أنا بنت مين يا دادة
بنتي أنا..بنتي بنتي بنتي

موسيقى تصويرية حزينة٬ ثم صوت شادية تشدو موال يمزق نياط القلوب عن الفقر والحاجة والدنيا التي تقسو على الضعفاء فتدفعهم للإتيان بأكثر الأفعال غرابة٬ كأن تبيع أم طفلتها كي تطعم باقي أبناءها وتحاول الخروج من الفقر.

كانت هذه هي التيمة الأساسية لفيلم «لا تسألني من أنا»٬ الذي قامت فيه الراحلة شادية بأداء دور دادة عيشة٬ المرأة الفقيرة التي باعت ابنتها فاطمة (قامت بدورها يسرا). الفيلم دوماً يعرض في سياق الاحتفاء بالأمومة وتضحياتها العظيمة، وعن الخير الذي ينتصر في النهاية ويغلب الطمع والشر. اللافت للنظر أن دادة عيشة كانت تقدم دوماً في ثوب الضحية المسكينة٬ في حين أننا في هذا المقال سوف نحاول أن نرى شخصيتها من زاوية أخرى.


الفقراء يدخلون الجنة

https://www.youtube.com/watch?v=CtOpYd4tuto

نحن نتعاطف -في الغالب- مع الفقراء كنوع من أنواع التطهير الذي يعفينا من المسئولية، وكأننا أدينا ما علينا من واجبات تجاههم بمجرد التعاطف والشفقة. لذلك كان التعاطف دوماً من نصيب دادة عيشة الأم التي تحملت بيع ابنتها والحياة معها على أنها مجرد خادمة٬ الأم التي حرمت من أن تناديها ابنتها بماما وحرمت من حق الانتماء لتلك الابنة وحرمت من كل حقوق وواجبات الأمومة٬ حرمت من كل هذا في سبيل المال الذي كانت في حاجة يائسة له مما جعلها تخالف فطرتها وغريزتها وتتخلى عن أمومتها.

دوماً حوصرت دادة عيشة في ركن المفعول به٬ حرمت من كل شيء ويظل الفاعل مبنيًا للمجهول. نعرف، ضمنياً، أن الفاعل هو الفقر رغم أنه في الحقيقة يمكن أن تكون دادة عيشة هي الفاعل في الجملة٬ هي التي حرمت نفسها من كل شيء في مقابل المال. الفقر كان سبباً مباشراً ولكنها كانت الفاعل على طول الخط٬ على عكس الصورة المتصدرة المشهد من أنها ضحية ومجرد رد فعل قهري للفقر والحاجة.

الفقراء يدخلون الجنة لأنهم دوماً ضحية للفقر لذلك يجب علينا أن نتعاطف معهم٬ خاصة أن شخصية دادة عيشة قامت بأدائها شادية بكل جمالها وطيبتها٬ ومع كل الأغنيات الحزينة التي يعج بها الفيلم٬ أنت رغماً عنك تعاطفت مع دادة عيشة٬ رغم أنه وببعض المنطق فدادة عيشة مخطئة منذ أول مشهد في الفيلم، ولم تكن تستحق هذه النهاية السعيدة الرومانسية.


لماذا كانت مخطئة؟

السينما دوماً جميلة٬ يمكنك أن تتبنى وجهة نظر العمل الفني إذا استطاع أن يبيعك وجهة النظر تلك بحرفية٬ أن يغلف الحمق وضيق الأفق بالجمال والنعومة والرقة. يمكنك أن تشتري أي شيء جميل ولامع خاصة إذا قدم لك مبررات تبدو مقنعة٬ في حين أنك إذا نزعت الفن عن القضية سوف تعرف أنها قضية خاسرة.

دادة عيشة باعت ابنتها مقابل المال وعملت خادمة كي تبقى قريبة من هذه الابنة٬ في حين أنها كان يمكن أن تحتفظ بابنتها وتعمل خادمة في كل الأحوال٬ أو كان بإمكانها ألا تنجب أصلاً كل هؤلاء الأبناء. في الحقيقة كانت دادة عيشة ضيقة الأفق بما لا يقاس٬ في البداية تخلت عن ابنتها للأسرة الثرية٬ ثم تخلت عن أبنائها جميعاً كي تبقى بالقرب من ابنتها المباعة٬ يتجلى هذا في كثير من المشاهد التي تثور فيها ابنتها الأخرى، إلهام شاهين، شاكية اهتمام أمها بالفتاة الثرية المدللة بنت الأغنياء٬ التي لا تعرف أنها أختها.

اقرأ أيضا: «شادية»: الدلوعة والموهوبة والمعتزلة

لم تكن دادة عيشة طيبة كما بدت وكما جملها الفيلم٬ كانت امرأة حمقاء لا تستطيع التفكير بوضوح٬ وترتكب كل الأخطاء بإصرار يثير الإعجاب ثم تصرخ وتبكي شاكية سوء حظها وعدم مساعدة أحد من أبنائها لها وعدم تقدير أي شخص لتضحياتها. كانت ترى نفسها مجبرة طوال الوقت على كل الأخطاء٬ بل ترى نفسها ضحية لم تخطئ لأن قسوة الظروف أجبرتها على الأخطاء٬ وترى نفسها إنسانة نبيلة حاولت تعويض كل الأطراف عن أخاطئها في حقهم وأنها تبذل قصارى جهدها.


شركاء في الجريمة

الفن مرآة المجتمع. عبارة تبدو كليشيهية جداً ومكررة وفاقدة لمعناها٬ إلا أنها حقيقية جداً ككل الكليشيهات التي نسخر منها٬ هذا مجتمع يحتفي بالفقر ولا يعالجه٬ يستخدم المسكنات في معالجة القضايا التي تنجم عن تدني مستوى المعيشة٬ يمنح الفقراء غفراناً وتعاطفاً بدلاً من أن يمنحهم حلولاً لمشاكلهم٬ هذه هي إحدى المشاكل الأزلية لمجتمعنا٬ لذلك فلا يهم السياق الزمني والاجتماعي والسياسي لفيلم «لا تسألني من أنا»٬ فهو يتكرر في مجتمعنا منذ الأزل، وعلى ما يبدو سيتكرر إلى الأبد.

الفيلم يمنح الفقراء وعوداً كاذبة على طول الخط٬ فابن الخادمة تمكن من الالتحاق بكلية الشرطة٬ وتمكنت ابنتها من من الحظو بخطيب ممتاز، وحظي أبناؤها جميعاً بتعليم عال ومناصب محترمة في المجتمع٬ نفس المجتمع الذي أجبر أمهم على بيع ابنتها جراء الفقر والحاجة٬ بل وتربوا جميعاً تربية رفيعة جعلتهم مقدرين تماماً تضحيتها في النهاية نادمين على جرح مشاعرها٬ وحتى ابنتها التي اكتشفت متأخراً أنها ابنتها تمكنت أيضاً من أن تتجاوز صدمتها وتنضم لدفء العائلة المترابطة وتلقن الشاب الجشع وعائلته درساً لا ينساه.

الفيلم لا يقدم قصة امرأة مقهورة بسيطة٬ بل يقدم أفكاراً مغلوطة ومشوهة من خلال شخصية وادعة ورقيقة كدادة عيشة٬ التي خانت أمومتها أكثر من مرة والتي لم تفلح في تمرير شعور واحد إيجابي لأي من أبنائها٬ ومنحها نهاية سعيدة واحتفاء بمجهوداتها كأم عظيمة، وكأن الأخطاء التي ترتكب باسم الفقر لا تندرج تحت بند الأخطاء. وهذا يتكرر في كل يوم٬ بدلاً من أن نعالج المسبب الرئيسي لتلك الأخطاء نغفرها ونغض الطرف عنها ونصنع لها أفلاماً جميلة تظل في ذاكرة المشاهد دوماً مقترنة بالدفء والعذوبة والنبل٬ وبصوت ووجه شادية اللذين لا تمتلك سوى أن تحبهما بلا شروط.