحث.
وبعيداً عن هذا الجدال، فإن نقصان فيتامين-د في الجسم سواء أكان له علاقة بكورونا أم لا هو أمر غير مرغوب فيه! لذلك فإن اللجوء للمكملات الغذائية لا يبدو أمراً سيئاً، لكن ينبغي التنبيه على أن الإسراف في تناول مكملات الفيتامين خاصة من أكثر من مصدر، قد يتسبب في تسمم وزيادة الكالسيوم على حده الطبيعي مما قد يؤدي في النهاية إلى فشل كلوي، لذا فإن علاج النقص الحاد في الفيتامين يتم تحت إشراف طبيب.
وزيادة الكالسيوم على حده الطبيعي مما قد يؤدي في النهاية إلى فشل كلوي، لذا فإن علاج النقص الحاد في الفيتامين يتم تحت إشراف طبيب.
ذلك في حين أن التعرض لأشعة الشمس بشكل طبيعي لا يمكن أن يتسبب في زيادة مستويات الفيتامين على الحد، لأن عملية التصنيع لها ضوابط تحكمها. بالإضافة إلى ذلك، فإن المكملات الغذائية لن تعوض بالكامل عن افتقار فضائل أشعة الشمس التي تتعدى وجود فيتامين-د!
جرعة السعادة والصحة
التعرض لضوء الشمس هو واحد من أهم محفزات الإيقاع اليومي والساعة البيولوجية التي تخبرنا متى نستيقظ ومتى ننام. فعندما نفتح أعيننا في الصباح على ضوء الشمس، يتم إنتاج السيروتونين أو «هرمون السعادة» الذي لا يحسن فقط من الحالة المزاجية، بل له أيضًا دور في تنظيم عمليات الإدراك، سلوكيات التغذية، القلق، الألم، النشاط الجنسي والنوم. وعندما يحل الظلام يتحول السيروتونين إلى الميلاتونين ليبلغ ذروته بالقرب من منتصف الليل. والميلاتونين هو هرمون ينظم النوم وهو أيضاً مضاد للأكسدة يعمل على تنقية الجسم من السموم ومكافحة الشيخوخة. لذلك فإن كمية الضوء التي تتعرض لها أثناء اليوم قد تؤثر على مستويات وذروة الميلاتونين ومن ثم جودة النوم.
هذا كله يفيد بأن التعرض لأشعة الشمس في الصباح الباكر يمنحك النشاط والانتباه اللازم لأداء وظائفك أثناء اليوم، ويعطيك المستويات الأمثل من الميلاتونين لنوم هادئ. في حين أن التعرض للضوء الاصطناعي قد يخل بهذا الإيقاع اليومي إذ لا يضاهي شدة وسطوع الضوء الصادر من الشمس.
فنجد مثلًا العاملين في أماكن تحتوي على نوافذ تسمح بتخلل ضوء الشمس، يتمتعون بمزيد من النشاط البدني ومدة نوم أطول، من هؤلاء الذين يعملون في أماكن تفتقر إلى نوافذ. كذلك، فإن تعريض عدد من كبار السن في دار المسنين لأشعة الشمس المباشرة بين الساعة 8 صباحًا و10 صباحًا لمدة 5 أيام كان فعالًا في تحسين جودة النوم.
من ناحية أخرى، يرتبط انخفاض مستويات السيروتونين خلال النهار مع تأخر ذروة إنتاج الميلاتونين الليلي بالاضطرابات العاطفية الموسمية (SAD)، وهو نوع من الاكتئاب يأتي مع تغير الفصول، خاصة في أواخر الخريف والشتاء بسبب قصر اليوم ومحدودية ضوء النهار، وتشمل أعراضه:
- الشعور بالاكتئاب معظم اليوم تقريبًا كل يوم وفقد الاهتمام بالأنشطة التي كنت تستمتع بها من قبل.
- طاقة منخفضة وصعوبة التركيز أو الشعور بعدم الراحة والقلق.
- مشاكل في النوم (أرق أو نوم زائد).
- تغيرات في الشهية والوزن بالنقصان أو الزيادة (غالبًا ما تتكون رغبة شديدة في تناول الكربوهيدرات مع زياة الوزن).
- الشعور بالبطء أو الهياج.
- الشعور باليأس أو عدم القيمة أو الذنب.
العلاج بالضوء مع التمارين قد يسهم في تحسين الأعراض وتخفيف حدة الاكتئاب، لا سيما أن كليهما يحفز أيضاً من إفراز مادة البيتا-إندورفين، وهي مادة أفيونية تعطي إحساسا بالنشوة والشعور العام بالصحة والسعادة، مما قد يفسر إدمان الخروج والتمشية في الشمس عند البعض.
أقرأ أيضاً: كيف سيغير نشاط نصف ساعة شكل حياتك
ومثل الاكتئاب الموسمي، فقد لوحظ أيضاً زيادة انتشار ارتفاع ضغط الدم ومتلازمة الشريان التاجي الحادة والسكتة الدماغية كلما ابتعدنا عن خط الاستواء، وأن مستويات ضغط الدم أقل في الصيف منها في الشتاء، دلالة على ارتباط نقصان أشعة الشمس بارتفاع خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
ويفسر الأمر فرضية تقر بأن أشعة الشمس UVA، تسهم في إطلاق مخزون من مركبات أكسيد النيتريك المخزنة بالجلد إلى الدورة الدموية، وهي مادة موسعة للشرايين، تحمي القلب والأوعية من ارتفاع ضغط الدم، وقد تلعب أيضاً دور في كبح زيادة الوزن.
كذلك،يبدو أن التعرض للشمس بشكل منتظم على المدى الطويل (على عكس التعرض المتقطع)، له تأثير وقائي ضد الإصابة بسرطان القولون والمستقيم وسرطان البروستاتا وبعض أنواع سرطان الدم. كل هذه الفوائد- وإن كانت تحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث- فهي كافية لتحثك على إقلاع حياة الفامبير والإختباء من أشعة الشمس لتحصل على قدر من الصحة والبهجة.
كم تحتاج من أشعة الشمس؟
طبقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن التعرض العرضي للشمس من 5-15 دقيقة على اليدين والوجه والذراعين مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعياً خلال أشهر الصيف كافية للحفاظ على مستويات فيتامين-د مرتفعة في معظم الأشخاص الأصحاء.
ولأن للشمس وجهاً آخر قبيحاً قد يسبب الكثير من الضرر، يتراوح من احمرار وحروق إلى شيخوخة الجلد المبكرة وظهور التجاعيد وحتى حدوث سرطان الجلد، فإن معظم الخبراء ومعاهد الصحة ينصحون بتجنب أشعة الشمس خاصة في وقت الذروة بين 10 صباحاً وحتى 4 عصراً، مع ارتداء ملابس ونظارات واقية، واستخدام واقي للشمس بمعامل حماية 30+ على الأقل لحماية المناطق غير المغطاة كالوجه واليدين.
بشكل عام، يزداد خطر الإصابة بسرطان الجلد مع مقدار الوقت الذي يتم قضاؤه تحت أشعة الشمس ومع شدة الإشعاع. ومن الجدير بالذكر أن التعرض المتقطع لأشعة الشمس كما يحدث في الأنشطة الترفيهية مثل حمامات الشمس والرياضات المائية والمصايف في الأماكن المشمسة، يمثل الخطر الرئيسي وراء أخطر أنواع سرطان الجلد «الميلانوما»، وحدوث حروق الشمس يضاعف الخطر. لذلك يتفق الجميع على أنه أياً كان الوقت الذي ستقضيه تحت أشعة الشمس، ينبغي تجنب احمرار الجلد واستخدام الكريمات الواقية.
ومن المنطقي أن تفكر أنه إن كان واقي الشمس يحمي من أشعة UVB، فكيف سيتم تصنيع فيتامين-د؟ نظرياً، من الممكن لواقي الشمس أن يقلل من مستويات فيتامين-د بالجسم، أما عملياً، فإن استخدام واقي الشمس واسع المجال (ضد كل من: UVA, UVB) لا يؤثر كثيراً على تصنيع فيتامين-د في الأشخاص الأصحاء. قد يعود الأمر إلى أن معظمنا لا يضع كمية كافية من واقي الشمس لتحجب أشعة UVB بالكامل أو أننا لا نستخدمه بشكل منتظم، لكن حتى مع الاستخدام الأمثل، يبدو أن الجلد يمتص كمية كافية من أشعة الشمس لتصنيع الفيتامين.
ومع ذلك، يستمر جدل في المجتمع العلمي حول فوائد وأضرار الشمس وما إن كانت التوصيات الحالية التي تشدد في جوهرها على تجنب الشمس بحاجة إلى تعديل. حتى بالنسبة لأنصار الشمس، فإن تحديد نصائح عامة عن الجرعة الكافية من الشمس دون إلحاق الضرر بالجلد ليس بالأمر السهل! ذلك بسبب اختلاف كمية الأشعة المتاحة حسب الموقع الجيوغرافي، الوقت من السنة واليوم، حالة الطقس ومدى التلوث، واختلاف كمية الأشعة التي يمتصها الشخص حسب نوع وصبغة الجلد، العمر، مساحة الجلد غير المغطاة بالملابس، وسلوك التعرض للشمس.
لذلك، فإن الإجابة المتوفرة حالياً قد تكمن في الاعتدال، مع تقدير شخصي للوقت والكم المناسبين بحكمة، دون تجنب الشمس كليةً أو الإسراف في التعرض لها.
أما بالنسبة لظروف الحظر، فلو كنت تعيش في مكان غير مزدحم، لا بأس بالتمشية وتنسم بعض الهواء ما دام أنك تتبع إجراءات المسافة الآمنة وارتداء الماسك الطبي. أما إن كانت الظروف غير مناسبة، فإن الطريقة الأسلم هي الجلوس في الشرفة أو قرب نافذة مشمسة، لكن احرص أن تفتح النافذة لأن أشعة UVB لا تخترق الزجاج، ودع الشمس تشرق أيامك!