هل جماهير كرة القدم هي من تحتاج إلى التطور «mentally»؟
تحول الأمر إلى ما يشبه الفتنة الطائفية. جموع غفيرة من المؤيدين يقابلها جموع أكبر من المعارضين، وكل منهم يتهم الآخر بالتربص والتطرف. كل هذا بسبب تصريحات هداف البريميرليج في الموسم الماضي، محمد صلاح.
صلاح كما نقول بالعامية «شخص في حاله»، ليس من هواة التفاعل مع ما يحدث في بلده – وهنا الحديث ليس عن الحوادث والوفيات -، ولم يُعرَف عنه اتخاذ مواقف جريئة من قبل، باستثناء حربه الشخصية ضد اتحاد الكرة المصري حول أزمة الرعاية. ومع ذلك استطاع الصراع بين جمهوري الأهلي والزمالك إثارته، فعبر عن تأففه مما يحدث. ثم أتت تلك التصريحات في مؤتمر الرعاية مع أحد البنوك.
بعيدًا عن تعميم مو صلاح لرغبتنا جميعًا في الوصول إلى أهدافنا دون تعب، أو مكانة صلاح تاريخيًا كلاعب وصل إلى ما لم يصل إليه أي من العرب أو الأفارقة من قبل، فإن قصة العقلية والتطور الذهني التي لفت إليها الأنظار تستحق مزيدًا من التركيز، لأن الـ «Mentality» لا تقتصر على المصريين بصفة خاصة أو الجمهور بصفة عامة، بل تمتد لكل جوانب اللعبة بكل جنسياتها.
لا تنسَ زملاء المهنة يا صلاح
تحولت الرياضة إلى وظيفة، وليست وظيفة سهلة كما يخيل إلى البعض. فالفشل شائع والتدرج الوظيفي غير مضمون. ناهيك عن الحوادث أو الإصابات التي بإمكانها تعطيل مسيرتك أو تدميرها. كل هذا جعل الرياضيين يعيشون ضغطًا عصبيًا يؤثر بشكل مباشر على صحتهم الذهنية.
في بحث نُشر في عام 2013، تم اختبار عدد 50 سباحًا يتنافسون على فرصة الانضمام لمنتخب كندا المنافس في بطولة العالم والأولمبياد. قبل بداية المنافسات، كان 68% بالفعل لديهم أعراض اكتئاب «Major Depression Episode»، والتي يمكن تعريفها بفترة تزيد عن الأسبوعين، يصاحبها مشاعر الحزن واليأس، التعب، زيادة الوزن أو فقدان الوزن، التغيرات في عادات النوم، إلى فقدان الاهتمام بالأنشطة. وبعد انتهاء المنافسات، وجد أن نسبة حدوث الاكتئاب تضاعفت لدى 25% من النخبة الأفضل بينهم.
بالطبع ينال لاعبو كرة القدم نصيبهم من تلك المعاناة.ففي دراسة نشرت في عام 2017، تم اختبار 384 لاعبًا محترفًا وكانت نسبة 37% منهم _خلال مدة 12 شهرًا_ تعاني من اضطرابات نفسية شائعة كالقلق أو التوتر أو الاكتئاب. ووفقًا لأرقام الباحثين، فإن الفريق الذي يتكون من 25 لاعبًا، يتوقع تعرض 3 من لاعبيه لتلك الاضطرابات.
وفي هذا الصدد، ترى الجمعية الدولية للطب النفسي الرياضي أن الرياضيين بحاجة للتعليم، والتوعية بصورة أكبر لأنهم أكثر عرضة للمشاكل الذهنية. لذلك فإن الاستنتاج الأول يفيد بأن الرياضيين يحتاجون بشدة «للتطور mentally»، أكثر من الجمهور نفسه؛ لتحمل الضغط ومواصلة المسيرة، خاصةً النجوم الذي يلعبون في المستوى الأعلى لمدة ليست بالقصيرة، وليس عامين فقط. ومن هنا يمكن الانتقال من عقلية الأفراد إلى عقلية الفرق، وتحديدًا حيث يحترف محمد صلاح.
العقلية وأسلوب اللعب
يعبر أسلوب الأداء أيضًا عن العقلية. كل مدرب يمتلك أفكاره الخاصة، وكل دولة تمتلك أسلوبها، التي ينظر لها العالم من خلالها.
في إنجلترا، كانوا يعانون من عقلية متحجرة عفى عليها الزمن. عند استضافة شبكة سكاي سبورتس نجم برشلونة ومنتخب هولندا المعتزل «باتريك كلويفرت»، سأله «جيمي كاراجر» عن السر وراء استمرار هولندا في إنتاج المواهب رغم قلة عدد سكانها. فأجابه:
أدركت إنجلترا أن وقت تطوير العقلية قد حان. في ديسمبر 2014، أطلقت برنامجًا لتطوير كرة القدم، وأطلقوا عليه اسم «England DNA». الهدف الرئيسي حسب ما ذكر في الموقع الرسمي للاتحاد، هو خلق ثقافة جديدة لدى المدربين واللاعبين الإنجليز، داخل وخارج الملعب، حتى يعبروا عن أنفسهم بشكل أفضل من خلال أسلوب اللعب.
التمرد على الكرات الطويلة، الاستحواذ واشتراك حارس المرمى به،تضييق مساحات اللعب لدى الناشئين، للتركيز على لمس الكرة بدلاً من الركض في المساحات الواسعة، والمزيد والمزيد من تطوير العقلية الإنجليزية على مستوى الأداء. لذا يمكننا الخروج باستنتاج ثانٍ يفيد «بتأخر الكرة الإنجليزية mentally»، حتى عهد قريب. ولنزيد من البيت شعرًا، فإن الإنجليز لا يعانون من التأخر في أسلوب اللعب فقط.
في بلاد يلعب بها صلاح
في كل ملاعب العالم، يسعى الجميع لمحاربة العنصرية. لكن في إنجلترا حيث لم يلاحظ صلاح، الأمر مجرد ادعاء بل قد يصل الأمر إلى الاشتراك في ممارستها. في هذا الموسم، تعرض «رحيم ستيرلنج» لهتافات عنصرية في مباراة فريقه ضد تشيلسي. اللاعب الذي كان عضوًا في فريق أعاد إنجلترا إلى الواجهة الدولية – ما عجز عنه جيل لامبارد وجيرارد وبيكهام – لا يستطيع نيل احترام جماهير بلاده.
رد ستيرلنج على ما حدث بتذكير الصحافة الإنجليزية بما فعلته مع لاعبي مانشستر سيتي الشابين «فيل فودين»، و«توسين أديرابيويو». الخبر الأول عن «توسين» نصًا: لاعب مانشستر سيتي الشاب، ذو العشرين عامًا، الذي يتقاضى 25 ألف باوند أسبوعيًا، ينفق ببذخ على منزل قيمته 2.25 مليون باوند رغم أنه لم يبدأ مباراة واحدة في البريميرليج. الخبر الثاني بنفس الصحيفة: نجم مانشستر سيتي الشاب فيل فودين يبتاع منزلًا قيمته 2 مليون باوند لوالدته.
بالتأكيد قد فهمت أن اللاعب الذي لم يُذكَر اسمه في الخبر الأول هو أسمر البشرة كستيرلنج. وقد أراد رحيم أن يلفت أنظار المجتمع الإنجليزي إلى فجاجة الوضع لكن لا حياة لمن تنادي. في عام 2017، نشرت شبكة الإذاعة البريطانية BBC في تقرير لها يفيد بأن عدد المدربين من ذوي البشرة السمراء والأقليات بلغ 22 من أصل 482 مدربًا في الدرجات الأربعة لدوريات إنجلترا.
وختامًا لما يحدث، علق ريو فيرديناند على مستوى ستيرلنج المذهل في هذا الموسم، والذي لا ينال نصيبه من إشادات الإنجليز المعروفة سلفًا بالمبالغة،قائلاً:
لا بأس، هم يمارسون ما يرضي رغباتهم الاستعلائية التي قد تصل إلى حد المرض، لكن لا يجدون من يصفهم بالتأخر العقلي. عقليات اللاعب، والمسئول، والصحفي، والمشجع، جميعها بحاجة «للتطور mentally». لكن التركيز على المشجع الذي لا يقود المنظومة من الأساس، هو مبالغة، أو بالأحرى هو تجرد من مسئوليات فرضتها عليك مكانتك كلاعب تجاه مجتمعك.
أكثر من مجرد رياضي
طالما أدرك لاعب الكرة أو الرياضي مكانته، ونسب لنفسه تأثيرًا قويًا على الناس، فعليه الحذر. «أكثر من رياضي» هو عنوان سلسلة وثائقية لعرض مشوار أحد أنجح اللاعبين في تاريخ دوري كرة السلة الأمريكي للمحترفين NBA، ليبرون جيمس. يرى لاعب لوس أنجلوس ليكرز أن عليه توعية الجميع وإلهامهم خارج الملعب أيضًا؛ لأن الرجل الذي خاض ثمانية نهائيات متتالية، لم يختلط عليه التحفيز والنقد بفعل ضغط النهائيات.
لا بأس بالاعتراف بحاجتنا في الوطن العربي لمزيد من التوعية، ثم ماذا بعد؟ يمكن لصلاح أن يتقدم على كل من سبقه من الأفارقة والعرب بفكرة شبيهة ببرنامج المسؤولية الاجتماعية العالمي التابع لدوري كرة السلة الأمريكي «NBA cares»، والمسئول عن تقديم المساعدات ليس فقط في أمريكا، بل في كل أنحاء العالم. والأمر لا يتوقف على المساعدات المادية، بل يشمل أيضًا الصحة والتعليم.
كما سبق وذكرنا، كل عقليات المنظومة بحاجة للتطور سواء لتطوير الأداء أو لتحمل الضعوط أو لزيادة الوعي، وهذا الأمر لا يعيب. وبالصدفة ستجد كل طرف مسئول عن تطوير عقلية طرف آخر، باستثناء الجمهور. هنا مثلاً، لا يقدم الرياضيون أدوارًا مماثلة للاعبي الـ NBA، ومع ذلك يطالبون جمهورهم بتطوير عقليته بنفسه اعتمادًا على الجهود الذاتية، وكأننا نعيش في مجتمعات مثالية ونحن فقط من نعكر صفوها.