قصة التيه الإسرائيلي: حل الكنيست إلى ما لا نهاية
انهيار التحالف الحاكم، ثم حل الكنيست لنفسه، فالدعوة لإجراء انتخابات مبكرة. سيناريو بات معتادًا في الشارع الإسرائيلي، إذ يوشك أن يتكرر للمرة الخامسة في أقل من 4 سنوات. لكن أزمة إسرائيل تبدو أعمق، وليست حديثة الولادة بل يبدو عمرها 30 عامًا.
فالأزمات الحكومية والصراعات الداخلية الاجتماعية والسياسية، أسفرت عن أحزاب تنتمي لقطاعات معينة، ولفئات اجتماعية محددة. حتى داخل الأحزاب القديمة بات الانقسام على أساس العرق أو الولاء الديني أمرًا شائعًا.
فحين ننظر لحزب العمل الإسرائيلي، الحزب الذي أسس إسرائيل عام 1948، فسنجده يتلاشى في هذه المرحلة. فلم يعد له قيمة سياسية أو ثقل انتخابي، بسبب ظهور أحزاب أصغر منبثقة عنه، وبسبب انشقاقات مستمرة كل يتجه نحو مصلحته الخاصة. فالأمر أشبه بتآكل إسرائيل داخليًا، لكن طول تلك العقود لم تكن الأزمة بالوضوح والفجاجة التي تشهدها إسرائيل في الشهور القليلة الماضية.
نتنياهو يحرق جميع السفن
البداية القريبة للأزمة الراهنة كانت مع بينيامين نتنياهو في 24 ديسمبر/ كانون الأول عام 2018 حيث دعا لانتخابات برلمانية مبكرة. دعوة نتنياهو جاءت مع فشله في إقرار قانون يسمح بتجنيد طلاب المعاهد الدينية اليهودية. الفشل كان نتيجة متوقعة بعد انسحاب أفيجدرو ليبرمان، وزير الدفاع آنذاك، من التحالف مع نتنياهو.
انسحاب ليبرمان ترتب عليه انسحاب حزبه، «إسرائيل بيتنا»، من التحالف الحاكم، ما ترك نتنياهو لا يمتلك سوى 61 مقعدًا برلمانيًا بعد أن كانوا 120 مقعدًا. وبناءً على تلك الدعوة أجريت الانتخابات مبكرًا بضعة شهور، بدلًا من نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 أُجريت في أبريل/ نيسان 2019.
توقع نتنياهو أن تساعده الانتخابات المبكرة في استعادة سيطرته على البرلمان، لكن أتت النتائح بما لم يشتهِ نتنياهو. أسفرت نتائج الانتخابات، رقم 21 في تاريخ إسرائيل، عن تساوي حزب نتنياهو، «الليكود»، مع حزب «أزرق أبيض» بقيادة بيني جانتس. وحصل كل منهما على 35 مقعدًا فقط.
بات نتنياهو في مأزق ضخم، فليكوّن الائتلاف الحاكم عليه أن يحصل على نسبة 50% + 1، أي 61 مقعدًا. لكن الانقسام العميق الذي أنجبته الانتخابات جعل من تلك الخطوة أمرًا مستحيلًا. لذلك لم يمر سوى أسابيع قليلة وإذ بالكنيست يُصوت على حل نفسه. ثم التوجه لانتخابات ثانية في سبتمبر/ أيلول 2019. لتُعد بذلك تلك سابقة تجري فيها انتخابات تشريعية مرتين متتاليتين في نفس العام. كما أنها كانت سابقة لكون الكنيست هو من صوت على حل نفسه قبل تشكيل الحكومة.
الانتخابات رقم 22 في تاريخ إسرائيل جرت يوم 17 سبتمبر/ أيلول، وسط رهان، أو أمنيات، أن تزيد مقاعد نتنياهو كي يستطيع تشكيل الحكومة. لكن للمرة الثانية في نفس العام يصطدم نتنياهو بحقيقة أن شعبيته تنخفض باضطراد، فقد حصد الليكود 32 مقعدًا فقط، وتفوق عليه أزرق أبيض بـ33 مقعدًا. تدخل الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، وكلّف نتيناهو بتشكيل الحكومة، رغم الخسارة البرلمانية الواضحة.
الكنيست يحل نفسه مجددًا
كان فشل نتنياهو في تشكيل الحكومة أمرًا متوقعًا، ليس بسبب الأقلية البرلمانية التي حصل عليها فحسب، بل بسبب قضايا الفساد التي كانت تلاحقه. تلك القضايا كانت المبرر الذي استخدمه أزرق أبيض لرفض التحالف معه في تشكيل الحكومة. بعد شهر من المحاولات رفع نتنياهو تقريره للرئيس بأنه غير قادر على تشكيل حكومة. بالتالي صار لزامًا تكليف جانتس بتشكيل الحكومة، ومنحه 28 يومًا للنجاح في تلك المهمة.
في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني انتهت المدة، وفشل جانتس فيما فشل فيه نتنياهو. أُعطيت مهلة لـ11 ديسمبر/ كانون الأول لأي عضو من أعضاء البرلمان يستطيع الوصول لتوافق يمكّنه من تشكيل حكومة. لكن حلّ الموعد ولم ينجح أحد في تشكيل الحكومة. لذلك اجتمع الكنيست مرة أخرى، وصوّت للمرة الثانية على حل نفسه، على أن تُجرى انتخابات جديدة في مارس/ آذار 2020.
في التاريخ المحدد أُجريت الانتخابات رقم 23 في تاريخ إسرائيل. صادفت تلك الانتخابات تفشي وباء كوفيد-19، فتأثرت نسبة المشاركة فيها. كما كان الملل قد بدأ يتسرب لنفوس الناخبين بسبب تكرار الانتخابات، وتهم الفساد التي باتت مؤكدة على نتنياهو. فأصبح الكرة الآن في ملعب الأحزاب المنافسة لنتنياهو لا في ملعب الناخبين. لذلك قرر خصوم نتنياهو بالكامل التحالف ضده لإزاحته من المشهد. حتى ليبرمان دخل في التحالف وقرر منح أصوات حزبه لجانتس، فبات تحالف جانتس مسيطرًا على 62 مقعدًا، بينما لنتنياهو 58 مقعدًا فحسب.
جانتس لم يرد أن يغامر بإزاحة نتنياهو عن المشهد بشكل كامل. فالقائمة العربية المشتركة، وحزب إسرائيل بيتنا المتطرف، كان طرفي نقيض، وكونهما في ائتلاف واحد أمر لم يكن مطمئنًا لجانتس فقرر أن يدخل في ائتلاف حاكم مع نتنياهو. وبناءً على ذلك الائتلاف يتناوب الاثنان على رئاسة الوزراء. ويصبح جانتس هو رئيس الوزراء حتى نوفمبر/ تشرين الثاني 2021.
ليس هناك مستقبل للمعارضة
أدت الحكومة الجديدة اليمين الدستورية في مايو/ آيار 2020. وتم الاتفاق على إجراء انتخابات جديدة بعد 3 سنوات. لكن الضربة جاءت لهذا الائتلاف من جانب آخر. فالقانون الإسرائيلي ينص على أنه إذا لم يستطع البرلمان إقرار موازنة الدولة لعام مُعين بحلول 23 ديسمبر/ كانون الأول من نفس العام، فيجب على الكنيست حل نفسه، والدعوة لانتخابات جديدة في 23 مارس/ آذار من العام التالي. وبما أن الكنيست قد فشل في إقرار موازنة الدولة لعام 2020 قبل الموعد النهائي الذي حدده الدستور، حلّ الكنيست نفسه، ودعا لانتخابات مبكرة في 23 مارس/ آذار 2021.
الانتخابات رقم 24 في تاريخ إسرائيل أجريت في التاريخ المحدد. انهارت شعبية أزرق أبيض بعد تحالف مع نتنياهو. بات حزب يش عتيد، هنالك مستقبل، أقرب منافس لنتنياهو. لكن رغم ذلك حصل على 17 مقعدًا، بينما حصل الليكود على 30 مقعدًا. رقم كبير مقارنة بـيش عتيد، لكنه ليس كافيًا أيضًا لتشكيل حكومة.
يحصل نتنياهو على فرصة جديدة بتكليف من الرئيس لتشكيل حكومة في غضون 28 يومًا. يحاول نتنياهو هذه المرة اللعب على وتر الأحزاب الصغيرة والمهمشة، يستميلها كي تمنحه الأغلبية التي يريد لتشكيل الحكومة. لكنه يفشل مرة أخرى في تشكيل الحكومة. انقضت المدة، فكلّف الرئيس الإسرائيلي يائير لابيد، رئيس يش عتيد، بتشكيل الحكومة.
قرر لابيد تشكيل ائتلاف متنافر، لكنه سماه ائتلاف التغيير. هذا الائتلاف ضم أحزاب من اليسار والوسط واليمين المتطرف والقائمة العربية. كادت الأحزاب العربية تنضم للتحالف لكن تزامن التشكيل مع العدوان الجديد على غزة في مايو/ آيار 2021. غقبة جديدة، لكنها بعد شهرين تم تجاوز الأمر ونجح لابيد في إعلان حكومته رسميًا بفارق صوت واحد فقط. وبذلك أُطيح بنتنياهو تمامًا من المشهد بعد سنوات طويلة من السيطرة على الحكومة الإسرائيلية.
إسرائيل تدخل التيه السياسي
لكن بعد إزاحة العدو المشترك من المشهد بانت الاختلافات الجوهرية بين القوى المتحالفة. فانشق عدد من النواب عن الحكومة. إديت سليمان، من حزب يمينا، استقالت من البرلمان. فأصبحت الكفة 59 صوتًا لصالح الائتلاف وخصومه. في مايو/ آيار 2022، استقالت غيداء زعبي، بحجة أن الائتلاف اتخذ موقفًا متشددًا ضد القضايا الفلسطينية الإسرائيلية. بالتالي بات الائتلاف أقلية، لكنها عدلت عن استقالتها بعد 3 أيام. كادت الأمور تستقر حتى جاء 13 يونيو/ حزيران باستقالة نير أورباخ من يمينا كذلك.
بالتالي لم يعد أمام لابيد مفر من تقديم مقترح لحل الكنيست، على أن يصبح هو رئيس وزراء مؤقت بعد الحل لحين الانتخابات الجديدة. في 29 يونيو/ حزيران 2022 حلّ الكنيست نفسه، ومن ثم أصبح لزامًا إجراء انتخابات برلمانية للمرة الخامسة والعشرين في تاريخ إسرائيل، والخامسة في أقل من 4 سنوات. موعد تلك الانتخابات يُحدد من قبل الدستور بأن تكون بعد 90 يومًا من حل الكنيست، أي في أواخر سبتمبر/ أيلول 2022.
تيه سياسي لا يبدو له آخر. فاستطلاعات الرأي لا تعطي مؤشرًا جيدًا لقرب انتهاء الأزمة. فالنتائج قالت إن كتلة اليمين الإسرائيلي ستحصل على 59 صوتًا. بينما تحصل كتلة التغيير على 55 صوتًا، بدون القائمة العربية. فإذا انضمت الكتلة العربية لكتلة التغيير فستصبح النتيجة 59 صوتًا لكلا الطرفين. ما يعني العودة لنقطة الصفر مرة أخرى.
وفي تلك النقطة أصبحت كل الشعارات غير مقنعة للناخب الإسرائيلي، فحماية إسرائيل من إرهاب غزة، والقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وغيرها من الشعارات التي كانت تجذب الناخبين سابقًا، لم تعد تجدي حاليًا. فالقوة السياسية الإسرائيلية، باختلاف مكوناتها اليساري واليميني، أضحت غائبة، وفاقدة للرصيد الحقيقي على أرض الواقع.
فالاقتتال الداخلي جعل التركيبة السياسية الإسرائيلية غير متجانسة، ولا يمكن أن ينتج عنها بناء قوي متماسك يصمد أمام التحديات التي يواجهها الكيان الموجود في وسط مجموعة من الدول لا يتناغم معها. فالمشروع الإسرائيلي بالكامل يمكن القول إنه معرض للخطر. فالهوية العلمانية الليبرالية التي تحرص على تصديرها كواجهتها للعالم، تراجعت لصالح الهوية المتطرفة والتي تزداد تشددًا مع زيادة الأزمات الداخلية.
لذا فالسيناريوهات السياسية على صعوبتها وتعقدها تظل الأهون، أمام سيناريو مختلف تمامًا. سيناريو يصبح الحسم فيه معلقًا بأدوات غير سياسية، كصراع اجتماعي بخلفية سياسية. خصوصًا مع تصاعد العنصرية الدينية والخلافات السياسية الداخلية.