منذ بدء الاحتجاجات العراقية في أوائل أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أعلن رجل الدين الشيعي البارز مقتدى الصدر دعمه لتلك المظاهرات ومطالبها، وبعد فترة دعا أنصاره للانضمام إلى المحتجين وتقديم الدعم لهم. لكن الرجل المثير للجدل دائمًا، والمعروف بمزاجه المتقلب وتحوله المفاجئ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بشكل مباغت سحب دعمه للاحتجاجات، وتطور الأمر إلى ملاحقة أتباعه للمتظاهرين بالسكاكين والأسلحة، لقمع الانتفاضة المستمرة منذ أربعة أشهر.

لمعرفة سبب التغيير المفاجئ في موقف مقتدى الصدر من الاحتجاجات، يحتاج الأمر تتبع المسار من بدايته، بالتحديد من مدينة قم الإيرانية.

مقتل قاسم سليماني، واجتماع مدينة قم

بعد أن اغتالت الولايات المتحدة في أوائل يناير/ كانون الثاني المنصرم، قائد قوة القدس الجنرال العسكري الأبرز في الجمهورية الإسلامية الإيرانية قاسم سليماني، ورفيقه نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، في غارة جوية بطائرة بدون طيار بالقرب من مطار بغداد، كان الجميع داخل العراق يترقب رد فعل الجانب الإيراني على تلك الضربة القوية، وأثرها على العراق الذي سيكون أول المتضررين من تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران.

بعد إحياء الجنازات لكلا القائدين ومراسم التعازي الذي كان مقتدى الصدر من أوائل الحاضرين فيها، ذهب الرجل لتعزية عائلة قاسم سليماني فى منزله بإيران، وهناك اجتمع بقادة الفصائل المسلحة الموالية لإيران داخل الحشد الشعبي، وكبار قادة الحرس الثوري في مدينة قم الإيرانية لبحث آخر التطورات ووضع خطة لتعامل تلك الفصائل مع الولايات المتحدة.

في هذا الاجتماع، أعلن مقتدى الصدر عن ما أسماه المقاومة الدولية بهدف وضع حد للوجود الأمريكي في العراق، وفي نفس الوقت دعا أنصاره لتنظيم مسيرة مليونية في العراق، تطالب بطرد القوات الأمريكية، في يوم 24 يناير.

لبى أتباع الصدر نداءه، وخرج الآلاف منهم للمطالبة بإنهاء الوجود الأمريكي في العراق، وحظيت تلك المسيرة باهتمام وسائل الإعلام الإيرانية، التي وصفتها ببداية عهد جديد بين الصدر وإيران.

خطة إيرانية جديدة تجاه العراق

كانت التغطية الإعلامية الإيرانية للمظاهرات التي دعا لها مقتدى الصدر في أعقاب اجتماعه في مدينة قُم لافتةً للنظر، لاسيما بعد أن تناولت بعض التقارير الإعلامية الإيرانية، ما أُطلق عليه السياسية الجديدة لإيران تجاه العراق.

يقول صحفي إيراني مقيم بطهران، مشترطًا عدم الكشف عن هويته، لـ «إضاءات»: «بعد مقتل سليماني، واستمرار المظاهرات العراقية، كانت المؤسسة السياسية الإيرانية تبحث عن خطة بديلة للتعامل في العراق، لذا لجأت هذه المرة إلى مقتدى الصدر».

وبحسب الصحفي الإيراني، فإن إيران قد أسست لجنة ثلاثية لتنفيذ سياستها الجديدة في العراق، تلك اللجنة مكونة من عناصر من وزارة الخارجية، الحرس الثوري، منظمة الاستخبارات التابعة للحرس الثوري. وتعتمد تلك اللجنة الثلاثية على التعاون مع مقتدى الصدر بعد تقاربه الأخير مع طهران، معتمدة على الاستفادة من شعبية الصدر بين الأوساط الشيعية في العراق.

لكن، لماذا اختارت طهران مقتدى الصدر؟

بغض النظر عن أن هناك تغييرًا طرأ على طبيعة التحالفات بين بغداد وطهران بعد مقتل قاسم سليماني، إلا أن إيران هذه المرة سعت إلى الاعتماد على رجل يتمتع بشعبية كبيرة، لديه قاعدة جماهيرية واسعة، بجانب وضعه السياسي القوي في البرلمان العراقي.

مع بداية الاحتجاجات العراقية، راهنت إيران على النخبة السياسية والجماعات المسلحة الموالية لها لإنهاء الاحتجاجات، أو حتى إيجاد بديل لرئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، لكن فشل المتحالفون مع إيران في حل تلك الأزمة.

كان الصدر وقتها يقف على الجهة المقابلة، إلى جانب المتظاهرين، لكن بدأ الصدر في الميل باتجاه إيران قبل حتى اغتيال سليماني. مصدر مقرب من التيار الصدري، يقول لإضاءات: «منذ أن تعرض مكتب الصدر في النجف للهجوم، وبعدها اغتيال سليماني والمهندس، بدأ الصدر يفكر في البحث عن حماية قوية». وهذا ما أكده موقع جوان الإخباري الإيراني المحسوب على الحرس الثوري، حيث أشار في تقرير له إلى أنه منذ أن هاجمت طائرة أمريكية بدون طيار مكتب مقتدى الصدر في النجف في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2019، وهو يحاول استعادة العلاقات الوثيقة مع طهران.

يرى المراقبون داخل إيران أن كلًا من طهران والصدر يريدان الاستفادة من بعضهما البعض، فالصدر يريد الحماية الإيرانية والدعم المالي والعسكري ومساعدته في إعادة تمركزه كزعيم سياسي وعسكري في البلاد.

في المقابل، تريد طهران الاعتماد على الصدر وقدرته على تشكيل حكومة جديدة وإنهاء أمر الاحتجاجات، ومساعدتها في إنهاء الوجود الأمريكي على الأراضي العراقية، كما صرح المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، أكثر من مرة، بأن الرد الإيراني على مقتل سليماني سيكون بطرد القوات الأمريكية من المنطقة.

المتظاهرون يتهمون الصدر بالخيانة

بعد أن أعلن مقتدى الصدر سحب دعمه وأتباعه من المظاهرات العراقية في ساحة التحرير بالعاصمة بغداد، ومختلف المدن العراقية، اتهم المتظاهرون الصدر بالخيانة، ومحاولة الانقلاب على المظاهرات، بينما جادل البعض بأن الأمر برمته مجرد تمهيد لقمع الاحتجاجات، بعد أن تغيرت بوصلة الصدر تجاه إيران، لتحقيق مكاسب سياسية.

كان الصدر قد أمر «أصحاب القبعات الزرقاء» بالانسحاب من ميادين الاحتجاجات، أصحاب القبعات الزرقاء هم مجموعة من أنصار الصدر المنتمين إلى الفصيل المسلح، سرايا السلام، التابع للصدر أيضًا، وقد كلفهم الأخير بحماية المتظاهرين من هجمات قوات الأمن، ولكي يميزوا أنفسهم عن عموم المحتجين، ارتدوا قبعات بلونٍ أزرق، قالوا إنه لون السلام.

بعد انسحاب أتباع الصدر، تعرضت الاحتجاجات لموجة عنيفة من قبل قوات الأمن، مما زاد من تفاقم الوضع.

عودة الزخم للاحتجاجات بالرغم من الاشتباكات مع أنصار الصدر

بعد الإعلان عن تكليف محمد توفيق علاوي لتولي منصب رئيس الوزراء خلفًا لعادل عبد المهدي، بداية فبراير/ شباط الحالي، صمم الصدر على إنهاء الاحتجاجات العراقية. فلم يكتفِ بسحب دعمه للمظاهرات، لكن أمر أتباعه بالاشتباك مع المتظاهرين والاستيلاء بالقوة على جزء كبير من ميدان التحرير ببغداد.

اشتبك أنصاره أيضًا مع الشباب العراقيين المرابطين في المطعم التركي، المبنى المرتفع المهجور منذ الغزو الأمريكي، والذي اتخذه المتظاهرون من بداية الاحتجاجات كحصن لهم.

كانت محاولات الصدر تلك تهدف إلى إخماد الاحتجاجات بشتى الطرق، لكن في الواقع زادت تلك الاشتباكات من زخم الاحتجاجات، وخرج الآلاف من العراقيين من بينهم طلاب المدارس والجامعات للتأكيد على مواصلتهم الاحتجاج حتى تحقيق مطالبهم.

حيدر أحمد البالغ من العمر 22 عامًا، وأحد المعتصمين في ساحة التحرير، يقول لـ «إضاءات»: «لن يستطيع الصدر وأتباعه إرهابنا، فنحن عازمون على مواصلة الاحتجاج، حتى وإن هاجمونا». في الوقت نفسه الذي كان فيه أتباع الصدر يحاولون طرد المحتجين من ساحة التحرير في بغداد، كان غيرهم في الناصرية يحرقون خيام المعتصمين لطردهم من مراكز اعتصامهم.

قابل المحتجون الأمر بالصمود، ولجئوا لاستبدال الخيام المحروقة بمساكن خرسانية، في مواجهة عنف أنصار الصدر.

ارتفاع وتيرة العنف في جنوب العراق

لم يتوقف اعتداء أنصار الصدر عن هذا الحد، ففي الأيام القليلة الماضية شهدت مدينتا النجف وكربلاء في الجنوب العراقي، مواجهات عنيفة بين المحتجين وأتباع الصدر، الذين قاموا بحرق خيام المعتصمين، ولجئوا لإطلاق النيران الحية، ما أفضى إلى مقتل أكثر من عشرة أشخاص، وجرح مئات آخرين.

يقول أحد شهود العيان من مدينة النجف لـ «إضاءات»: «هاجمنا الصدريون، ومعهم قوات مكافحة الشغب، ملثمون مجهولون، أطلقوا علينا الرصاص الحي، حتى سيطروا بالكامل على ساحات الاعتصام».

تأثير تغيير موقف الصدر على الاحتجاجات

عندما أعلن الصدر سحب دعمه للاحتجاجات العراقية، خشي البعض أنها ستكون البداية لإنهاء الحركة الاحتجاجية، وتراجع أعداد المتظاهرين خوفًا من موجة عنف مستقبلية. يقول الباحث السياسي المقيم ببغداد، كرار حيدر: «تغيّر موقف الصدر، وتسمية رئيس الوزراء الجديد، كلها مؤشرات على نفاد صبر النخبة السياسية في العراق من المظاهرات، ولن يتوانى الصدر عن قمع الاحتجاجات بأي شكل من الأشكال».

على الجهة المقابلة، هناك من يرى أمرًا مختلفًا في التطورات الأخيرة: يرى أن تخلي مقتدى الصدر عن الاحتجاجات، ولجوئه المفاجئ إلى استخدام العنف ضد المحتجين، سيكون سببًا في إصرار الشعب العراقي على مواصلة الاحتجاج.

نورا حسين، ناشطة تبلغ من العمر 35 عامًا، تقول لـ «إضاءات»: «في الأيام الأخيرة، توافد الآلاف إلى ساحات الاعتصام، وخرج الطلاب لتأييد الاحتجاجات مرةً أخرى، فما فعله الصدر كان سببًا في زيادة زخم المظاهرات».

الخوف من العنف المضاد

زيادة المواجهات العنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن وأتباع مقتدى الصدر، والرغبة في إنهاء الاحتجاجات، أثارت مخاوف لدى البعض من لجوء القبائل والعشائر في المدن العراقية المختلفة لاستخدام العنف المضاد، للثأر لدم أبنائهم.

يرى الباحث السياسي كرار حيدر أن استمرار موجات العنف ضد الشباب المحتج لن تستمر بدون استجابة من القبائل لفترة طويلة، فيقول: «السلاح في العراق في يد الجميع، وأخشى أن تصل الأمور إلى نقطة صدام بين الأهالي وقوات الأمن، وتحويل الأمر إلى اقتتال داخلي».

لكن، ماذا عن رئيس الوزراء الجديد؟

بالرغم من تهديد محمد توفيق علاوي العلني، بامتناعه عن أداء مهام منصبه الجديد إذا استمرت الهجمات على المحتجين، إلا أنه مع استمرار تلك الهجمات لم يكن له أي موقف صريح إلى الآن.

بعد اتفاق بين تحالف سائرون بزعامة مقتدى الصدر، الذي يمثله 54 نائبًا في البرلمان العراقي، وتحالف فتح بقيادة هادي العامري الممثل بـ 48 نائبًا، على تسمية محمد علاوي رئيسًا للوزراء، أعلن المحتجون في الشارع رفضهم له.

كان المحتجون قد طالبوا برئيس وزراء جديد، لم يسبق له تولي أي منصب عام، ولا يحمل أية جنسية أجنبية، وغير منتمٍ لأي حزب سياسي، ولم يتوفر أي شرط من هذه الشروط في رئيس الوزراء الجديد.

محمد علاوي، تولى منصب وزير الاتصالات في حكومة نوري المالكي بين أعوام 2006 و 2014، يحمل الجنسية البريطانية إلى جانب العراقية، وبذلك يصبح علاوي أول رئيس وزراء يرفضه العراقيون قبل توليه منصبه.

يرى بعض المحللين داخل العراق أن مهمة علاوي في تشكيل حكومة جديدة مستقلة هي مهمة شبه مستحيلة، فالرجل يتعرض لضغوط كبيرة من ناحية المحتجين في الشوارع، ومن ناحية أخرى تضغط الأحزاب السياسية التي دعمته لتولي منصبه. أكد فرهاد علاء الدين، المستشار السابق لرئيس الجمهورية، أن موقف علاوي ضعيف للغاية، ومن المؤكد أنه لن يتمكن من تشكيل نصف الحكومة على الأقل في الوقت الحالي.

وفقًا لكل المعطيات الحالية للمشهد السياسي العراقي، فعلى الأرجح لن يتمكن علاوي من تشكيل حكومة في المستقبل القريب، ومن الممكن أن يفقد دعم القوى السياسية في أي وقت، لتعود الأمور إلى المربع صفر مرة أخرى.

وبالعودة إلى المحتجين في مختلف المدن العراقية، يبدو أنهم عازمون على استكمال طريق التظاهر، «ليس لدينا بديل سوى استكمال المظاهرات، ليس لدينا أمل في أي شيء سوى الاعتصام»، على حد قول حيدر.