لا تحلموا بعالم سعيد: كيف يتحول الثائر إلى ديكتاتور؟
في 15 أبريل/نيسان، تحل ذكرى رحيل الفيلسوف الفرنسي الشهير «جان بول سارتر»؛ رائد الفلسفة الوجودية، المُعارض، المُقاوم، أسير الحرب، الماركسي، الأستاذ الجامعي، وأكثر من ذلك. وهو تعدد يوحي بداهةً بحياة لم تكن هادئة.
كتب في الفلسفة، والرواية، والأدب، كما كان من أكثر المتحمسين للسينما، وحين طُلب منه كتابة سيناريو وافق فورًا، وكتبه تحت عنوان «L’engrenage» أو ما يقابله في اللغة العربية «الترس» أو «العتاد»، غير أنه لم يتحوّل إلى فيلم سينمائي، ولم تستفدِ به السينما الفرنسية ولا غيرها من السينمات العالمية، وتُرجم السيناريو إلى العربية لاحقًا بعنوان: «تاريخ حياة طاغية».
تاريخ حياة طاغية
في دولة نفطية مجهولة بلا ملامح تقريبًا غير أنها مجاورة لإحدى القوى العظمى، وفي عقد مجهول من القرن العشرين، تدور أحداث القصة حول ثورة عمال مصانع البترول، وذلك بسبب الضنك وأحوال المعيشة والفقر المدقع، وفوق كل ذلك تهاوي قطاع البترول الذي تُنتجه هذه الدولة، لكنها لا تستفيد منه شيئًا يُذكر.
تسارعت وتيرة الأحداث في القصة، وتوالت المجريات واحدة تلو الأخرى؛ تظاهُر، فاعتصام، فشغب، فعنف، فمحاصرة للقصر الرئاسي، ومن ثَمَّ الاستيلاء على القصر، لتُعلِن الثورة نجاحها، وتُنصِّب زعيمها- جان أجيرا- رئيسًا للبلاد خلفًا للوصي على العرش.
برع سارتر بتقنياته السردية بإدخال القارئ في أحداث القصة رويدًا رويدًا، ومن كل الزوايا؛ بدايةً من القبض على الزعيم جان أجيرا [الزعيم الثائر] في قصره، ومن ثَمَّ الرجوع –بتقنية الـ FlashBack- إلى الثورة وأسباب نشوبها ورؤية الأحداث من منظور جميع الأطراف، للوصول إلى اللحظة التي مَثَلَ فيها أجيرا أمام المحكمة، ليعرض أسبابه ودوافعه، أو بالأحرى تبريراته للحال المضمحل والأوضاع المتردية التي وصلت إليها البلاد. لنرى كيف تحول جان أجيرا- بطل القصة- من الحالة الثورية ضد الاستبداد والطغيان الداخلي وسياسات الانبطاح للأجنبي، إلى أن يصبح هو ذاته طاغية، ومستبدًا، وراضخًا للضغوط الخارجية، مُنتهجًا نفس سياسات الحاكم الذي ثار عليه منذ سنوات. ليُجسد سارتر نموذجًا للحاكم الواقع تحت تأثير السلطة، أو يمكن القول إنها محاولة لعرض «الصورة الكاملة» وتوضيح الضغوط التي يتعرض لها رجل السلطة الأعلى نفوذًا في الدولة.
ثورة أخرى
تشير أدبيات المدرسة الواقعية إلى غموض نوايا الدول تجاه بعضها البعض، إذ ينطلقون من أفكار تراثية مفادها أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، والأمر نفسه ينطبق على الدول في النسق الدولي، وهي أفكار تعود جذورها إلى المؤرخ اليوناني «ثيوسيديدس» ومن بعده المفكر السياسي الإيطالي «نيقولا مكيافيللي» والفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز»، بخاصة الأخير الذي رأي في «الدولة اللفياثان» دولة نموذجية. وهو ما حاول أجيرا تطبيقه بالفعل، فاستأثر بالسلطة لنفسه، وحكم البلاد بالنار والحديد، ولم يسمح بإبداء أي معارضة حتى من أقرب أصدقائه وزملائه.
مكث جان أجيرا، منذ وصوله إلى القصر، 15 عامًا في الحكم، وبالنظر إلى تعامله مع أهم الملفات ومعالجته للقضايا الشائكة، مقارنة بالنظام السابق، فإن شيئًا لم يتغير تقريبًا، بل ازداد الأمر سوءًا. فالنظام القديم كان واضحًا منذ البداية إنه لا يكترث سوى لمصالحه الخاصة، ومصالح الدولة العظمى المجاورة له المتمثلة في النفط، والتي تضمن له الاستمرار في الحكم ما دام راعيًا لمصالحها. أمّا أجيرا، المُخلِّص، فقد جاء بعد الثورة مُحمّلًا بكثير من آمال وطموحات شعبه، لتصحيح الأوضاع، ورد الحقوق، وبدء عصر جديد من الحريات، وهو ما لم يحدث حتى اللحظة التي مَثَل فيها أمام المحكمة.
كان لأجيرا دوافع وأسباب منعته من تأميم البترول، إذ إن قرار التأميم كان سيعرّض بلاده للغزو من قِبل القوة العظمى المجاورة له بسهولة، نظرًا للتفاوت الشديد في القوة العسكرية بين البلدين. كما أن وتيرة التفاعلات الدولية تدفع باتجاه نشوب حرب عالمية جديدة بين القوتين العظميين، لذلك آثر الانتظار والتريث حتى قيام تلك الحرب، فإذا ما اتخذ قرارًا بتأميم قطاع البترول لا تتعرض دولته لأي غزو نظرًا لانشغال القوى العظمى بمحاربة بعضها. لكنه أدرك أن هنالك عقوبات اقتصادية لهذه القرار، فصوّب تركيزه تجاه مجال الزراعة أولًا لتحقيق الأمن الغذائي.
أراد أجيرا تحديث المنظومة الزراعية، وبدء سياسة إصلاح زراعي والاعتماد على الأسمدة لزيادة الإنتاج، إلا أنها قوبلت بالرفض من قِبل المزارعين، ووصل الأمر إلى تدميرهم للآلات والمعدات الصناعية كالجرارات والمحاريث وخلافها، فأدرك أن عملية إقناع الفلاحين قد تأخذ سنوات، ولم يكن أمامه أي وسيلة أمام اعتراض الفلاحين سوى العنف والقمع، إذ أراد الوصول إلى الاكتفاء الذاتي في أسرع وقت ممكن، حتى لا يجوع شعبه إذا اتخذ قرار التأميم وفُرضت القيود على بلاده.
نتيجةً لسياساته القمعية، هاجمته الصحافة ووصفته بالديكتاتور، لكنه في نفس الوقت لم يكن قادرًا على الإفصاح بنواياه الحقيقية أو توضيح المغزى من قرارته، فلا يمكن أن يخرج للعلن ليقول إننا نفعل ذلك في سبيل التأميم والتصدي للغزو المحتمل. فشن حملة على الصحافة، بدايةً من التضييق والرقابة والمنع، إضافة إلى إغلاق الصحف ومطاردة الصحفيين، وصولًا إلى اعتقال صديقه المُقرَّب والمُعارِض لسياساته، لعدم امتثاله للأوامر واستمراره في نشر المقالات المناهضة للحكم، والتي أججّت المشاعر الثورية، وكانت سببًا رئيسيًا في هياج الشعب لاحقًا، فزج به إلى السجن وعانى حتى الموت.
التحوّل الممنهج
يضع سارتر إجابة هذا السؤال على لسان شخصيته الرئيسية، جان أجيرا، فيقول:
إذ إن الأمور لا تسري وفق الأهواء والتفضيلات، فلا يختار الحاكم وفق إرادته المطلقة، وإنما يُجبر- في نظر سارتر- على الاختيار بين خيارين يتمثلان دائمًا في خيار سيئ وخيار آخر أسوأ، وعليه أن يوازن في اختياره بين المصلحة الوطنية المتمثلة في بقاء الدولة وأمنها في المقام الأول، والقرارات الشعبوية إرضاءً للجماهير.
يجد أجيرا نفسه أسيرًا في ثنائية السيئ والأسوأ؛ إمّا حرية الصحافة وإبداء التساؤلات التي من شأنها إحداث الفوضى، وإمّا القمع حتى تحقيق المراد. إمّا التأميم نزولًا على رغبة الجماهير، وإمّا السير مع التيار ومجاراته للحافظ على بلده من الغزو وتهديد بقائها بشكل مباشر، وهو القرار الذي اتخذه في النهاية، وكان سببًا في هياج الشعب ضده واتهامه بالتآمر والخيانة.
لا تحلموا بعالم سعيد!
انتهت المحاكمة بإدانة جان أجيرا، وتم تنصيب فرانسوا رئيسًا جديدًا للبلاد، وبمجرد وصوله إلى القصر استقبل رسالة من سفير الدولة العظمى المجاورة، مفادها: «إن بلادنا لن تتردد في غزوكم إذا تم المساس بقطاع البترول أو الإضرار بمصالحنا، وكل ما تتمناه حكومتنا أن تظل العلاقات ودية». فما كان من فرانسوا إلا طمأنته بأن امتيازات البترول قائمة لا مساس بها.
وبعد مغادرة السفير، دخل الخادم ليخبر فرانسوا أن وفدًا من عمال البترول في انتظار مقابلته، فطلب منه الرئيس كأسًا من الويسكي أولًا، ثم أمره بإدخال العمال لمقابلته.
تنتهي القصة على ذلك، بنهاية مفتوحة غير مُحدَّدة، رغم كونها موجهة، يتوقع بعدها القارئ ما ستؤول إليه الأحداث من تكرار، والدخول في حلقة مفرغة تؤدي في النهاية إلى نفس النتائج، كما حدث مع جان أجيرا، والوصيّ على العرش من قبله.
الطريق إلى الديكتاتورية
حاول سارتر رسم الصورة الكاملة ليجعل أجيرا رمزًا للديكتاتور العادل، وشيئًا فشيئًا، سيجد القارئ نفسه متعاطفًا مع أجيرا، ومع ديكتاتوريته وسياساته القمعية، نظرًا لنواياه الوطنية. وعلى الرغم من كون مفهوم العدل يتنافى بشكل قاطع مع فكرة الديكتاتورية، فإن مصطلح «الديكتاتور العادل» فرض نفسه بشكل أو بآخر.
وبالاستناد إلى الثنائية سالفة الذكر- السيئ والأسوأ- فإن ديكتاتورًا يهتم لمصالح شعبه أفضل من ديكتاتور لا يكترث سوى بتنمية ثروته الشخصية. وانطلاقًا من الواقع، فالأمثلة على ذلك كثيرة، بعضها نجح في تجربته بلا شك، والآخر فشل فشلًا ذريعًا.
رغم وجود أمثلة لا حصر لها للديكتاتوريين عديمي الفائدة أمثال «بوكاسا» حاكم أفريقيا الوسطى، و«بول بولت» حاكم كمبوديا، وغيرهما ممّن نهبوا ثروات بلادهم ولم يُحرزوا أي تقدم يُذكر. إلا أن هناك أمثلة أخرى مغايرة لا يمكن التغاضي عنها أيضًا؛ إذ لا يمكن إنكار الصعود الصاروخي لسنغافورة مع رئيس وزرائها الأسبق «لي كوان يو»، ونهضة ماليزيا مع رئيس الوزراء «مهاتير محمد»، وعودة التنين الصيني والدب الروسي من تحت الأنقاض إلى الواجهة على يد «شي جين بينغ» و«فلاديمير بوتين»، ليُشكِّلا تهديدًا حقيقيًا للهيمنة الأمريكية ونظامها العالمي أحادي القطبية الراسخ منذ عقود.
ورغم تباين سياساتهم داخليًا وخارجيًا، فإنهم انطلقوا جميعًا من تحقيق المصلحة الوطنية بشكل صارم من دون الالتفات إلى الحقوق والحريات أو بتهميشهما، مع اختلاف توصيف كل منهم لمفهوم المصلحة الوطنية، والتي تُعد مفهوم فضفاض يسهل تشكيله وتحديده بالشكل الملائم، ومن ثَمَّ استخدامه.
حلقات التاريخ المُفرغة
من هذا المنطلق، لم يكن غريبًا أن يؤيّد سارتر المعسكر الشيوعي [الاتحاد السوفيتي والصين]، رغم تجاوزاتهما اللاتي عانى منها الشعبان، من تقويض الحريات والقمع والبطش الذي اشتهرت به الأنظمة الديكتاتورية وقتذاك. فالحاكم- من وجهة نظره- أدرى بخبايا الأمور، وهو الطاهي الوحيد في المطبخ السياسي.
ولكن الغريب فعلًا هي رؤية جان أجيرا، أو سارتر، لما ستؤول إليه الأمور من تكرار، وأن التاريخ حلقة مفرغة، لا مناص ولا هروب من تكراره. وهنا تظهر المفارقة، في أن سارتر ينتمي إلى دولة [فرنسا] أضاف شعبها للثورات نموذجًا جديدًا ذا بُعدٍ تقدمي عكس الثورات التقليدية التي تدور في نفس الفلك.
فالنموذج الثوري التقليدي [الإنجليزي] كان يثور على ملك ليأتي آخر أكثر عدلًا وأخف بطشًا. أمّا النموذج الفرنسي، فتسير فيه الثورة في خط مستقيم، تقدمي، إلى الأمام دائمًا، حيث لا مجال للعودة، فالثورة على النظام الملكي لا تخمد باستبدال الملك، بل بتغيير النظام الملكي نفسه -ملوكًا وحواشٍ- وإقامة جمهورية.