ماذا خسرنا باختفاء «التفكير الجذري» من حياتنا؟
يُحكى أن أحدهم طلب من عاملٍ لديه أن يُصنِّف ثمار الحصاد لثلاثة أصناف؛ جيدة ورديئة ومتوسطة. أنجز العامل المهمة بسهولة فيما يتعلّق بالثمار الجيدة والثمار الرديئة، ولكنه شعر بصعوبة عندما بدأ في تصنيف الثمار المتوسطة، حيث كان من الصعب عليه تمييز أيِّ الثمار يُمكن اعتبارها متوسطة الجودة بعكس الثمار الجيدة والرديئة التي كان جليًا مدى جودتها أو رداءتها.
هذا المثال كان موضوعًا في مقدمة مقرر الفلسفة حينما كنت درستها للمرة الأولى في الصف الأول الثانوي؛ لتنبيه الطلاب، الذين سيدرسون الفلسفة للمرة الأولى في حياتهم، كوسيلة إلى أهمية دراسة الفلسفة ودورها الكبير في التعرف على الأشياء والأفكار التي لا تكون واضحة من الوهلة الأولى.
ما زلتُ أذكر ذلك المثال رغم مرور سنواتٍ طويلة، ولا يزال يحضرني أثناء رؤية الكثير من الآراء والتجاذبات التي تدور في المجال العام، والتي ينقسم فيها الرأي العام أحيانًا لأطرافٍ تختلف جميعها حول موضوعٍ ما، بدون محاولة دراسته والتفكير فيه بشكل مُعمَّق للوصول إلى الأسباب الجذرية، وبالتالي فالنقاش دائمًا ما يدور حول نقاط عرضية لا تتعمّق في الوصول إلى أصول المشكلة، وبالتالي لا نصل أبدًا إلى حلول جذرية، بل نظلُّ ندور في فلك نفس المشكلات ولا تُحلُّ أبدًا.
محاولة لفهم الظاهرة الإنسانية
يعتقد الفيلسوف الفرنسي «آلان باديو Alain Badiou»، أن الظاهرة الإنسانية تقوم على علاقةٍ معقدة بين أربعة محددات، وهي: الطبيعي الذي يتمظهر في العلم، والاجتماعي الذي يجد تعبيره في السياسة، والجمالي الذي يُعدُ مبحثًا مركزيًّا للفن، وأخيرًا المجال الشخصي الذي يصل إلى حدوده العُليا في إطار تجربة الحب. وبناءً على ذلك التقسيم فإن تناول أي ظاهرة ومحاولة فهمها من خلال بُعد واحد هي محاولة مضللة، وأيًّا كان الرأي الذي ينبثق عن تلك المحاولة فسيكون في الغالب رأي سطحي ومضلل.
ما يجري الآن في المجال العام هو اختزال متواصل لتعقيد الظاهرة الإنسانية، نابعٌ من غياب التفكير الجذري في الأمور الاجتماعية، وبعد هيمنة نمط تفكير الليبرالية الجديدة أصبحت أغلب النقاشات تدور داخل نفس النسق.
وهو الأمر الذي حاول آلان باديو أن يخرج منه في كتابه «شرنا يأتي مما هو أبعد: التفكير في مذبحة 13 نوفمبر»، والذي تمرّد فيه على التفكير الاختزالي المعتاد ليطرح نموذجًا أكثر جذرية فيما يخصُّ مذبحة 13 نوفمبر في باريس والتي راح ضحيتها 130 شخصًا، واعتُبرت الهجمات الأكثر دموية في فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، والأكثر دموية في الاتحاد الأوروبي منذ تفجيرات قطارات مدريد عام 2004م.
في بداية محاضرته التي جاء منها نص الكتاب يقول آلان باديو للجمهور بأنه سيحاول في حضورهم أن يوضِّح ما وقَعَ بشكلٍ كامل، وذلك عبر وضع الحادثة في سياقاتها الأكبر، فما حدث هو حالة قتل جماعي والقتل الجماعي في رأيه واحد من الأعراض الحادثة لمرض عضال يمسُّ العالم المعاصر.
حاول باديو فِعل ذلك من خلال ثلاثة محاور؛ أولاً تحليل بنية العالم المعاصر، ثم الآثار الكبرى لتلك البنية على الشعوب وعلى تنوعاتها، وثالثًا الذاتيات النوعية أو الأشكال السيكولوجية وضروب القناعات والانفعالات التي نتجت عن ذلك العالم. وفي تحليله لظاهرة الإرهاب من خلال تلك المحاور، تحدَّى الفيلسوف الفرنسي كل المقولات الشعبوية السائدة في بلده عن خطر الإرهاب الإسلامي والحرب القادمة من الشرق وخلافه، فعلَّق على ذلك قائلاً إن «الاعتقاد بأن ما يهم في التعاسة هو هوية معينة فحسب، يعتبر فهمًا خطرًا للحدث التراجيدي ذاته؛ لأن ذلك، لا مناص، سيحول العدالة إلى انتقام»، وهو ما يُعتبر فهمًا جذريًّا للحدث التراجيدي يقابل الفهم الهوياتي الجاهز والاختزالي الذي يؤدِّي دائمًا إلى كارثة، وهو ما عبَّر عنه مترجم الكتاب محمد هاشمي في مقدمته للمُؤلّف بقوله «أن نُسمِّي الاستثنائي والغريب والطارئ عبر أسماء متداولة ورائجة، هو ما يولد في العادة الكوارث».
يتجلَّى ذلك الفهم الاختزالي في حادثٍ تراجيدي آخر وقع في قلب القاهرة منذ شهور، حيث قُتلت فتاة من قِبَل لصوص حاولوا سرقة شنطتها بعد أن تمسَّكت بها، تشبَّع المجال العام بصيحات الانتقام بعد ما تم القبض على المجرمين وبالفعل أخذت القضية مجراها القانوني، ولكن ذلك لم يستثر أي قضية أو فكرة أخرى في المجال العام غير فكرة الانتقام، الانتقام وفقط، فلم تُطرح قضايا، مثل: العشوائيات والبطالة ونمط المعيشة العشوائية والفقر وما تنتجه من إجرام وصراعات واضطرابات، وبالتالي استُبعدت أي حلول مستدامة تمنع تكرار الجريمة من خلال الابتعاد عن التفكير الجذري.
هذا الأمر لا ينطبق على مصر وحدها بالطبع، فدائمًا ما تتعالَى صيحات الانتقام وسط جمهور «فيسبوك» والمجال العام الافتراضي للطبقات الوسطى بعد كل جريمة شنيعة، فلقد تحسَّس باديو ذلك في المجال العام الفرنسي، وتعجَّب من أن اليسار الفرنسي كان بالغ الكفاءة في تطويع الطبقة الوسطى في فرنسا، حيث كان اليسار يقود الحكومة حينما أعلن حالة الطوارئ إبان فترة حرب الجزائر، وهو ما انتهى بفرنسا لأن تتسم في النهاية بوجود مجموعة فريدة من المثقفين الهوياتيين، لتصدر قوانين تميزية تتعلق بفقراء هم في الحقيقة من صنيعتها، بحسب باديو.
وفي نهاية أطروحته يُشدِّد آلان باديو على أن التفكير الجذري يُمكِّننا دائمًا من استكشاف آفاقٍ جديدة لحلول لا توصلنا إليها طرق التفكير التقليدية، وذلك من خلال طرح أفكار ورؤى جديدة حول المجال العام الذي يخلق هذه المشكلات.
في عشق المعارك المزيفة
يمثل غياب التفكير الجذري بيئة خصبة لنمو الصراعات الثقافية بين وجهتي نظر تدور كلتاهما داخل نفس النسق، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال ولسنوات طويلة دارت معارك ثقافية بين اليسار واليمين الأمريكي حول الأسباب التي تجعل أحد المواطنين يرتكب جريمة إطلاق نار عشوائي في المدارس أو في الأماكن العامة، وهي ظاهرة متزايدة في الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين.
يتمسّك اليسار الأمريكي بضرورة حظر بيع الأسلحة للعامة، وبأن «لوبي» شركات السلاح المدعوم من اليمين الأمريكي هو ما يمنع حل المشكلة، بينما يجادل اليمين بأن السلاح المتوفر للعامة هو وسيلة دفاع أيضًا في يد المواطنين وأن مَن يستطيع إيقاف مجنون يحمل سلاحًا هو شخص صالح يحمل سلاح، وتنتشر في صفوف اليمين جملة مشهور تقول «الأسلحة في حد ذاتها لا تقتل بينما من يحملها هو من يفعل»، ولكن يتفق كلاهما مع تقارير مكتب التحقيقات الفيدرالي التي تقول بأن المجرم، غالبًا، ما يكون مدفوعًا باللجوء للعنف كمحاولة لمواجهة مشاكله الشخصية وفشله في إقامة علاقات مع غيره وبخاصة من الجنس الآخر.
وهو ما فنَّده «مالكوم جلادويل Malcolm Gladwell» في مقالة بعنوان «عتبات العنف Thresholds Of Violence»، أورد فيها أنه في إحدى الحالات كان مرتكب الجريمة شابًا في السابعة عشرة من عمره، لا يعاني من أي مشاكل في علاقاته مع عائلته أو زملائه، ولا يعاني من أي أعراض لاضطرابات نفسية فلا يسمع أصواتًا داخلية تُطالبه بالقتل، كما أنه ليس شخصًا عاطفيًّا أو ذا ميول انتقامية، لم يُدمن الألعاب العنيفة، ولم يُعانِ من «التنمر» طوال حياته، حسبما أخبر الشرطة، ورغم ذلك ارتكب جريمة دامية.
تم تفنيد مقولة أن الأمراض العقلية هي السبب المباشر في جرائم إطلاق النار العشوائي من أكثر من جهة متخصصة، كما لم يتم الاتفاق حتى الآن على أسباب مباشرة مُوحَّدة لجرائم إطلاق النار العشوائي، ومع كل تكرار لجريمة جديدة تتجدَّد النقاشات والاتهامات المتبادلة من كل الأطراف من دون الوصول لشيء.
مرة أخرى يغيب التفكير الجذري عن تناول قضية تمسُّ بنية المجتمع فتتحوّل إلى ساحة حرب ثقافية يتم فيها تبادل الاتهامات بين أطرافٍ تفكر جميعها داخل نفس النسق، فيختلفون ما اختلفوا ولكن يتفقون دائمًا على عدم طرح الأسئلة الحقيقية التى ربما تكون متعلقة ببنية العلاقلات الاجتماعية من ناحية وفرص تحقيق الفرد لذاته من خلال مسارات تمنحه الشعور بإنسانيته، وتقلل من اغترابه عن نفسه، وتحقق التواصل الحقيقي بينه وبين الآخرين، وتقلل من العنف المُوجَّه ضد الأفراد سواء كان ذلك العنف موجهًا من خلال مؤسسات أو من خلال النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي ينجم عنه كل ذلك الغضب المكبوت، والتي بات الأفراد معه عاجزين عن تحديد أي جهة بالتحديد تضطهدهم، ولو عرفوها لن يتمكنوا من فِعل شيء مباشر تجاهها، وبالتالي يُوجِّهون غضبهم نحو الآخرين.
على صعيد آخر وفي قلب قضايا السلامة المجتمعية والنفسية، يطلُّ علينا من حينٍ لآخر خبراء وأطباء الصحة النفسية بخطاباتٍ تناقش قضية مثل الاكتئاب، وتنظر له كظاهرة فردية تخصُّ كيمياء المخ عند مريض الاكتئاب وتمسُّ تاريخه وعلاقاته الشخصية، بعيدًا عن أي مقاربة تمسُّ الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، بل والأنطولوجية للظاهرة.
فالمرض الذي أصاب أكثر من 300 مليون شخص على مستوى العالم وفقًا لمنظمة الصحة العالمية ويُعدُّ ثاني سبب رئيسي للوفيات بين الفئة العمرية 15-29 عامًا. يُطرح من قِبَل الطب النفسي كمجرد حالة مرضية فردية تنتج عن عوامل مختلطة اجتماعية ونفسية وبيولوجية يفقد فيها المريض تحكمه في عجلة قيادة حياته، وبالتالي لا يستطيع التكيف مع المجتمع المحيط وضروريات الحياة، وللوهلة الأولى تبدو تلك النظرة منطقية ومُفسِّرة للظاهرة، ولكنها مع ذلك تفتقد لأبسط قواعد التفسير على المستوى الكلي الاجتماعي؛ أولاً، لأنها تغفل أحد الأسباب الرئيسية للمرض ولا تتناوله بأي شكل نقدي، وثانيًا، تعود مرة أخرى لتثبيت تلك العوامل الاجتماعية كمقياس للتكيف والتحسن أو التردي عند المريض. فالتكيف ومزاولة الإنتاجية في الحياة اليومية بدون اضطرابات واضحة يُعدُّ علامة على الصحة النفسية وفقًا للطب النفسي، وهو ما سينتفي بالكلية إذا ما أخذنا في الحسبان أن نمط الحياة ذلك، المطلوب التكيف معه، هو نفسه عامل أساسي في إنتاج المرض.
الطب النفسي هنا غير معنِي بنقد قواعد التنافس الضاري الذي تفرضه الأعراف الاقتصادية للنظام العالمي بتمظهراته المحلية، ولكنه معنِي بتوجيه النصائح لِمَن يُعاني من الاكتئاب بزيارة طبيب نفسي أو التخلي عن علاقاته الشخصية السامة والتواجد بعيدًا عن ذوي الطاقة السلبية. وهو ما أدَّى في الأخير إلى انتشار وعموم الطب النفسي الدوائي والسلوكي المعرفي في مقابل خفوت وذبول أنواع أخرى من العلاج التي تكون أكثر جذرية في تعاملها مع المرض وأسبابه المختلفة مثل التحليل النفسي والعلاج بالمعنى.
ولأن التفكير الاختزالي يعشق المعارك المزيفة ودغدغة الشعور الفردي بالاضطهاد وتوجيهه ناحية آخر أو سبب وحيد ملموس يمكن إدانته – بعكس البنى الاجتماعية والاقتصادية التي لا يُمكن إدراكها بسهولة -، فلا يملُّ خطاب الطب النفسي من توجيه اللوم للمعتقدات الشعبية المضادة للطب النفسي أو التي تصمُ من يعاني من اضطرابات نفسية بالعار، ويعتبر الطب النفسي أن إلقاء اللوم على تلك المعتقدات بأنها هي الحائل بين مَن يعاني من اضطراب نفسي وبين شروعه في التحرر من معاناته، وأحيانًا اتّهامها بأنها أصل تلك المعاناة، مع إغفالٍ تام لنقد العوامل الاجتماعية الأخرى التي تكون لها علاقة ببنى الاقتصاد والاجتماع!
يَأَسْنَا، فلم نعد نفكر
في سياقٍ آخر ليس ببعيدٍ عن الاضطرابات النفسية، تنشب فيه حروب ثقافية من نفس النوع، يتم تناول ظاهرة التحرش في سياق ثقافي ينقسم فيه المجال العام لفريقين؛ يرى أحدهما أن ملابس المرأة هي السبب الرئيسي في التحرش ويرى الآخر أن توحش وجهل المجتمع الذكوري هو السبب، ويغدق الطرفان مجال النقاش بالتنظيرات والاتهامات والسخرية و«الميمز» أحيانًا، وندور مرة أخرى في فراغ مدوٍّ مملوء بالصياح ولا يحمل في داخلة بذرة أي رؤية لحلٍّ مأمول.
غياب التفكير الجذري لم يتنج عنه فقط خطابات وحلول سطحية، ولكنه كان بمثابة اعتراف من جميع الأطراف باليأس من الوصول لحلولٍ حقيقية؛ فأصبح التغير المناخي بمثابة كارثة يراها الجميع آتية من بعيد ومع ذلك لم يعد متاحٌ غير بعض الحلول التطهرية التي تعطي الفرد شعورًا بالتفوق الأخلاقي، بغضِّ النظر عن مدى كفاءاتها كحلول؛ فاستخدام الكيس الورقي سيكون مَخرَجًا للفرد من الاضطرار للتفكير العميق في المشكلة، والذي يمكنه أن يعوقه عن التكيف وممارسة حياته الإنتاجية والاستهلاكية التي تتسبَّب بدورها في ذلك التغير المناخي، واختيار الفرد أن يكون نباتيًّا سيجعله يشعر بأنه بخير وأدَّى ما عليه للحفاظ على البيئة وإنقاذ الكوكب من الضياع، وبالتالي فهو ليس مضطرًّا للالتفات للمشرد الذي يفترش طريقه اليومي للعمل، ومساعدته على نيل حياة أفضل.
تُعبِّر تلك التطهرية الفردية عن يأسٍ من الوصول لحلول حقيقية لمشاكلنا وعجز عن فهم حقيقي لها، وبقدر ما تكون تلك الحلول سطحية بقدر ما تكون متطرفة أحيانًا؛ فالتعبير عن العجز عن رؤية مخرج لمشاكل لا نستطيع حتى وضع اسم لها، يُمكن أن يتبدَّى في الصراخ بضرورة التوقف عن أكل اللحوم كما يمكن أن يتبدَّى في الانغماس في أكلها.
فالفاشية القومية التي تلوم المهاجرين على المشاكل الاقتصادية التي يُعاني منها بلد ما ترفض رؤية الأسباب الحقيقية التي دفعت هؤلاء المهاجرين للهجرة، كما تفعل أيضًا قوى اليسار الليبرالي التي تنادي بضرورة دمج المهاجرين فقط من منظور حقوقي، من دون محاولة فهم وبناء نضال/سعي حقيقي ضد الأسباب التي جعلت بلدانهم الأصلية غير قابلة للعيش.
في عالم اليوم، أصبحت وسائل المعرفة والاطلاع متاحة بشكلٍ كبير، ومع ذلك يعيش العالم الآن أكثر لحظاته يأسًا من مجرد تخيل عالم بديل يُمكن للبشر فيه العيش وفقًا لظروف اجتماعية واقتصادية مختلفة، وهو على ما يبدو علامة واضحة على أن المشكلة ليست في توافر المعلومات بل في التفكير بعُمق وأصالة كافيين خارج النسق، وهو ما يتطلب بناء نسقٍ آخر حتى لا يضيع ذلك التفكير في الفضاء المعلوماتي، وهي العملية التي يُمكننا تسميتها «التفكير الجذري».