تعويم الدرهم: هل حقًا المغرب ليست كمصر؟
للحضارات دوارتٌ فلكية، ولا تنشأ حضارةٌ إلا على أنقاض الأخرى، ويبدو أنّ هذا هو ما تحاول المغرب القيام به بخصوص تعويم الدرهم؛ فهى تحاول تحري الخطوات والإجراءات التي اتبعتها مصر في عملية تعويم الجنيه، والتي تمت في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، متجنبةً الوقوع فيها. وليس هذا كلامًا يتناوله العامةُ فيما بينهم، بل هو الموقف الرسمي للدولة ولرجال الاقتصاد فيها؛ حيث صرح مسئول البنك المركزي قائلًا:
وامتد الأمر من كونِه تصريحًا عابرًا إلى حملةٍ مُنظمة عنوانها «المغرب ليست مصر»، بدأتها الحكومة المغربية من أجل توضيح – أو تبرير – قرارها المُرتقب بتحرير سعر الصرف، المقرر له في النصف الثاني من العام الحالي، عن طريق عمل ورش توعية للصحفيين، ومنشوراتٍ للمواطنين عن خطة المملكة في ألا تكون المغرب مصر ثانيةً.
كيف تطمئن المغرب مواطنيها؟
أن حجم احتياطي المغرب من النقد الأجنبي بلغ 251 مليار درهم (25.25 مليار دولار) في نهاية أكتوبر/تشرين الأول، بما يكفي لشراء واردات البلاد من السلع والخدمات لمدة 7 أشهر، ومن المرتقب أن ترتفع إلى 7 أشهر و20 يومًا نهاية 2017، وفق البنك المغربي.
ومنها تصريحات نيكولا بلانشيه – رئيس بعثة الصندوق إلى المغرب – للصحفيين في العاصمة المغربية الرباط بعد انتهاء زيارة بعثة الصندوق للمملكة:
والذي قال أيضًا إن الدرهم لن يهبط فور تبني نظام الصرف المرن على غرار ما حدث في مصر.
وهو ما أكده الجواهري – والي بنك المغرب- حين دافع عن احتمالية ملاقاة المغرب نفس مصير مصر قائلًا: «نحن سنعتمد سياسة تحرير الدرهم بشكل إرادي، ومن الممكن وضع شروط في هذا الإطار، وبالتالي يجب عدم مقارنة ما هو غير مقارن، فالحالة مختلفة تمامًا».
ومنها ما قاله البنك المركزي إنّه بالتوازي مع مسار تعويم العملة سيعمل على تنفيذ سياسة استهداف مستوى محدد للتضخم، في محاولةٍ لضبط الأسعار التي ستتأثر بالتعويم التدريجي للعملة.
لماذا التعويم إذن؟
ونقتبس هنا تصريح المركزي القائل:
وحسب الرسالة التي وجهها الملك محمد السادس إلى محافظي البنوك المركزية ومؤسسات النقد في الدول العربية، خلال وقت سابق من العام الجاري، فإنّه «من الواجب الانتقال التدريجي نحو نظام صرف أكثر مرونة من أجل تعزيز تنافسية اقتصادنا وقدرته على مواجهة الصدمات الخارجية».
لكن التفسير الأبسط؛ أنّه عقب اتفاق الحكومة المغربية وصندوق النقد على قرضٍ، قيمته 3.47 مليار دولار أمريكي، في منتصف عام 2016، أعلن الصندوق أنه ينبغي على السلطات المغربية البدء في تنفيذ خطتها الموضوعة للتحول إلى نظام استهداف التضخم، وزيادة مرونة سعر الصرف، مما يساعد بدوره في الحفاظ على التنافسية، وتعزيز قدرة الاقتصاد على امتصاص الصدمات.
وكانت المغرب قد استعانت بصندوق النقد مراتٍ عدة من قبل، عندما حصلت على ثلاثة قروضٍ يُقارب مجموعها 15 مليار دولار، علاوةً على الفوائد التي ستتبعها. الأمر الذي أدى إلى احتلال المغرب المرتبةَ 29 في التصنيف الحديث لمعهد ماكنزي الأمريكي للبلدان الأكثر استدانة في العالم، حيث أصبحت تمثل القروض 136% من الناتج الداخلي الخام.
من ضمنها قرض في الثالث عشر من أغسطس/آب عام 2014، بقيمة 5 مليارات دولار، يمتد لمدة 24 شهرًا، وجاء مع هذا القرض «شهادة حسن سير وسلوك» من صندوق النقد، مؤكدًا أن المغرب سيحقق نسبة نمو 3.5% وقد يصل إلى 5%، ولكن ألا يدل اقتراض المغرب مرةً أخرى في 2017 على خطأ توقعات الصندوق؟ ربما كخطأ توقعاته بشأن تعويم الجنيه المصري. إذن ربما المغرب ليست مصر، ولكنّه من المبكر الجزم بأنّ هذا من المسلّمات.
الخطة
تعود بداية التفكير في مشروع إصلاح نظام الصرف إلى العام 2007، وتمت دراسته بشكل جدي بين أعوام 2010 و2015، ولكن كان الإعلان الرسمي عن الشروع في «تعويم الدرهم في البلاد بشكل تدريجي وصولًا للتعويم الكامل» يوم الثلاثاء الرابع عشر من فبراير/شباط لهذا العام، لكنّ التدابير والاجتماعات التي سبقت هذا الإعلان بدأت منذ شهورٍ عدة، وكانت اللمسات الأخيرة قد وُضعت على هذا القرار في الحادي والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2016، وتم إصدار بعض الأنباء عنها، إلا أن البنك المركزي المغربي قرر الانتظار ستة أشهر أخرى قبل تنفيذها، ليستغل تلك الأشهر الستة في تعبيد طريق التعويم بين المغاربة، خاصةً بعد الذعر الذي أثاره الوضع المصري في نفوسهم بعد تعويم الجنيه.
وتتكون خطة الحكومة من أربع مراحل:
الأولى: وضع حدٍ أقصى وحد أدنى لسعر صرف الدرهم، على أن يتدخل البنك حال تجاوزها.
المرحلة الثانية: يصبح سعر صرف الدرهم محدود المرونة، خاضع لسيطرة البنك المركزي عند الحاجة.
المرحلة الثالثة: سيكون سعر الصرف أكثر مرونة تمهيدًا للمرحلة الرابعة.
المرحلة الرابعة: تعويمٌ كامل يكون فيه سعر الدرهم خاضعًا لقانون العرض والطلب في سوق العملات.
ويبدو البنك المغربي مطمئنًا إلى سلاسة تنفيذ هذه الخطة، نظرًا لانخفاض معدلات التضخم الحالية والتي تبلغ 2% فقط – في حين أنها كانت تبلغ في مصر 23% إبان التعويم – ونظرًا لعدم وجود سوقٍ سوداء تقريبًا، سعر السوق السوداء في مصر كان ضعف السعر الرسمي قبل التعويم.
وأوضح البنك أنه سيقوم بتبني سياسة لاستهداف مستوى محدد للتضخم، وسوف يتم مُتابعة هذا المستوى والإعلان عنه صراحةً للجمهور، وسوف تعمل الدولة جاهدةً على ضبط هذا المستوى.
وذهبَ عبد اللطيف الجواهري – والي بنك المغرب – إلى أن سلاسة الخطة رهينةٌ بضمان ثلاثة عوامل أساسية، هي ضرورة أن تبقى الميزانية العمومية قوية، إضافة إلى نظام بنكي قوي، مع توفر احتياطات إيجابية من العملة.
تباين الآراء
لم تُغن رسائل التفاؤل والطمأنة التي لا تتوانى الحكومة المغربية والاقتصاديون المُؤيدون عن إرسالها عبر وسائل الإعلام، والورش التمهيدية، حتى شهد الشارع المغربي انقسامًا واضحًا، في قبول ورفض القرار، لكنّ الجميع أجمع على مرارة القرار، ولم يستطع المُؤيدون أن يصفوه بأكثر من «شر لابد منه».
فالمتفاؤلون، ومنهم المحلل المالي الطيب أعيس الذي يرى أنّه لن يكون للقرار تداعيات على الاقتصاد المحلي. وأضاف أن تداعيات التعويم لن تكون كبيرة جدًا على الاقتصاد المحلي، لأن الاقتصاد المغربي الآن في وضع جيد، بالنظر للمؤشرات الاقتصادية، وهو ما يسمح بهذا المستوى من الانفتاح المتعلق بتداول العملة المغربية، مؤكدًا أنه «ربما قد يستفيد المغرب، بالنظر لوجود تنافسية للاقتصاد الوطني».
ومنهم أيضًا يونس عصامي، نائب مدير العمليات النقدية والصرف في البنك المركزي المغربي، الذي اعتبر أن الفرصة مواتية للقيام بالإصلاح التدريجي لنظام الصرف بالمغرب، في ظل وجود احتياطي أجنبي مهم من العملة الأجنبية، والتراجع المستمر للعجز التجاري.
وقال عصامي: «إن البنك المركزي شرع فعليًا في إجراءات تطبيق الإصلاح، من خلال إجراءات عديدة، منها إنشاء أربع لجان للمتابعة، وهي اللجنة النقدية والمالية، ولجنة تنسيق إصلاح نظام الصرف، ثم لجنة سوق الصرف، وأخيرًا لجنة تنظيم سوق الصرف».
ولكن على الطرف الآخر يقف الخبير الاقتصادي المغربي نجيب أقصبي، الذي يرى أن مشروع تعويم العملة «من وصفات صندوق النقد الدولي، التي يريد أن يفرضها على عديد من الدول التي يتعامل معها»، وأكدّ أيضًا أنه «على الرغم من ارتفاع رصيد العملة الأجنبية في السنوات الأخيرة، بما يمثل بالنسبة للحكومة عاملًا مشجعًا للشروع في تعويم الدرهم، فإنه لا شيء تغير جوهريًا في بنية الاقتصاد المغربي، بما يجعلنا نقبل عملية كنا نرفضها قبل سنوات قليلة ماضية».
واتخذ أقصبي موقفًا حادًا فقال: «لا أرى إلا الخسارة، ولا يمكننا أن نتوقع استفادة الاقتصاد المغربي من هذا الإجراء، بل سيدخل الاقتصاد المغربي في دوامة تقلبات الاقتصاد الدولي».
أما إدريس الفينة، الأستاذ بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي، فذهب إلى: «إن قرار التعويم قرار عقلاني ولكن أضراره على الاقتصاد المحلي ستكون أكبر من فوائده، لأن الأخير غير مستعد له. متوقعا أن تقل قيمة صادرات البلاد عقب تنفيذ القرار، وهو ما سيقلص إيرادات الخزينة بشكل كبير».
انتفاضة الخُبز: هل تُلدغ المغرب من ذات الجحر مرتين؟
هل تُلدغ المملكة المغربية من نفس الجُحر مرتين، فليس المصير المصري فقط هو ما يجب أن تخشاه المملكة، بل يجب عليها أن تخشى المصير المغربي كذلك، ففي التاسع عشر من يناير/كانون الثاني عام 1984، شهدت مدن الحسيمة، والناضور، وتطوان، والقصر الكبير، ومراكش مظاهراتٍ عارمة بسبب تنفيذ المغرب سياسة التقويم الهيكلي التي أملاها صندوق النقد الدولي، إذ عانت المغرب من ارتفاع الدين الخارجي من 900 مليون دولار (سنة 1972) إلى 12 مليار دولار (سنة 1980)؛ فلجأت إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي.
وأدى القرض إلى ارتفاع كلفة المعيشة وتطبيق رسوم إضافية على التعليم، مما أدى إلى «انتفاضة الخُبز» التى راح ضحيتها، وفقًا لجريدة «إلبيريوديكو دي كاتالونيا» على المستوى الوطني 400 قتيل.
ما يقودنا إلى النتائج المُحتملة لهذا «التعويم»:
ربما لا تختلف نتائج التعويم المغربي عن التعويم المصري إلا في أذهان الحكومة المغربية فقط، لكن في أرض واقع يُتوقع أن يُكرر نفس السيناريو:
فالصندوق اشترط أن تتوقف الدولة عن دعم المحروقات، وتعزيز القطاع الخاص على حساب القطاع العام، وإعادة النظر في ملاءمة التعليم لسوق العمل، هذا بالإضافة إلى تحرير سعر الصرف.
وهنا تقف المغرب على مُفترق طرق:
فإذا سار الأمر كما هو مخططٌ له، فسوف تزداد قوة الاقتصاد حيث تزدهر السياحة جراء التعويم، نظرًا لانخفاض الأسعار الداخلية، ما يعني إقبال الأجانب على الدولة، وكثرة تحويلات المُغتربين نظرًا للفارق في العملة، مما يؤدي إلى تراكم العملات الأجنبية في خزينة الدولة، وقد يؤدي إلى جذب الشركات للاستثمار في الدولة لرخص العمالة والمواد فيها.
ولكنه في الوقت ذاته يضعف قوت الشعب، فالقرض، حتى وإن أصلح الاقتصاد بالأرقام، لكنه سيضع المزيد من الأعباء على كاهل الشعب المغربي، من أبناء الطبقات المتوسطة. خاصة إذا كانت الدولة تعتمد على الاستيراد لا التصدير.
وإذا أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وانهار الدرهم، وفقدت الدولة القدرة على السيطرة على الأسواق، وهربت منها الاستثمارات، وفقدت الدولة بريقها السياحي فجأةً (كما حدث في مصر، حيث ترتب على القرار رفع أسعار الوقود، والطاقة، وأسعار المواد الغذائية، واللحوم والدواجن، والأجهزة الكهربائية، وسط أزمة حادة في بعض السلع مثل السكر، وتفاقم نقص الدواء والمحاليل الطبية، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة طاحنة في الحصول على احتياجاتها الدولارية.)، فحينها تكون المغرب قد سارت بإرادتها إلى انتفاضة خُبز ثانية.
ولكن في الحالين، تبقى الحقيقة الثابتة أن الملك لم يعد المُتحكم في المملكة، وأن المملكة المغربية أصبحت مُستعبدةً لصالح صندوق النقد، وأصبحت غارقة في كمٍ مهول من الديون واجبة السداد، لتُصبح بذلك «كريستين لاجارد»، رئيسة الصندوق، هي المُحركة الحقيقية لحكومة المغرب فضلًا عن ملكها.
وختامًا؛ يجب على الحكومة المغربية ألا تركن كثيرًا إلى رسائل التهدئة التي يُرسلها الصندوق الدولي، وأن تبقى مُتيقظةً لخطة التعويم، إن كانت لابد فاعلة، حتى لا تفيق على تصريح كتصريح كريس جارفيس، رئيس البعثة الفنية لصندوق النقد الدولي لمصر: «إن الصندوق كان مخطئا في توقعاته لسعر الجنيه قياسا إلى أساسيات الاقتصاد، وأن تراجع قيمة الجنيه بعد تحرير سعر الصرف كان أكبر من توقعاتنا، كنا مخطئين فيما يتعلق بأساسيات الاقتصاد، ونتوقع أن تحدث عملية تصحيح تؤدى لارتفاع سعر الجنيه».
- صندوق النقد الدولي والمغرب
- الملك يعطي "الضوء الأخضر" لتحرير صرف الدرهم المغربي
- الدرهم المغربي على طريق الجنيه المصري.. مشهد آخر للتعويم قريبًا
- الدرهم المغربي يلتحق بركب التعويم ومخاوف من السقوط
- تعويم الدرهم المغربي.. طمأنة دولية ومخاوف اقتصاديين
- كيف يريد البنك المركزي المغربي تعويم الدرهم؟
- تعويم الدرهم المغربي.. تحديات ومخاوف
- الدرهم المغربي يلتحق بركب التعويم ومخاوف من السقوط