خسائر فادحة: هل تستفيد الدول من استضافة المحافل الرياضية؟
المكان: مدينة ساوبالو- الطريق المؤدي إلى ملعب أرينا كورينثيانز.
الزمان: 12 يونيو/ حزيران عام 2014.
يشعل المئات من المتظاهرين البرازيليين النيران في محاولة منهم لغلق الطريق المؤدي إلى ملعب أرينا كورينثيانز، الذي سيشهد افتتاح بطولة كأس العالم لكرة القدم بالبرازيل بعد ساعات قليلة من الآن.
لم يكن الأمر مفاجئًا، إذ جاء امتدادًا لسلسلة طويلة من التظاهرات على مدى السنوات الماضية، بدأت منذ أعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم، فوز البرازيل بشرف تنظيم البطولة الأهم في اللعبة.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتدت التظاهرات إلى أكثر من 10 مدن في البلاد، بالإضافة إلى إضراب العمال عن العمل في المصانع، وامتلأت شوارع ريو دي جانيرو بلافتات «فيفا، عودي إلى ديارك»، من قبل مجموعات أطلقوا على أنفسهم لقب «كأسنا في الشارع»، حسب ما أفادت به جريدة الجارديان الآن.
تسلل الرعب إلى حفل افتتاح البطولة؛ حيث لم يشهد الحفل الذي استمر لـ 25 دقيقة فقط، وحضره 8 رؤساء دول، بالإضافة للأمين العام للأمم المتحدة، أي كلمات رسمية، سواء من رئيسة البرازيل، أو رئيس الاتحاد الدولي لكر ة القدم، كما هو معتاد في مثل هذه المناسبات؛ تجنبًا لصافرات الاستهجان المحتملة من قبل الجماهير البرازيلية الغاضبة.
كأس العالم الذي يسرقنا
الأمر في البرازيل معقد للغاية بين بلد يعشق لعب كرة القدم، وتعد واحدة من أهم مصادر شهرتها بالأساس، بالإضافة لبعد اقتصادي آخر يتمثل في تصدير آلاف اللاعبين لأوروبا سنويًّا، وما بين دولة تعاني اقتصاديًّا، ويشعر المواطن بها بحالة من عدم الرضاء عن المستوى المعيشي له.
ترى دينيز أدريانا فيريرا، إحدى المتظاهرات ضد استضافة بلادها لكأس العالم، أن استضافة مثل هذه الأحداث، يسرق الأموال من قطاعات أكثر أهمية للمواطن البرازيلي مثل: التعليم والرعاية الصحة والفقر، حيث قالت: «نحن مجبرون على الخروج إلى الشوارع، هذا ليس للبرازيل، إنما للسياح فقط».
وفقًا للأرقام المعلنة في التقرير المالي لكأس العالم 2014، فإن البرازيل أنفقت حوالي 15 مليار دولار، من أجل الاستعدادات الخاصة باستضافة البطولة، بما في ذلك من بناء الاستادات، وتطوير الملاعب، والبنية التحتية لشبكات الطرق والمواصلات، بالإضافة إلى أماكن الإقامة والإعاشة للمنتخبات المشاركة، وكذلك الجماهير المؤازرة لمنتخبات بلادها.
وحصلت البرازيل على تمويل بقيمة 100 مليون دولار فقط من الفيفا في 2015، من أجل تطوير المنشآت الرياضية، ودعم كرة القدم النسائية، بالإضافة إلى مشروعات خاصة بالطب والرعاية الصحية في البلاد.
على الجانب الآخر، فإن الاتحاد الدولي لكرة القدم، قد جنى أرباحًا تقدر بـ 4.8 مليار دولار، نظير مبيعات التذاكر، وحقوق البث وإذاعة المباريات، وعقود الرعاية وخلافه؛ تلك الأرباح التي زادت في كأس العالم في روسيا بنسبة تزيد عن 25%، حيث تخطت الـ 6 مليارات دولار تقريبًا.
نحو مزيد من الديون
إذا حولنا الدفة نحو استضافة دورات الألعاب الأولمبية، فإن الأمر سيكون أشد سوءًا بالطبع؛ نظرًا لأنه الحدث الرياضي الأكبر في العالم، والذي ينتظره المليارات حول العالم كل 4 سنوات، كما أنه يضم ما يقرب من 50 لعبة تتجمع منافساتها في مدينة واحدة. لك أن تتخيل أن البرازيل اضطرت لإنفاق 20 مليار دولار أخرى من أجل استضافة دورة الألعاب الأولمبية في ريو دي جانيرو، وبعد عامين فقط من كأس العالم.
وفقًا للجنة الأولمبية الدولية «IOC»، فإن الدول تنفق ما بين 50 إلى 100 مليون دولار، من أجل حملاتها الترويجية فقط لاستضافة دورات الألعاب الأولمبية، على سبيل المثال: خسرت اليابان ما يقرب من 150 مليون دولار من أجل استضافة دورة الألعاب الأولمبية في 2016، في حين عادت وأنفقت 75 مليون دولار أخرى من أجل استضافة الحدث في 2020.
بالنظر للصورتين السابقتين، نجد الفجوة الكبيرة بين النفقات التي تصرفها الدول، والمكاسب التي تعود من استضافة الدورات الأولمبية؛ مما يؤدي إلى خسائر كبيرة مثلما حدث في أولمبياد لندن عام 2012 حيث وصلت الخسائر إلى 17 مليار دولار، أما في اولمبياد بكين عام 2008 فوصل الرقم إلى 45 مليار دولار. وقد يصل الأمر لحد الوقوع في دين يقدر بمليارات الدولارات من أجل استضافة دورة واحدة فقط، مثلما حدث مع مونتريال بعد استضافتها لأولمبياد 1976، والتي ظلت تسدد في الديون الناتجة عنها حتى عام 2006.
ويرى الاقتصاديون أن استضافة اليونان لأولمبيا أثينا في 2004، كان أحد أسباب إعلان إفلاس البلاد في أزمتها المالية الشهيرة، حيث وصل صافي الدين لنحو 11.5 مليار دولار، بعد بيع ثلثي تذاكر الحدث فقط وهبوط عدد السياح الذين يزورون البلاد بنسبة 12%. فيما يتوقع الاقتصاديون أن استضافة مدينة سوتشي الروسية للأولمبياد الشتوية 2014؛ ستكلف المواطنين الروس دافعي الضرائب ما يقرب من مليار دولار سنويًّا.
مكاسب مزيفة
عندما تفوز دولة ما بشرف تنظيم حدث رياضي كبير؛ يبدأ الحديث دائمًا عن نشوة اقتصادية منتظرة، وتوفير فرص عمل، ومكاسب في قطاعات مثل: السياحة، وتطوير البنية التحتية، وبناء الكثير من المرافق وتطويرها، وغيرها من تلك التوقعات التي ترصدها حكومات الدول المستضيفة، وتترقبها كذلك شعوب تلك الحكومات.
ولكن وفقًا لدراسة قام بها ثلاثة باحثين في قسم الاقتصاد بجامعة «Holy Cross»، عن التأثير الاقتصادي لدورات الألعاب الأولمبية، فإن استضافة الدورات بالمدن، أتاحت أكثر من 7000 فرصة عمل، ولكنها غير دائمة، ولا يوجد لها أي أثر على المدى الطويل، بالإضافة إلى أن 10% فقط من العاملين كانوا من فئة البطالة، في مدن كانت تعاني بشكل كبير من أزمة البطالة في ذلك الوقت مثل: لندن.
المشكلة الاقتصادية الأكبر التي تنتج عن تنظيم تلك الأحداث، هي المنشآت الكبرى التي كلفت أموالًا طائلة، وفي المقابل استخدامها محدود للغاية، وغالبًا ينتهي بانتهاء الحدث، فيما يُعرف بمصطلح الأفيال البيضاء، والتي تشكل عبئًا إضافيًّا على الدول نظرًا لأنها تحتاج صيانة سنوية تُقدر بمبالغ كبيرة دون أي استفادة منها.
يظهر ذلك جليًا في ملعب بكين الوطني، الذي بُني خصيصًا لأولمبياد بكين 2008، ويحتاج لصيانة سنوية 10 ملايين دولار، على الجانب الآخر في أثينا، معظم المنشآت الرياضية التي أُنشئت لأولمبياد 2004، أصبحت الآن مهجورة بالكامل، وبالرجوع إلى كأس العالم في البرازيل، فالاستاد الماراكانا، الذي استضاف المباراة النهائية لكأس العالم 2014، تحول الآن إلى موقف أتوبيسات، بعدما كلف البرازيل أكثر من 550 مليون دولار.
كل ما استعرضناه سابقًا، لا بد أنه سيطرح لك سؤالًا منطقيًّا الآن، ما الذي يدفع الدول للتصارع من أجل استضافة البطولات الرياضية إذن؟
المال من أجل البرستيج
رغم انخفاض عدد الدول التي ترغب في الحصول على شرف تنظيم الدورات الأولمبية الصيفية والشتوية بنسبة تصل إلى 50%، وبرغم الخسائر المالية الكبيرة المتوقعة سلفًا، إلا أنه ما زال هناك دول تتصارع بالفعل من أجل الحصول على ذلك الشرف.
الأمر الذي فسره ستانلي إنجرمان، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، في الورقة التي نشرتها الجامعة الأمريكية، بأن هناك العديد من المدن الأمريكية التي تدفع الكثير من الأموال، من أجل إبراز جودة ملاعبها الرياضية، أو فريقها المحلي الذي ينشط في الدوري الأمريكي، أو شيء آخر مميز في مجال غير الرياضة، بهدف رفع معنويات المواطنين في المدينة، واكتساب اهتمامهم الناس في المدن الأخرى.
فالتفسير هنا لا يتضمن الأمور المالية، ولكنه شأن آخر يتعلق فيما يعرف بـ «البرستيج»، والصورة التسويقية للمدينة، وبنظرة أوسع فهذا الأمر ينطبق على البلدان التي تسعى لاستضافة مثل هذه الأحداث، بالرغم من معرفتهم المسبقة بالخسائر المالية الكبيرة والمحتملة، فهناك شيء آخر يبدو أنه لا يقدر بثمن، لا يمنعهم من إنفاق هذه الأموال الطائلة.