معركة ديو: عندما أنهت البرتغال الهيمنة التجارية المصرية
لم تعُد مياه البحر مياهًا في آخر ذلك اليوم العصيب من عام ١٥٠٩م، بل أصبحت خليطًا من الدماء، واللحم، والنار، والأخشاب المحترقة، وأشلاء التاريخ المبعثرة.
لم يشهد تاريخ تلك البقعة من المحيط الهندي معركةً بحرية طاحنة توازي تلك التي شهدتها قبالة سواحل جزيرة ديو على مقربة من شبه الجزيرة الهندية، يوم 3 فبراير/شباط عام ١٥٠٩م، بين الأسطول البرتغالي الذي كان يعد من أبرز القوى البحرية في العالم آنذاك، وخصمهم الأسطول الإسلامي المشترك، الذي كان عمودَه الرئيس الأسطولُ المملوكي، يعاونه قوات بحرية تابعة لبعض إمارات الهند الإسلامية مثل كاليكوت وجوجارات، تدعمها قوات بحرية رمزية من الأسطول العثماني، مع بعض الدعم من أساطيل جمهورية البندقية صاحبة التجارة الواسعة مع الشرق الإسلامي، وهي التي كانت تعتبر البرتغال منافسًا تجاريًا وسياسيًا بالغ الخطورة.
رغم أن تلك المعركة لم تحظَ بما تستحقه من الشهرة والحيثية، فإن نتائجها المباشرة وغير المباشرة عسكريًا واقتصاديًا، وجيوسياسيًا، قد أسهمتْ بدورٍ لا يُنكر في صناعة تشكيل عالمٍ جديد، بتوازناتٍ مغايرة لما شهدته القرون السابقة.
البرتغال: نشأة إمبراطورية القرصنة العالمية
بدأ ظهور البرتغال كجسم سياسي وعسكري على الخارطة في القرن الحادي عشر الميلادي، في بقعة صغيرة من غرب شبه جزيرة أيبيريا، مستفيدةً من الضعف الشديد الذي اعترى دولة الأندلس الإسلامية وتمزقها فيما عُرِف بعصر «ملوك الطوائف»، بعد أن ظلت تسيطر على وسط وغرب وجنوب شبه الجزيرة لأكثر من ٣ قرون.
لكن ظلت البرتغال لعقود خاضعة لنفوذ الممالك الإسبانية الشمالية القوية المجاورة لها، ولم يتعزَّز استقلالها إلا في القرن التالي حين استغلَّت انهيار دولة المرابطين التي ضمَّت الأندلس والمغرب، فتوسعت في غربي الجزيرة وجنوبها، بمعونة المتطوعين الصليبيين من إنجلترا وإسبانيا والمقاطعات الألمانية والفرنسية الذين شكَّلوا قوةً ضاربةً في مواجهة الهجمات المضادة من دولة الموحدين، وريثة المرابطين، التي لم تغيِّر خارطة الأيبيرية كثيرًا، رغم استعادة الموحدين لأجزاءٍ من جنوب غرب البرتغال.
شهد القرنُ التالي (الثالث عشر الميلادي) الانهيارَ الكبير لدولة الموحدين بعد سنواتٍ من هزيمتها الساحقة في موقعة العقاب (لاس نافاس دي تولوسا) عام ١٢١٢م، أمام الجيوش الإسبانية والصليبية المشتركة، وفي القلب منها القوات البرتغالية. تتابع سقوط الحواضر الإسلامية الأندلسية أمام الزحف المسيحي من الشمال، حتى تضاءل الوجود الإسلامي بحلول منتصف هذا القرن إلى مملكة غرناطة الصغيرة في أقصى الجنوب. استفادت البرتغال، فأحكمت سيطرتها على الجزء الغربي من شبه جزيرة أيبيريا.
بنهاية القرن الرابع عشر الميلادي وبداية الخامس عشر، وبعد ترسيخ وجودها في الجزء الغربي من شبه جزيرة أيبيريا، انتقلت البرتغال بقوة إلى مرحلة التوسع الخارجي. كانت البداية لأسباب دينية وسياسية واقتصادية مع المغرب العربي، حيث مكمن الخطر الذي دهم الوجود المسيحي في شبه الجزيرة، خاصة في عصريْ حكام المغرب من المرابطين والموحدين الذين سيطروا على الأندلس الإسلامية لقرن ونصف، وأرسلوا الجيوش تباعًا من جنوب المضيق إلى شماله لتصد حرب الاسترداد المسيحية ضد مسلمي الأندلس، ونجحوا في تعطيل هذا الزحف الدموي المقدس لقرون. أراد البرتغاليون نقل المعركة إلى أراضي المغاربة، وبالفعل نجحوا في احتلال سبتة عام 1415م.
حاول الأمير البرتغالي هنري الملَّاح احتلال طنجة المغربية عام 1437م دون جدوى، لكنه نجح في حملات أخرى في الاستيلاء على عديد من الجزر قبالة سواحل البرتغال وسواحل غرب أفريقيا. في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، نجح البرتغاليون في الاستيلاء على طنجة عام 1471م مستغلين حالة الضعف والفوضى التي كانت تضطرم في جنبات المغرب الإسلامي الممزق بين دول ودويلاتٍ عدة، وقبلها بأعوامٍ قليلة أحرقوا مدينة الدار البيضاء العامرة بعد أن نهبوها. وبحلول أواخر القرن، كانت الأساطيل البرتغالية قد توغلت جنوبًا لتهيمن على مملكتيْ الكونغو وأنجولا.
شهد عام 1488م حدثًا فريدًا عندما نجح القرصان البرتغالي بارتلميو دياز في الدوران من غرب أفريقيا، حول أقصى جنوب قارة أفريقيا (رأس الرجاء الصالح) وصولًا إلى سواحل شرق أفريقيا. ثم بدأت حمى اكتشاف العالم الجديد مع وصول البحار الجنوي كولمبس إلى سواحل الأمريكيتيْن عام 1493م في خدمة البلاط الإسباني.
خوفًا من تصاعد التنافس السياسي والاقتصادي بين قطبيْ المسيحية الكاثوليكية إزاء تلك الاكتشافات، رعى بابا روما معاهدة توردسيلاس عام 1494م التي قسمت العالم الجديد إلى شطرٍ غربيٍّ للنفوذ الإسباني، وآخر شرقي للبرتغاليين، وهكذا أصبحت أراضي البرازيل الحالية من نصيب البرتغال. كما تقاسم الطرفان لاحقًا المغرب الإسلامي، فلإسبانيا المغربيْن الأدنى والأوسط، وللبرتغال الأقصى، فاندفع البرتغاليون لإخضاع ساحل المغرب المطل على المحيط الأطلنطي حتى مراكش، وسيطروا كذلك على مدينة أغادير أوائل القرن السادس عشر.
اكتظَّت الخزانة البرتغالية بما حملته أساطيل النهب من خيرات العالم الجديد والقارة الأفريقية، مما وفَّر التمويل اللازم للمزيد من تلك الحملات البحرية. ومنذ عام 1497م عندما عبر القرصان البرتغالي فاسكو دي جاما رأس الرجاء الصالح إلى الهند، بدأ اهتمام البرتغال ينصب على تلك المنطقة، حيث تجارة التوابل الثمينة.
بدأت الأساطيل البرتغالية مهاجمة الموانئ الإسلامية على الساحل الهندي، والاستيلاء على العديد من النقاط الحيوية في جنوب شرق آسيا، خاصة تحت قيادة القرصان الشهير ألبوكركي الذي نجح في الاستيلاء على جاوة عام 1510م، ثم هيمن على الملاحة في الخليج العربي عندما استولى على هُرمز عام 1515م، وقام بغزواتٍ عديدة ضد القوافل التجارية والموانئ الإسلامية في الهند والبحر الأحمر وبحر العرب.
دولة المماليك: الغرق إلى المصير الحتمي
لقرنيْن ونيِّف، كانت دولة المماليك بمصر والشام والحجاز واليمن هي الكيان الأقوى في العالم الإسلامي، ومن أبرز ممالك العالم آنذاك. إلى جانب القوة العسكرية الهائلة التي كان عمودها فرسان المماليك، عُزيَت قوة الدولة إلى موقعها الوسيط في مركز ثقل العالم في زمنها الذي ضمن لها السيطرة على معظم خطوط التجارة العالمية بين الشرق والغرب، خاصة الحرير والتوابل، وتحقيق أرباحٍ خيالية من الضرائب المفروضة على تلك التجارات.
حملت أواخر القرن الخامس عشر الميلادي انقلابًا سلبيًا في مصائر الدولة المملوكية. فقد انتهى عصر آخر سلاطين المماليط الأقوياء، الأشرف قايتباي، المنسوبة إليه القلعة الشهيرة بالإسكندرية. تفشى الفساد والاضطراب في أرجاء الدولة، وتصارع الأمراء المماليك على السلطة بمنتهى القسوة، حتى حكم بعضهم لأيامٍ محدودة. ولم تستقر الأوضاع نسبيًا إلا في عهد السلطان قانصوه الغوري عام ١٥٠١م، لكنه لم ينجح في كبح مسار قاطرة الدولة المندفعة نحو المصير التاريخي المحتوم، وبدا أنه قد اتّسَع الخرقُ على الراتق، كما يقول المثل العربي.
تزامن مع الاضطراب السياسي والأمني أن تعرضت دولة المماليك لضربة اقتصادية في الصميم، عندما دار القرصان البرتغالي فاسكو دي جاما عام 1497م عبر طريق رأس الرجاء الصالح، حول قارة أفريقيا، وصولًا إلى الهند، مما فتح المجال أمام الوصول بحرًا من أوروبا إلى الهند وجنوبي آسيا بشكلٍ مباشر، بعيداً عن الخطوط البحرية والبرية في العالم العربي التي يهيمن على معظمها دولة المماليك الشائخة.
هكذا حُرمَت دولة المماليك من الضرائب الباهظة التي كانت تفرضها على تجارة الشرق والغرب، وأضحى من الصعوبة بمكان عليها – خاصة مع الفساد المستشري، وسوء الإدارة – أن تحافظ على مكانتها السياسية والعسكرية كأبرز قوى الشرق الإسلامي، وأن تموِّل حملاتٍ عسكرية بحرية فعَّالة لحماية سواحل ولاياتها المترامية الأطراف، ولتحرس قوافلها التجارية التي غدت غنيمة سائغة للقراصنة البرتغاليين والصليبيين خاصة في البحر الأحمر والمحيط الهندي.
في كتابه «الفتح العثماني للأقطار العربية»، يروي الكاتب السوفييتي نيقولاي إيفانوف كيف أنه لم تقتصر الأخطار التي تجابه السلطنة المملوكية المتداعية على المجال الحيوي الجنوبي الذي اخترقه البرتغاليون، إنما بدأ الخطر الإسباني يزحف بقوة من جهة الغرب، حيث استولتْ الأساطيل الإسبانية بين عامي 1505م و 1510م على معظم السواحل المغربية القريبة من مصر، من طرابلس ليبيا شرقًا حتى مليلية المغربية غربًا، مرورًا بوهران والمرسى الكبير والجزائر وبجاية … وغيرها.
بحر العرب أم بحر البرتغال!
عام 1501م، قصف البرتغاليون بمنتهى الشدة ميناء كاليكوت الهندي حيث كانت ترسو عشرات السفن التابعة للدولة المملوكية، فتأثرت تجارة التوابل كثيرًا وارتفعت الأسعار. عام 1503م، استولى البرتغاليون على سفينة تجارية مملوكية، ثم تجرأوا في العام التالي فهاجموا وأحرقوا ما يقارب العشرين. أرسل السلطان المملوكي قانصوه الغوري رسولًا إلى بابا روما يهدد بتدمير الكنائس المسيحية في فلسطين والشام إذا لم تتوقف هجمات البرتغاليين ضد المصالح الإسلامية، لكن لم يُجدِ هذا نفعًا.
عامي 1504-1505م، تصاعدت الاتصالات بين المماليك وجمهورية البندقية، حليفتهم التجارية الأهم في أوروبا، لبحث كيفية احتواء المد البرتغالي، بالتعاون مع القوى المحلية في الهند. عام 1505م، تصاعدت الهجمات البرتغالية على المصالح التجارية المملوكية بحرًا. إزاء ذلك التدهور، أرسل المماليك حملة بحرية ذلك العام، بقيادة الأمير حسين الكردي، وحصلوا على بعض مدافع السفن من العثمانيين. انطلق الأسطول المملوكي من ميناء السويس نحو ميناء جدة لتحصينه، ثم الاتجاه للتمركز جنوبًا قرب عدن.
رغم ذلك الوجود البحري المملوكي في مسرح الأحداث البحري، تكثَّفت الهجمات البرتغالية عامي 1506م-1507م من الهند شرقًا إلى البحر الأحمر غربًا، وكادت التجارة المملوكية في تلك المناطق أن تتوقف بالكامل. أواخر عام 1507م، توجه حسين الكردي بأسطوله نحو الهند، لمحاربة البرتغاليين المتمركزين في نقاطٍ عديدة على الساحل الهندي، لمحاولة كسر غلواء المد البرتغالي.
عام 1508م، نجح الأسطول المملوكي المكون من 50 سفينة، متحالفًا مع أسطول سلطنة جوجارات الإسلامية الهندية، في تحقيق انتصار استثنائي على البرتغاليين في موقعة شاول التي قُتِلَ فيها ابن الحاكم البرتغالي للهند فرانشيسكو دي ألميدا، فأصرَّ الأخير على الانتقام بشراسة ثأرًا لدماء ابنه، وللسمعة البحرية العسكرية للبرتغال. كان انتصار الأسطول الإسلامي بكلفة باهظة من الخسائر جعلت من الصعوبة بمكان عليه أن يشكل خطرًا كبيرًا على الوجود البرتغالي الذي بقي قويًا في تلك الأرجاء. كذلك لم يعد بمقدور حسين الكردي دفع رواتب بحَّارته، مما دفعهم للتمرد على أوامره أحيانًا.
موقعة ديو البحرية 1509م
قضى الأسطول البرتغالي بقيادة ألميدا الشهور التالية لموقعة «شاول» في تتبع الأسطول الإسلامي قرب سواحل الهند. أوائل فبراير/شباط عام 1509م، تقابل الطرفان قرب جزيرة ديو بالمحيط الهندي، شديدة القرب من السواحل الهندية، والواقعة تحت سيطرة إسلامية. كان الأسطول الإسلامي المكون في أساسه من أسطول حسين الكردي المملوكي أكثر في عدد قطعه البحرية من الأسطول البرتغالي، لكن كان فارق الجودة والتسليح والتكتيك في صف البرتغاليين بشكلٍ تام، إذ كانت غالبية سفن الأسطول الإسلامي من السفن والقوارب الخفيفة.
حاول الأسطول الإسلامي أولًا القيام بهجمات كرٍّ وفر ضد البرتغاليين، قبل أن يستريحوا من الرحلة الطويلة، ولدفعهم إلى مطاردتهم بحيث يدخلون منطقة مدى المدفعية الساحلية لجزيرة ديو. قسَّم البرتغاليون أنفسهم 4 أقسام، وبدأوا هجومهم الرئيس يوم 3 فبراير/شباط، وركزوا على الأجناب ليبتعدوا عن مدفعية الساحل.
التحمت السفن البرتغالية بسفينة القيادة المملوكية، وبدأت اشتباكات ضارية على متنها، حيث دفع البرتغاليون بقواتٍ كبيرة لحسم تلك المعركة بالقضاء على قيادة أسطول عدوهم. استمات المماليك للدفاع ضد البرتغاليين على سطح سفينة القيادة، وغيرها من السفن المملوكية التي التحمت بها السفن البرتغالية، لكن كان فارق التسليح والخبرة والتدريع في صف البرتغاليين، فنجحوا خلال ساعات من ذلك النهار المظلم بالدخان والبارود في تدمير كافة سفن الأسطول المملوكي والاستيلاء على بعضها.
كان الانتصار البرتغالي ساحقًا على كافة المستويات، إذ خسر البرتغاليون حوالي 32 قتيلًا فحسب، ومئات الجرحى، وعددًا محدودًا من السفن، بينما أُفنيَ الأسطول المملوكي، وقُتل الأسرى المماليك بمختلف صنوف الوحشية، حرقًا، وتعذيبًا، وقذفًا بالمدافع. وكانت تلك آخر محاولة بحرية كبرى للمماليك لاستعادة التوازن أمام البرتغاليين في المحيط الهندي، مما فتح المجال لحوالي قرن أمام الهيمنة البرتغالية على تلك الأرجاء الواسعة في السواحل الجنوبية لقارة آسيا.
زادت الدولة المملوكية وهنًا على وهنٍ، فلم تستطِع بعد أقل من 8 سنوات أن تصمد لأكثر من 8 أشهر أمام هجوم سليم الأول العثماني عامي 1516-1517م للاستيلاء على الشام ومصر، قلبيْ الدولة، لتنطوي صفحة السلطنة المملوكية من التاريخ. في العقود التالية ستندلع صدامات بحرية كبرى بين العثمانيين والقوى الأوروبية ومن بينها البرتغال للهيمنة على بحار تلك المنطقة من العالم، خاصة المتوسط والأحمر والخليج العربي، وسيتبادل الطرفان الانتصارات والهزائم، ولكن لهذا حديثٌ آخر.