تفكيك أصول الأوقاف في الخمسينيات والستينيات
ليست مشكلات الأوقاف المصرية بنت اليوم، وإنما هي بنت عقود طويلة مضت، وسياسات خاطئة خضعت لها، وبخاصة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وهنا نكشف عن جانب مما جرى.
لقد كانت محصلة الإجراءات التي اتخذتها ثورة يوليو بخصوص الأوقاف من سنة 1952م إلى سنة 1957م هي إدماج جميع الأوقاف الخيرية ووضعها تحت إدارة مركزية واحدة ممثلة في وزارة الأوقاف؛ التي أصبح لها -بقوة القانون 247 لسنة 1953- أن تُغير مصارف تلك الأوقاف؛ بحجة توجيهها إلى جهات بر أَوْلى من تلك التي اشترطها مؤسسو الأوقاف أنفسهم، وكان هذا الإدماج مقدمة لتفكيك أصول الأوقاف من الأراضي الزراعية والعقارات المبنية والأراضي الفضاء، وحرمان وزارة الأوقاف نفسها من ريع الأوقاف. ونتيجة لذلك كان من السهل توظيف -أو تسييس- نظام الأوقاف بكل طاقته الرمزية والمادية، لدعم السياسة العامة التي انتهجتها السلطة الثورية في الداخل والخارج في عقدي الخمسينيات والستينيات.
فعلى المستوى الداخلي قامت وزارة الأوقاف -قبل أن تُسلَّم وقفياتها للإصلاح وللمحليات- بتخصيص جانب من مواردها لدعم سياسة التصنيع والإنتاج التي تبنتها حكومة يوليو من ناحية، وتخصيص جانب آخر للإسهام في حل أزمة المساكن التي بزغت آنذاك من ناحية أخرى.
في مجال التصنيع: أنشأت وزارة الأوقاف عدة شركات صناعية كبرى خلال النصف الثاني من الخمسينيات كان من أهمها: الشركة المصرية للأغذية ورأسمالها 500 ألف جنيه، ساهمت فيه وزارة الأوقاف بمبلغ 150 ألف جنيه (مائة وخمسين ألف جنيه مصري). وشركة مصر للألبان والأغذية ورأسمالها 400 ألف جنيه، ساهمت فيه الأوقاف بمبلغ 85 ألف جنيه. وشركة إدفينا لتصنيع المنتجات الزراعية وتصديرها، ورأسمالها 150 ألف جنيه، ساهمت فيه الأوقاف بمبلغ 76 ألف جنيه، وشركة الصناعات الكيماوية وساهمت فيها الأوقاف بمبلغ 500 ألف جنيه، ومصنع تجفيف البصل بسوهاج بأكمله، ومصنع الثلج بـ «سفاجة» بأكمله.
بالإضافة إلى اشتراك الأوقاف أيضاً في إنشاء شركتين تجاريتين كبيرتين هما: شركة مصر للتجارة الخارجية ورأسمالها 500 ألف جنيه ساهمت فيه بمبلغ 50 ألف جنيه، والشركة العامة للتجارة الداخلية ورأسمالها 500 ألف جنيه، ساهمت فيه بمبلغ 120 ألف جنيه. واشتركت كذلك في القرض الوطني لتغذية المشروعات الإنتاجية بمبلغ مليون جنيه، وفى قرض الإنتاج والخدمات بمبلغ 750 ألف جنيه، وفى إنشاء بنك الجمهورية بمبلغ 300 ألف جنيه.
أما في مجال الإسكان فقد ألقت وزارة الأوقاف بثقلها فيه منذ وقوع ثورة يوليو لمساعدتها في حل أزمة المساكن «وخلق مجتمع اشتراكي تسوده العدالة» مستخدمة في ذلك الأموال المتحصلة من بيع بعض أعيان الأوقاف، بالإضافة إلى جزء من ريع الأوقاف الخيرية، «وريع أوقاف الحرمين الشريفين»، وكانت مصر قد توقفت عن إرساله للأراضي الحجازية منذ منتصف الخمسينيات.
وإلى جانب المشروعات السكنية، قامت وزارة الأوقاف -في تلك الفترة أيضاً بتخصيص مساحة قدرها 875 فداناً من أراضي الأوقاف التابعة لها بمنطقة الدقي بالجيزة- ومنها مدينة الأوقاف التي تشمل اليوم جزءاً كبيراً من منطقة المهندسين الراقية وامتدادها على جانبي شارع أحمد عرابي حتى ميدان لبنان – ووزعتها على الجمعيات التعاونية للبناء بأسعار مخفَّضة بنسبة 30% من الثمن الأصلي، وبنظام التقسيط على 15 سنة وبدون فوائد. فضلاً عن مساحة 100 فدان أجَّرتها بإيجار اسمي للأندية الرياضية بالمهندسين (تشمل: أرض نادى الزمالك وأرض نادى الترسانة حالياً بالكامل). وهناك بعض المنشآت التابعة للدولة تكفلت وزارة الأوقاف بجميع نفقات بنائها ومن أهمها مبنى سيادي تكلف 319700 جنيه من ريع الأوقاف خلال تلك الحقبة.
وعلى هذا النحو مضت الوزارة في توظيف موارد الأوقاف الخيرية بعد تغيير مصارفها بمجرد قرارات إدارية لا معقب عليها، وخاصة بعد إلغاء المحاكم الشرعية في سنة 1955 وزوال ما كانت توفره تلك المحاكم من حماية قضائية شرعية لنظام الأوقاف.
ومن العجيب أن قيام وزارة الأوقاف بتغيير مصارف ريع الأوقاف المخصصة لدعم المؤسسات الخيرية الأهلية -ومساعدة الفقراء والمحرومين طبقاً لشروط الواقفين- قد تم تبريره بأنه من ضرورات «التحول الاشتراكي» وبأن الوقف نفسه هو عبارة عن «تأميم اختياري» وهو «في القمة من القيم الاشتراكية… وشُرع لتحقيق الاشتراكية الإنسانية» وأن «كل واقف على جهة بر يعتبر رائداً من رواد الاشتراكية» وافتخر الشيخ الباقوري -وزير الأوقاف وقتها- في بيانه الذي ألقاه على مجلس الأمة في سنة 1957 بأن وزارته «جعلت خير أوقاف المسلمين للمسلمين جميعاً في كل مكان» وكان يقصد -وإن لم يُصرِّح بذلك- ما تقوم به وزارته من نشاط في المجال الخارجي لدعم أهداف السياسة الخارجية للدولة.
أما على المستوى الخارجي، فإن وزارة الأوقاف بعد أن تنازلت عن مدارسها لوزارة التربية والتعليم، وعن مستشفياتها لوزارة الصحة، وعن ملاجئها ودور أيتامها لوزارة الشؤون الاجتماعية -خلال الخمسينيات- اتجهت إلى استغلال أموال الأوقاف التي كانت مرصودة على تلك المؤسسات في مشروعات خارجية في بلدان الدائرة الثالثة من دوائر السياسة الخارجية المصرية (وهى الدائرة الإسلامية) في قارتي آسيا وأفريقيا، وكان من أهم تلك المشروعات التي ظلت في معظمها حبراً على ورق ولم ترَ النور أبداً: مشروع «مؤسسة المعاهد العربية الإسلامية»، ومشروع «مؤسسة الوحدات الصحية العربية»، إلى جانب مشروع «رعاية الوافدين للدراسة في مصر»، أو «مدينة البعوث الإسلامية» التابعة للأزهر الشريف، وكان هذا المشروع أوفر حظاً من سواه حيث تم إنجازه، ولا يزال قائماً بأداء رسالته في خدمة طلاب العلم الوافدين من مختلف البلدان العربية والإسلامية للدراسة بالأزهر الشريف.
هذا بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من المسئوليات التي أُسندت إلى وزارة الأوقاف للقيام «بالدعوة في الخارج» عن طريق «إدارة الدعوة والمؤتمرات والزيارات» التي لم تنشط في هذا المجال الخارجي مثلما نشط «المجلس الأعلى للشئون الإسلامية» الذي كان يمارس مهماته «إيماناً برسالة ثورة 23 يوليو وترسماً لخطى الرئيس جمال عبد الناصر في نصرة الدين» على حد ما ورد في الوثائق الرسمية المنشورة في كتاب وزارة الأوقاف بمناسبة مرور أحد عشر عاماً على وقوع الثورة. وقد وصلت هدايا المجلس وكتبه -المطبوعة بأموال أوقاف البر- إلى جميع قارات العالم القديم منها والجديد.
لقد كان الهدف الأساسي من الإجراءات السابق ذكرها هو تعبئة كافة موارد الأوقاف -في إطار التعبئة العامة لكافة موارد الدولة- وتوظيفها في خدمة السياسات التي انتهجتها سلطة يوليو في الداخل والخارج؛ دون مراعاة لخصوصية أموال الأوقاف، أو اكتراث بالحصانة التي أسبغتها عليها الشريعة الإسلامية.
وقد اقتصر الأمر حتى سنة 1957 على استغلال أموال البدل ومتحصلات ريع الأوقاف الخيرية، وبعض أعيان ممتلكاتها من العقارات والأراضي الفضاء التي سيطرت عليها وزارة الأوقاف. أما ابتداءً من سنة 1958 وبعد أن فرغت السلطة من قطفتها الأولى من الأوقاف فإنها استدارت لتوجِّه إلى نظام الأوقاف ضربات عنيفة أفقدته الكثير من أصوله الاقتصادية؛ بعد أن فككتها وبعثرتها بين هيئة الإصلاح الزراعي والمجالس المحلية. وكالمعتاد لجأت السلطة إلى آلية التشريع لتنفيذ سياستها الجديدة تجاه الأوقاف وساعدتها البيروقراطية الحكومية -بحيلها التي لا تنتهي- في الوصول إلى أهدافها.
وملخص ما حدث هو أنه بموجب قرار جمهوري بالقانون رقم 152 لسنة 1957، وقرار آخر بالقانون رقم 44 لسنة 1962 قامت وزارة الأوقاف بتسليم جميع الأعيان الموقوفة على جهات البر العام والخاص -وما كان قد بقي لديها من أوقاف أهلية ومشتركة- إلى كل من الهيئة العليا للإصلاح الزراعي، والمجالس المحلية.
وتنفيذاً لأحكام هذين القانونين استلمت هيئة الإصلاح مساحة قدرها 25207 أفدنة و21 قيراطاً و8 أسهم من الأراضي الموقوفة على جهات البر الخاص، ومساحة أخرى قدرها 75788 فداناً و18 قيراطاً و3 أسهم من أراضي الأوقاف المشتركة والأهلية، (التي انتهى فيها الوقف وكانت في حراسة الوزارة، أو تأخَّر تسليمها إلى مستحقيها أو ورثة الواقفين) بالإضافة إلى العقارات المبنية والأراضي الفضاء والمباني الاستغلالية (مساكن ودكاكين ومحلات… إلخ) الواقعة في نطاق المدن.
وحصيلة ما سبق هو: أن هيئة الإصلاح والمجالس المحلية قد استلمت من وزارة الأوقاف بموجب القانونين المذكورين، مساحة إجمالية من الأراضي الزراعية الموقوفة قدرها 229786 فداناً و11 قيراطاً و8 أسهم ونصف سهم، بالإضافة إلى العقارات والمباني الاستغلالية والأراضي الفضاء التي تشغل أحياء ومناطق بأكملها في كثير من المراكز والمدن (ولا تتوفر بشأنها إحصاءات أو بيانات تحدد حجمها الإجمالي بدقة).
وكان من المفترض أن يتم تحديد ثمن الأطيان التي استلمتها هيئة الإصلاح على وجه السرعة عقب استلامها؛ باعتبار أن هذا «الثمن» هو أساس المحاسبة لكل من الريع وأقساط رأس المال التي يتم استهلاكها سنوياً، وتؤول -طبقاً لأحكام القانون- إلى وزارة الأوقاف في صورة فوائد تحصل عليها من المؤسسة الاقتصادية؛ للإنفاق منها على وجوه البر والخيرات (!!) ولكن اللجان الكثيرة التي تم تشكيلها لتحديد ثمن الأطيان ظلت متعثرة مدة عشر سنوات كاملات، ولم تنجز مهمتها إلا في سنة 1970، أي بعد مرور حوالي 12 سنة على عملية تسليم الأطيان للإصلاح والعقارات المبنية للمحليات.
وعندما تم «الاتفاق النهائي» في سنة 1970 بين وزارة الأوقاف وهيئة الإصلاح بشأن مستحقات الوزارة لدى الهيئة كانت النتيجة كالتالي:
- أن جملة رأس المال الواجب المحاسبة عليه هو 23554834 جنيهاً و969 مليماً، وهو جملة ثمن أطيان البر العام والبر الخاص (ومشتملات تلك الأطيان من الآلات الزراعية والأشجار والمواشي… إلخ) وهي التي كان قد تم استبدالها طبقاً للقانونين سالفي الذكر.
- أن جملة المتأخر طرف هيئة الإصلاح من أقساط السندات المقتضى سدادها، والتي لم تسدد في حينه حتى نوفمبر 1969 (بسبب تأخر إبرام الاتفاق النهائي المشار إليه) وكذلك المتأخر من الفوائد -على أساس افتراض سداد الأقساط بصفة دورية في مواعيدها حتى ذلك التاريخ- يساوي مبلغاً قدره 6921223 جنيهاً و182 مليماً.
وتتلخص النتيجة الإجمالية لكل ما سبق في: أن عقد الستينيات انصرم ووزارة الأوقاف بلا أوقاف، وبلا ريع تقريباً، وباتت خزينتها خاوية لا شيء فيها لتنفق منه على مساجدها -ناهيك عن وجوه البر الأخرى التي تم تغيير مصارفها على خلاف شروط الواقفين- بل بقيت وزارة الأوقاف نفسها خلال تلك الحقبة تحت رحمة «الإعانة» الحكومية المخصصة لها في الميزانية العامة للدولة بمبلغ لا يتجاوز مليون جنيه سنوياً، بعد أن كانت تحصل على ريع يتراوح بين 7 أو 8 ملايين من الجنيهات سنوياً من الأوقاف الخيرية قبل أن تسلمها للإصلاح الزراعي ابتداء من سنة 1958. وهذا الحال هو الذي أعجز الوزارة عن القيام بمهمتها، أو حتى القيام بمشروعات تخدم بها سياسات السلطة وتتباهى بأنها إسهام من أهل الخير، كما كان يفعل الشيخ الباقوري أثناء ولايته لوزارة الأوقاف من سنة 1952 إلى سنة 1959م.
لقد لحقت بالأوقاف الخيرية وبمؤسسات مجتمعنا المدني الأصيلة -التي كانت معتمدة في تمويلها على تلك الأوقاف- أكبر خسارة تعرضت لها في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وربما في تاريخ نظام الوقف منذ دخوله مصر مع الفتح الإسلامي لها؛ وذلك من جرَّاء سياسات سلطة يوليو تجاهها، تلك السياسات التي صيغت في القانون رقم 152 لسنة 1957 ومن بعده القانون رقم 44 لسنة 1962 وما نجم عنهما في التطبيق من خسارة فادحة للأصول الاقتصادية للأوقاف.
وكان أكبر ضرر تضمنه هذان القانونان هو أن أحكامهما قامت على أساس فكرة رئيسية واحدة هي خلع نظام الأوقاف من الأرض الزراعية ومن أصوله العقارية الثابتة –وتلك الأصول هي التي مثَّلت حجر الزاوية في بنيته المادية طول تاريخه- وتحويله (بدلاً من ذلك) إلى أموال سائلة في صورة سندات تُؤدَّى قيمتها عبر طرق متعرجة على مدى ثلاثين عاماً، وفوائد يتحكم شخص رئيس الجمهورية -بموجب ما نص عليه القانون- في تحديدها سنوياً بنسبة 3 أو 4% سنوياً؛ مع إباحة بيع عقارات الأوقاف نفسها والتصرف فيها وفق ما تراه المجالس المحلية أو ما يراه الإصلاح الزراعي!
وقد دار جدل كبير خلال الخمسينيات حول هذا الموضوع في مجلس الأمة، وتجدد الجدل مرة آخر في مجلس الشعب في سنة 1980 م حول ما حدث للأوقاف منذ أواخر الخمسينيات حتى مطلع السبعينيات، وفى هذا الجدل وجَّه العديد من أعضاء المجلس سنة 1980م انتقادات حادة لما جرى: فالعضو الشيخ صلاح أبو إسماعيل وصف ما حدث للأوقاف بأنه «تدويخ وبلطجة» وقال «كأن أوقاف المساجد أوقاف لعدو وقع تحت أيدينا».
والدكتور إبراهيم عوارة (نائب طنطا) ذكر في معرض استجوابه لوزير الأوقاف أن أراضي وقف الخديوي إسماعيل على المساجد ومكاتب تحفيظ القرآن -ومساحتها 22 ألف فدان بمديرية الشرقية- قد «مُلِّكَت بأوامر شفوية في عهد مراكز القوى»، وختم عوارة استجوابه لوزير الأوقاف بأن طالب «بعزل وزير الأوقاف وتقديم جميع وزراء الأوقاف السابقين للمحاكمة اعتباراً من سنة 1952 لأنهم بددوا مال الله».
والمدهش أن وزير الأوقاف المستجوب آنذاك وهو الشيخ «عبد المنعم النمر» رد على ما أثاره أعضاء المجلس مؤكداً على أن ما حدث للأوقاف كان «مذبحة ومأساة لفَّت الأوقاف في لفائفها السود… وكانت خطة مدبرة لكسر العمود الفقري للإسلام وللدعوة الإسلامية». ووصف الذين اعتدوا على الوقف بأنهم «شياطين».
كان كلهم يشكون دون أن يمسكوا بالمتهم المشكو في حقه. ولله في خلقه شئون.