في خضم احتجاجات «السترات الصفراء» التي شهدتها باريس، نُشر فيديو في 5 يناير/كانون الثاني 2019، تمّ التقاطه خلال مواجهة بين رجال الشرطة الفرنسية والمتظاهرين على جسر مشاة ليوبولد سيدار، حيث قام كريستوف ديتينجر بلكم رجل شرطة بقفازات جلدية، وركل آخر قبل أن يطرحه أرضًا. تمّ اتهام ديتينجر بارتكاب جرائم عنف ضد رجال الشرطة. بعد يومين، ظهر ديتينجر عبر مقطع فيديو آخر بعدما سلّم نفسه إلى الشرطة، واقتيد إلى الحجز معربًا عن ندمه، لكنّه صرّح أنّ ذلك كان نوبة غضب انتابته بعدما رأى رجال الدرك يضربون بالهراوات شابًا وامرأة، ويطرحونهما أرضًا.

مع نهاية شهر يناير/كانون الثاني، رفضت محكمة الاستئناف في باريس طلب الإفراج الذي تقدّم به محامي المتظاهر، معلّقة بأنّ المتهم «شخصيّة مقلقة وخطيرة للغاية». ووفق ما ذكرت صحيفة لو دوفيني، فإنّ رفض المحكمة جاء بسبب أنه «شخص متهوّر ومصمم على ارتكاب أعمال عنف»، حتى حكمت عليه محكمة جنايات باريس بالسجن لمدّة 30 شهرًا، منهم 18 شهرًا مع وقف التنفيذ، وتمّ تغريمه مبلغ 5 آلاف يورو، يذهب إلى ضحاياه.

لم تقم الدولة والقضاء الفرنسي بإدانة عنف الشرطة النظامية بالرغم من فضح الصحافة للعنف الذي ارتكبته قوات الشرطة بحق متظاهري السترات الصفراء، لكنّ رد فعل متظاهر في حالة دفاع عن نفسه كان مدعاة للعقوبة والتأديب حتى يصبح مثالًا لكل من تسوّل له نفسه الدفاع عن نفسه أمام عنف الشرطة.

تاريخ العنف الأوروبي المتبادل

في باريس أيضًا، وبعد أكثر من ثلاثين عامًا، شكّك أدولف تيير وحكومته الخاضعة للغزو الألماني في نوايا الباريسيين الذين كانوا قد استولوا على مدافع الحرس الوطني لمنع القوات الألمانية من الوصول إليها في 18 مارس/آذار 1871. أرسل تيير قوات تحت قيادة الجنرال لو كونت للاستيلاء على تلك المدافع الممركزة في هضبة حي مونمارتر. بعد توترات عديدة، أمر الجنرال لو كونت بإطلاق النار على المتظاهرين الباريسيين الذين احتشدوا على الهضبة. تآخى الجنود مع المتظاهرين وألقوا القبض على الجنرال لو كونت، وتمّ إعدامه مع جنرال آخر يدعى كليمنت توماس في نفس اليوم من قبل الحشود الباريسية. ستودي تلك الأحداث لاحقًا إلى قيام التجربة الثورية الرائدة في باريس التي عرفت بـ«كومونة باريس» واندلاع الحرب الأهلية في فرنسا التي شهدت عنفًا متبادلاً بين الطرفين.

اندلعت أعمال شغب عنيفة في باريس في 23 يونيو/حزيران 1848، وذلك بعد إغلاق ورش العمل الوطنية مما دفع 20 ألف عامل إلى الخروج، مشكلين ما يقرب من 40 متراسًا، وقاتلوا القوات النظامية لثلاثة أيام متواصلة في معركة أودت بحياة 4 آلاف من صفوف العمال و1600 من صفوف الشرطة. وقبل تلك الواقعة بأربعة أشهر فقط، خلال ثورة فبراير/شباط 1848، يذكر ألفريد كولينج في كتابه «التاريخ المذهل للبورصة» كيف أطلق الحرس النار وقتلوا ما يقرب من 50 قتيلاً، بينما ذهب المتظاهرون لسرقة مخازن السلاح وأنشؤوا متاريس في أنحاء العاصمة.

لم تقع مثل تلك الأحداث في فرنسا فقط، فقد حدث مثلها في أوروبا كلها على مدار القرن التاسع عشر (وبالتأكيد قبل تلك الفترة التاريخية وبعدها أيضًا)، حيث قُتل جنود وضباط من قوات النظام، بل تمّ إعدام جنرالات أطلقت النار، أو أمرت بإطلاق النار على متظاهرين (كما حدث من قبل الجنرالين الفرنسيين السابقيْن)، وتمّت سرقة مخازن السلاح، وامتلكت الشعوب كل الحقوق في الدفاع عن نفسها دون الوصم بالإرهاب أو تجريم العنف ضد الدولة باعتبار أنّ عنف الدولة فقط هو الشرعي والمقنن، بينما سُلبت الجماهير حقّ الدفاع عن نفسها.

نزع سلاح الشعوب

تعكس لنا قصة كريستوف ديتينجر ما تمّ مع الشعوب الأوروبية من نزع سلاح الطبقات المهمشة التي تستخدمه دفاعًا عن نفسها، بعدما استمرت لعقود مضت ترد على القمع الذي تتعرض له من قبل الدولة ومؤسساتها القمعية، فكان هناك عنف مضاد وليس من جهة واحدة كما الآن. أمّا في القرن الواحد والعشرين، فقد قتلت الشرطة الفرنسية مواطنين أثناء احتجاجات السترات الصفراء، وسحلت وضربت عشرات آخرين ولم تتم محاكمة أي فرد منها، بينما أثار دفاع ديتينجر عن نفسه ورفاقه حفيظة أجهزة الدولة ومؤسساتها القمعية، بل إنّه تحوّل إلى نموذج تأديب وتنكيل لكل المتظاهرين، على الرغم من أنّه لم يحمل السلاح كما تفعل الشرطة مثلًا.

بالطبع، تمّ نزع السلاح عن الشعوب الأوروبية، التي كان لها باع طويل في استخدامه دفاعًا عن حقوقها، وذلك حتى وقت ليس ببعيد، وهو ما تعكسه الصور التالية:

ثوار يحملون السلاح أثناء انتفاضة نوفمبر 1918 في برلين بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى

التقطت هذه الصورة في خضم أحداث الثورة الألمانية عام 1918، وتوضح المتظاهرين المسلحين، وهو أمر يستحيل حدوثه اليوم، فالحجارة واللكمات أمام هراوات ورصاص الشرطة، أصبحت اليوم دربًا من العنف، فما بالنا بحمل السلاح؟!

بالحديث عن فرنسا، فلنتأمل كلمات النشيد الوطني الفرنسي «لامارسييز»، وكلماته التي سيعتبرها سياسيو اليوم تحريضًا على العنف، وربما إرهابًا صريحًا:

إلى السلاح، أيها المواطنون!
شكلوا صفوفكم! فلنزحف! فلنزحف!
وليتشبّع تراب أرضنا من دمائهم القذرة!

كُتب النشيد الوطني أثناء الثورة الفرنسية عام 1795، وهي كلمات قطعًا تدعو للعنف وحمل السلاح الذي صار محرمًا على الجميع، إلا مؤسسات الدولة.

في فرنسا أيضًا، كان من الممكن أن نقرأ في المادة 35 من إعلان حقوق الإنسان عام 1793 (ذروة أحداث الثورة):

عندما تنتهك الحكومة حقوق الشعب، يكون التمرد بالنسبة للشعب ولكل جزء من منه، أقدس الحقوق وأهم الواجبات.

ولكن الآن، يعاقب المتمرد في فرنسا بناءً على المواد 4-412، 5-412، 6-412 من قانون العقوبات الفرنسي. تنص المادة 4-412 :

يُعاقب على المشاركة في حركة تمرد ببناء متاريس، بالسجن خمسة عشر عامًا وغرامة قدرها 225 ألف يورو.

أما المادة 5-412، تنص على:

يعاقب بالحبس عشرين عامًا وغرامة قدرها 300 ألف يورو كل من يشارك في حركة تمرد وذلك:
1. بمصادرة أسلحة أو ذخيرة أو مواد متفجرة أو خطرة أو مواد من أي نوع سواء عن طريق العنف أو التهديد أو النهب أو نزع سلاح القوة العامة (أي قوات حفظ الأمن).

2. بتزويد المتمردين بأسلحة أو ذخائر أو مواد متفجرة أو مواد خطرة.

فهنا نرى أنّ ما كان طبيعيًا، مثل إنشاء متاريس (مثل ما حدث في أوروبا كلها عام 1848 أثناء «ربيع الشعوب» الأوروبي) واستخدام السلاح في الثورات أو التمردات أو التظاهرات في أوروبا، أصبح غير طبيعي، بل جريمة. بل التمرد، الذي كان «حقًا مقدسًا» في آخر القرن الثامن عشر، أصبح جريمة في حد ذاته. تمّ نزع السلاح عن الشعوب الأوروبية وأصبحت جملة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الشهيرة «الدولة هي من يحتكر العنف الشرعي» (في محاضرته: «السياسة كحرفة») واقعًا في أوروبا.

لقد نُزع سلاح الجماهير الأوروبية لا سيّما في زمن العولمة، وهذا من مفارقات عصرنا. فالعولمة التي جعلت تجارة السلاح أكثر سهولة، بل من الصعب أن يكون المواطن الأوروبي ممتلكًا للسلاح، والأصعب أن يستخدمه ضد القمع مثلما كان يحدث في القرون السابقة.

على صعيد آخر، هناك ما يمكن أن نطلق عليه «مراقبة ذاتية»، فمن العنف والعنف المضاد الذي شهدناه في الماضي، صارت الجماهير الأوروبية ترى في التمرد نفسه عنفًا، حتّى لو كان حالة من حالات الدفاع عن النفس، وصار العنف حكرًا على المتطرفين بالمعنى السياسي للكلمة. فالجماهير الفرنسية مثلاً في حراك السترات الصفراء كانت سلمية نسبيًا، وعندما تم استخدام العنف (خصوصًا في بداية الحراك)، تمّ اعتباره حدثًا جللًا، رغم أنّ عنف الجماهير في هذا الحراك كان ضعيفًا (كسر بعض الواجهات للمحلات، حرق بنوك وسيارات شرطة، تخريب قوس النصر… إلخ) مقارنة بالماضي (أي استخدام السلاح علنًا من قبل الجماهير الأوروبية). فكما قلنا، أصبح العنف حكرًا على بعض المتطرفين، «البلطجية» (casseurs بالفرنسية)، «البلاك بلوك»… إلخ، ولكن أغلب المجتمع الفرنسي يرفض عنف الجماهير رغم موافقته الضمنية على عنف الشرطة.

نشر موقع إيبسوس نتيجة استفتاء قامت به الشركة، أوضح أنّ 42% من الجمهور يرون عنف الشرطة مفهومًا حتى لو كان غير مبرر، بينما يرى 12% أنّه مبرر. على العكس في نفس الاستفتاء، فقد رأى 8% فقط أنّ عنف متظاهري السترات الصفراء مبرر، بينما رأى 35% أنّه غير مبرر، حتى ولو كان مفهومًا.

نزح السلاح عن الجماهير في أوروبا.. مراقبة ذاتية جماهيرية لرفض العنف.. تغيير في نوع وطبيعة العنف الجماهيري نفسه، بل رؤيته كـ«حالة نفسية» من قبل السلطلت الفرنسية مثلا.. هذه معالم العصر في القارة العجوز. لكن بسبب السياسات النيوليبرالية، يزداد الفقر والبؤس. ومع أزمة كورونا وتأثيرها على مستوى معيشة ملايين من الأوروبيين، يمكننا أن نتوقع احتدام الصراع الطبقي هناك، وكما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو: «إننا نسمع زمجرة المعركة».