عاب مجدك
كان شابا، كان مراهقا إن صح وصف مثله بهذا الوصف، لتوه عقد قرانه على فتاته، ولم يكمل تعليمه بعد، ترك المدرسة ليحمل السلاح دفاعًا عن القضية وعن الوطن المحتل. وفي اشتباك حدودي مع سرية من جنود الاحتلال الغاصبين، نال الشهادة.
أرادت إسرائيل استثمار مصرعه في تحقيق انتصار معنوي؛ قالت: قتلنا ابن الأمين العام وحرمنا أباه من جثته. رد والده: «هذا نصر لحزب الله، هذا عز لحزب الله، هذا نصر لمنطق المقاومة في لبنان … لا نوفر أولادنا للمستقبل، نفخر بأولادنا حين يذهبون للخطوط الأمامية، ونرفع رؤوسنا بأولادنا عندما يسقطون شهداء».
قاوم فيداك الإعصار
كانت لبنان أرض الجنون. حرب أهلية طاحنة تدور في كل شارع وفي كل حارة وعند كل ناصية. اجتاحت إسرائيل لبنان لتستأصل منظمة التحرير الفلسطينية، وقامت الميليشيات المارونية بكل ما يخطر في البال من فظائع، لم يكن الإسرائيليون من ذبحوا وبقروا بطون الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا، كان المارونيون من فعلوا ذلك.
بيروت تحاصر، بيروت ابتلاء الله، والهواء أنّى ذهبت حامض. وقف اليساريون والإسلاميون بجوار المقاومة الفلسطينية، لكنها أجبرت على الرحيل من منفى إلى منفى. وفي الشوط الثاني من الحرب تدخل حافظ الأسد ليصفي حسابه مع عرفات ويكمل ما بدأه الإسرائيليون والمارونيون. حتى حركة أمل الشيعية التي وقفت من قبل بجانب المقاومة أدارت بندقيتها إلى صدور الفلسطينيين. وحدي، كنت وحدي، عندما قاومت، وحدي، وحدة الروح الأخيرة.
مجموعة من المعممين، من تلامذة الصدر، رفضوا المنعطف الذي اتخذته حركة أمل، وحصرت صدورهم أن يحاربوا «المحرومين» الذين أسس موسى الصدر «أفواج المقاومة» من أجلهم. تواصلوا مع قائد الثورة الإسلامية في إيران وبايعوه لتأسيس كيان جديد للمقاومة في لبنان. حاربوا أبناء طائفتهم دفاعًا عن مخيمات الفلسطينيين. كانت بوصلتهم واضحة مستقيمة، تشير إلى الجنوب حيث الأرض المحتلة والكيان الغاصب. كان سلاحهم طاهرًا لم يتدنس بالطائفية، كان سلاح مقاومة، وللمقاومة احتفظوا به بعد اتفاق الطائف. وجهوا الضربة تلو الضربة للاحتلال الصهيوني، ودفعوا ثمن مقاومتهم من أرواح قادتهم وأبناء قادتهم الذين قدموهم شهداء، لم يوفروهم للمستقبل. وقفة عز لخصت حياتهم، وفي الألفين تغيرت الأقدار؛ أجبروا إيهود باراك على سحب جنوده من لبنان أذلة صاغرين. حرروا الجنوب، ومن ضفة الليطاني رأوا القدس.
إلى ما بعد ما بعد حيفا
سمير القنطار، كان شابًا لم يكمل عامه السابع عشر بعد حين قاد مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين عام 1979 لتنفيذ عملية للمقاومة في مدينة نهاريا المحتلة قتل فيها 5 إسرائيليين. ألقت إسرائيل القبض على القنطار وحكمت عليه بعدة مؤبدات. وفي 2006 كان قد مضى على -عميد الأسرى- القنطار ربع قرن في سجون الاحتلال الإسرائيلي. بعد تحرير الجنوب تمت مبادلة معظم الأسرى اللبنانيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية، إلا أن إسرائيل رفضت أن تفرج عن عدد منهم وعلى رأسهم القنطار.
أطلق حسن نصر الله وعدًا «صادقًا» بتحرير جميع الأسرى اللبنانيين من سجون الصهاينة. وفي الثاني عشر من يوليو/ تموز هاجمت مجموعة من القوات الخاصة لحزب الله سرية عسكرية إسرائيلية قتلت جنودها وسحبت جثتين منهما. أعلن حزب الله عن أسره لجنديين إسرائيليين دون أن يفصح عن وفاتهما. ردت إسرائيل بحرب شعواء على لبنان. انهالت القذائف على الجنوب ورد حزب الله براجمات الصواريخ. أطلق حزب الله تهديدًا بقصف حيفا إذا ما قصفت بيروت. اعتاد العرب إطلاق التهديدات، تهديدات جوفاء في العادة. قصفت إسرائيل بيروت، دمرت مدرجات المطار وحطمت الجسور والطرق التي تصل الجنوب بالعاصمة، وراح مئات المدنيين ضحايا للقصف. أعلنت إسرائيل عن شرطها لوقف إطلاق النار، نزع كرامة حزب الله ووجوده، بكلمات أخرى نزع سلاح المقاومة. اختار محور الاعتدال -السعودي المصري- أن يوجه التوبيخ للمقاوم اللبناني لا المحتل الصهيوني، اتهماه بإدخال الشعب اللبناني -اللطيف والمحب للسلام- إلى «مغامرة غير محسوبة»، كان الهدف الإطاحة برصيد الحزب السياسي والتمهيد لنزع سلاحه «المتهور».
خرج نصر الله في خطاب مسجل ليقرّ أنهم مغامرون نعم، مغامرون لطالموا جلبوا لبلادهم العزة والنصر، قال إن أرادتها إسرائيل حربًا مفتوحة لتكن إذن حربًا مفتوحة، صواريخ حزب الله لن تصل إلى حيفا، بل إلى ما بعد حيفا، وما بعد ما بعد حيفا. لم يصدق أحد؛ فحزب الله يقصف براجمات الكاتيوشا، والكاتيوشا لا يصل مداها إلى 40 كم. بعد التصريح بيومين أفاقت حيفا على صواريخ حزب الله. ذعرت إسرائيل وارتج الوطن العربي ابتهاجًا.
قصف حزب الله حيفا وعكا والناصرة والخضيرة. دعا الحزب المدنيين إلى مغادرة مدن الشمال معتذرًا عن قصفه للمدن باضطراره إلى الرد على القصف الإسرائيلي للمدن اللبنانية الذي أسقط مئات الضحايا المدنيين ودمر بنية لبنان التحتية. ردت إسرائيل بمذبحة -ثانية- في قانا أكثر من نصف ضحاياها كانوا من الأطفال. تقدمت القوات الإسرائيلية إلى بنت جبيل ومارون الراس لكنها دفعت غاليًا ثمن كل خطوة على يد جنود حزب الله. كانت كل خطوة تساوي خسارة جديدة في أرواح جنود الاحتلال. يئست إسرائيل؛ استخدمت القنابل الفسفورية في القصف.
وبعد شهر من اندلاع الحرب استجاب مجلس الأمن أخيرًا لدموع فؤاد السنيورة الذي تعهد بالانصياع مقابل وقف الحرب على الدولة الصغيرة. صدر القرار بإلزام إسرائيل بالانسحاب من الأراضي اللبنانية، وتوسيع نطاق مهام بعثة حفظ السلام «اليونيفيل» وانسحاب حزب الله من الشريط الحدودي ونزع سلاحه. إلا أن الشرط الأخير، الذي كان غرض إسرائيل من الحرب ابتداء، والذي أعلنت أنها لن توقفها دون تحقيقه، ذهب أدراج الرياح. وفي مقابل جثمان الجنود الإسرائيليين، تحرر الأسرى وعلى رأسهم سمير القنطار. ملأت الجماهير بيروت صخبًا احتفالًا بالنصر والصمود، احتفظ حزب الله بسلاحه وبلغت شعبيته عنان السماء، ووزعت الصحف العربية صور حسن نصر الله بالمجان مع أعدادها، لتحملها الجماهير في التظاهرات، وحتى ملاعب كرة القدم. صار نصر الله بطلًا من المحيط إلى الخليج.
خيبة الشاعر العربي
في مطلع القرن الرابع الهجري كان حال العرب يرثى له؛ تحطمت الخلافة الكبيرة إلى دويلات صغيرة يتصارع عليها أمراء تافهون، ومركز الخلافة في بغداد صار لعبة بيد الجنود المرتزقة، يتنازعون تنصيب الخلفاء وقتلهم، حتى أتى البويهيون الفرس ليفرضوا سيطرة أضافت إلى هوان العرب هوانًا. كان زمانًا مرًّا ذلك الذي أتى فيه شاعر العربية الأنبغ. أضفت الحالة العامة -المثيرة للازدراء والقنوط- مرارة وغربة إضافية إلى الظروف الخاصة التي رافقت المتنبي. احتقر المتنبي زمانه ورجال ذلك الزمان، رآهم أنصاف رجال، ورفض أن يهديهم شعره. حتى رأى ذلك الشاب «الغريب» مثله. وحده كان يسعى عبثًا لإعادة مجد خلافة عربية غابرة في بغداد، ووحده كان يقف مدافعا عن الثغور في وجه الإمبراطورية البيزنطية التي رد إليها الروح باسيل المقدوني. شاب يقاربه في السن، طموح، أبي، تتقد بين جوانحه نار العروبة والحمية. هذا هو البطل المنشود في هذا الزمان البائس. نسي المتنبي كل تحفظه السابق، وانهال بالمديح على بطله التغلبي – الذي كان شيعيًا هو الآخر بالمناسبة -؛ شاركه انتصاراته وانكساراته وأحزانه؛ ثم انقضت عشرة أعوام، كانت كافية لينحل ما كان معقودًا من الود بينهما. تتابعت الهزائم على سيف الدولة بعد رحيل المتنبي، وهام المتنبي ما تبقى من عمره يبحث عن ذلك البطل المفقود.
كان طبيعيًا أن تحتفل الجماهير بهذا الصمود، وأن ترى فيه نصرًا طال اشتياقها له، لا سيّما بعد مأساة العراق المحطم الذي لم تبرد دماؤه، ولم يخب رماده بعد. ربما كان الشاعر الشاب متعجلًا حين رأى في نصر الله «أمير المؤمنين»؛ لكن من ذا يلوم شاعرًا على أن له قلبًا؟، ومتى كانت حرارة عواطف الشعراء عيبًا لهم؟، ثم أن «المليحة فيها يحسن الغزل». رأى تميم -الفلسطيني المصري المشرد في غربته- في الأمين العام، الخطيب الذي تحرك كلماته القلوب، المعمم عمامة السادات الحسينيين، رأى فيه الأب الذي جاد بابنه لقضيته، والمقاوم الذي حرر الجنوب وصمد في وجه الجيش الذي أذل أعناق الرجال، رأى فيه بطل الأمة المنشود، زعيمها المفتقد وسط انكساراتها، وقائدها الملهم الذي يلهب الخيال، رآه بعين الغيب وهو يدخل تحت الكساء.
لكن الحلم الجميل كان صرحًا من خيال، فهوى. قام الربيع العربي، أطاح بالمستبدين الذين جثموا على صدر الأمة واحدًا تلو الآخر. سقط مبارك كنز إسرائيل الإستراتيجي. هلل حزب الله للربيع الطلق الذي حرر الشعوب، سماه ربيعًا إسلاميًا وعده نصرًا مؤزرًا للمقاومة. كان ذلك حتى كتب مجموعة من الأطفال الصغار على أحد حوائط درعا «جاك الدور يا دكتور». فجأة اختفى ذلك كله، وتحول الربيع الزاهر إلى مؤامرة كونية ضد «الممانعة».
إن كان من العار أن تصطف إلى جانب سمير جعجع في لبنان، فمجرم فقط من يقف إلى جوار سفاح كبشار الأسد في سوريا. حاول الشاعر العربي أن يدافع عن «أمير المومنين»، أن يوجد مبررًا ينفي به تحول البطل إلى جلاد. سقط المثال، وضاع المعنى. تحطمت قصائد الشاعر وهو يرى من ضحى بابنه فداء وطنه يتخلى عن كل شيء، عن كل نبل، عن كل لحظة شرف وعز، قربانًا لطاغية مقيت حطم وطنه فداء للحكم الذي ورثه من أبيه. ارتكب نصر الله «المقاوم» في سوريا ما لم ترتكبه إسرائيل في لبنان وسوريا معًا. كل شيء تحطم في نزوة فاجرة.
خطابات العزة البليغة المفعمة بالمقاومة صارت ترجمات هزيلة وشائهة لعبارات بوش الابن ومصطلحاته «الإرهاب» و«التكفيريين» و«التطرف». العيون و«رموش العيون» التي تعهد بالدفاع عن مسيحيي لبنان بها، لم ترف لذبح أطفال سوريا على أيدي جنوده وجنود حلفائه. السيد حسن نصر الله صار «حسن زميرة»، وطريق القدس ضاع بين القلمون والزبداني وحمص وحلب والسويداء والحسكة.
اليوم، في ذكرى «حرب تموز»، وبدلاً من الاحتفال والاحتفاء، لا نجد في حلقنا سوى المرارة. فاللحية المهيبة الشائبة قد تخضبت بالدماء، وعمامة الحسين السوداء صارت تاجًا قميئًا ليزيد. لسنا نلتف أمام الشاشات نترقب سماع خطبة العزة والصمود، ولم يعد قلبنا يرتجف طربًا حين نرى الأعلام الصفراء مرفرفة. لم نعد نرى فيك البطل، ولا القائد، ولا السيد الذي اشتقناه وأردنا أن نحكي لأبنائنا عنه. نصرك البائس الذي «حسمته» في «الزبداني» و«يبرود» قد «عاب مجدك» يا حسن.