«نوجة» هدية إيران لروسيا
في 16 أغسطس/آب الحالي فوجئ الجميع بسماح إيران لقاذفات روسية إستراتيجية من طراز «توبوليف 22» الموصوفة بذراع روسيا الباطشة – وهي قاذفات بعيدة المدى، أسرع من الصوت، أُنتجت في عصر الاتحاد السوفيتي – باستخدام أراضيها للانطلاق في مهاجمة الأهداف المعادية لها في سورية، وهي حادثة تقع لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، ومنذ قيام الثورة الإيرانية في 1979م، ومنذ مجيء دولة الفقيه «الثورية» التي طالما أخذت على الدول الخليجية المجاورة سماحها بوجود القواعد الأمريكية والبريطانية الدائمة في مياه الخليج العربي/الفارسي.
هدية إيران للروس!
بل لقد خالفت إيران دستورها المكتوب الذي تنص مادته 146 على تحريم «إقامة أي نوع من القواعد العسكرية الأجنبية على الأراضي الإيرانية، حتى لأغراض سلمية»؛ لذا وصف المراقبون والباحثون في شئون الشرق الأوسط هذا التطور الدراماتيكي «بالتاريخي»، الأمر الذي أدى إلى بعض المناوشات الداخلية في إيران بين أعضاء البرلمان والحرس الثوري الإيراني رأس المؤسسات العسكرية فيها.
وقد طالب النائب حشمت الله فلاحت بيشه بإجراء مناقشة مغلقة في البرلمان مع قادة الحرس قائلًا: «يجب أن نعرف هل إعطاء قاعدة عسكرية إيرانية لروسيا يقوم على أساس التعاون المتبادل بين البلدين؟ هل بإمكان إيران استخدام القواعد العسكرية في روسيا أم لا؟ وهل هناك تدابير أمنية لحماية الأمن القومي الإيراني من هذا التواجد العسكري الروسي في القواعد العسكرية الإيرانية في إيران؟».
وعلى الرغم من هذه الحالة من الجدل بين السياسيين والعسكريين الإيرانيين، فإن المسألة لن تعدو – في نظري في هذه المرحلة على الأقل – مجرد نقاشات بين الطرفين دون تصاعد وتيرتها إعلاميًا وشعبيًا، اللهم إذا أسفرت عن نتائج سلبية على المحيط الإقليمي، والداخل الإيراني.
لكن يبقى السؤال الأهم: لماذا وافقت إيران على الطلب الروسي بإعطائها قاعدة «نوجة» الجوية في همدان غرب البلاد؟ وما تداعيات هذا التطور على المشهدين السوري والخليجي؟
مُجبر أخاك لا بطل!
يجب أولًا أن نعرف أن إيران اضطرت إلى هذا الخيار اضطرارًا بعد هزيمتها في معركة حلب مؤخرًا، فلقد اتخذت إيران وحلفائها من المليشيات اللبنانية والعراقية فضلًا عن الجيش النظامي السوري إستراتيجية عسكرية في تطويق حلب وتطويع مقاتليها، كتلك التي اتخذتها في حمص.
لقد رأت إيران أن سياسة الحصار والتجويع والخروج الآمن للمقاتلين بأسلحتهم الخفيفة في نهاية المطاف سيعمل على إعادة المدينة إلى حضن النظام، وهذا ما حدث بالفعل حين نجحت هذه الإستراتيجية في شهر يوليو/تموز الماضي، لكن توحد المعارضة المسلحة، واتخاذها مبادرة المفاجئة مكنتها من فك الحصار عن المدينة، وإعادة فتح طريق الكاستيلو، بل ودخول مناطق نفوذ النظام في كلية التسليح والمدفعية والفنية الجوية، وهي قلاع النظام العسكرية في مدينة حلب.
لقد فشل شهر من الحصار، ومن قبله أشهر في معارك متوالية مع المعارضة لقطع طريق الكاستيلو في عدة ساعات فقط، وانهار كل الدعم الجوي الروسي سدى في عدة ساعات أيضًا، فضلًا عن التواطؤ والسكوت الأمريكي الذي أسهم في ذلك المشهد، حتى لقد أعلن وزير الدفاع الروسي قبل فك الحصار بساعات بكل خيلاء وثقة أن روسيا ستُخصص عدة ممرات آمنة لخروج المدنيين من مدينة حلب!
وتعود انتصارات المعارضة في حلب إلى عدة أسباب جوهرية هي:
- توحد المعارضة بفصائلها المختلفة ومعها جبهة النصر وأحرار الشام والجيش الحر وغيرها في الميدان ونسيان أي خلافات بينية أثناء المعركة.
- اتخاذ إستراتيجية المفاجئة والمباغتة.
- الدعم اللوجستي والمادي من بعض الدول الإقليمية التي أرادت بفك الحصار عن حلب أن يعود التوازن العسكري والإستراتيجي في أرض المعركة.
هذه الحقائق الميدانية التي فوجئت بها إيران وروسيا من خلفها اضطرتهما إلى إعادة تقييم الخطط العسكرية والميدانية على الأرض، فتحرير حلب وإدلب وإعادة اتحاد الفصائل المقاتلة في هذه المناطق الشمالية من سورية يعني خطورة شديدة على النظام في حماة جنوبًا واللاذقية غربًا وربما حمص بعد قليل، وهو أمر لا تجد معه روسيا التي تتمركز في قاعدة حميميم العسكرية في اللاذقية إلا سرعة التحرك خشية من استهداف المعارضة المسلحة لهذه القاعدة كما استُهدفت طائرتها العسكرية بالقرب من حلب بكل سهولة وقُتل خمسة من عسكرييها أثناء معركة فك الحصار.
لقد أرادت روسيا أن تؤمن قواتها ومعداتها، كما أرادت أن تمعن في استخدام سياسة الأرض المحروقة التي اتخذتها في معارك سابقة في القوقاز أمام الإسلاميين، وأرادت أيضًا أن تستفيد من القيمة العسكرية التي تضيفها الطائرات الإستراتيجية من طراز توبوليف 22، باختصار المسافة الزمنية من روسيا إلى سورية، ومن تخفيف حمولة الوقود واستبدالها بحمولة أكبر من القنابل والمتفجرات.
لقد استخدمت إيران واستفادت من الورقة الدينية والمذهبية جيدًا، وأحيت – ولا تزال – مشروعها المذهبي في المنطقة العربية والإقليمية بشكل لافت ودؤوب، وها هي انعكاسات هذا المشروع حاضرة وبقوة في مناطق العمق العربي في كل من العراق ولبنان واليمن وفي سورية ذاتها، لكنها لأول مرة تتكئ على دعم دولي روسي صريح ينطلق هذه المرة من أراضيها القريبة من العراق وسورية.
وفي اليوم الذي انطلقت فيه القاذفات الروسية من قاعدة «نوجة» الجوية بهمدان، صرح الصينيون بمد يد المساعدة ودعم النظام معنويًا وعسكريًا، وهو تطور لا يقل أهمية في سير المعارك على الأرض السورية، وعلى المشهد الإقليمي برمته، ويؤكد بصورة واضحة على قاعدة الأحلاف الإستراتيجية والعسكرية العالمية التي باتت تترسخ في السنوات القليلة الماضية (حلف الناتو في مقابل حلف شنغهاي).
التداعيات السلبية على الخليج العربي
تداعيات هذه التطورات على العراق والخليج حيث لا يزال النفوذ الأمريكي حاضرًا وبقوة شديد الخطورة؛ لأن الصراع السياسي والدبلوماسي والعسكري حتى بين الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية حاضر وبقوة منذ ما قبل الأزمة السورية في 2012م، ودخول الروس عسكريًا في مؤازرة لإيران في موقفها في سورية يعني أن ثمة تململا وحنقًا روسيًا من الدور الخليجي في المشهد الإقليمي بكليته وعلى رأسه سورية والعراق.
الأشد خطورة من هذا أن الروس بدأوا يتدخلون بشكل قوي ولافت في الأزمة اليمنية التي تسبب الصداع الأكبر اليوم في رأس السياسة الخليجية والسعودية بالتحديد، وإن التداعيات السريعة المترتبة على الملف السوري باتت تأثيراتها لا تفرق بين الحدود السياسية بين الدول الإقليمية فضلًا عن الدولية، فأزمة المهاجرين السوريين أصبحت تهدد الأمن الأوربي، وهي تقوي من المبررات الروسية بشأن مخاوفها من مقاتلي القوقاز وعودتهم مرة أخرى إلى تهديد الأمن الروسي، وهي تهدم بشكل خطير المخططات الإيرانية التي ظلت لعقود طويلة تعمل على ترسيخها وتثبيتها في المشهدين السوري والعراقي واللبناني.
يرى الإيرانيون والروس أن العامل الأبرز في محاولات إفشال جهودهما الإقليمية الرامية لتقليم أظافر «الإرهاب» السني هي الدول الخليجية ممثلة في السعودية وقطر والكويت والبحرين والإمارات، بعدما تم تحييد تركيا عقب الإنقلاب العسكري الفاشل، واتخاذها سياسة التقارب – حتى الآن مع الروس والإيرانيين – لذا لم يكن من المستغرب اليوم أن نرى خبر دخول أسطول حربي روسي إلى خليج عدن، بالتزامن مع انسحاب عدد من الخبراء العسكريين الأمريكيين من السعودية ممن كانوا على اتصال ودعم لعملية عاصفة الحزم.
إن المشهد السوري يعيد – من آن لآخر- بصورة مدهشة بناء خريطة التحالفات في المنطقة، وهو أمر متوقع في ظل حالة السيولة السياسية والعسكرية التي تشهدها هذه الدولة شديدة الأهمية في منطقة الشرق الأوسط، فهي مفترق نفوذ القوى العالمية الروسية والأوروبية والخليجية والإيرانية، ولم يعد من المستغرب في ظل حالة التقدم والتأخر العسكري بين النظام السوري وإيران وروسيا من جهة والمعارضة المسلحة ومَن خلفها مِن القوى الإقليمية والخليجية مِن جهة أخرى أن نشاهد سرعة الأحداث وخطورتها على كامل المشهد الإقليمي الذي تلتهبُ درجة خطورته في المنطقة الواقعة من هضبة الأناضول شمالًا إلى اليمن جنوبًا، وهي المنطقة شديدة الأهمية والتأثير في المشهد العالمي برمته.