ديناصورات مصر الغابرة: قصة انقراضيين
لو امتلكت يوما آلة للسفر عبر الزمن، لاخترت العودة 100 مليون سنة إلى الماضي، إلى ما يعرف الآن بالصحراء الغربية لمصر، خلال ذلك الزمان قد أحتاج لقارب لأتنقل عبر البيئة النهرية الخصبة للمنطقة، المطلة على بحر تيثس القديم، كنت حينها لأتحرى الحركة البطيئة حتى لا يصدم قاربي بأشجار المانجروف المتشابكة، والأهم من كل ذلك أني سأكون على الأغلب مرتعدا شديد الحذر، فقد اخترت بنفسي التسلل إلى أرض العمالقة، سأكون حينها دخيلا على عصر الديناصورات العظيمة.
إلى تاريخ مصر الذي يسبق بناة الأهرامات بملايين السنين سنصحبكم عبر سلسة من الحلقات، سابرين أغوار ماضي قديم ملحمي عن سكان مصر إبان العصر الطباشيري قبل قرابة 100 مليون سنة، لنتعرف سويا إلى المغامرين والباحثين الذين عبروا الصحراء الكبرى كاشفين أسرار و ملابسات تلك القصة القديمة التي سجلتها الصخور وشهدت عليها الجبال، قصة ديناصورات مصر الغابرة.
سنتتبع في حلقاتنا الأولى خطوات عالم أحافير مخضرم، استطاع بفضل ذكائه الحاد وصبره وحماسه المشتعل لتاريخ الأرض القديم أن يتفوق على كل أقرانه من علماء الأحافير في عصره، بما أضافه للعلم من مكتشفات ثمينة، ليبني مجده اللامع من رمال الصحراء الكبرى في مصر، إلا أن ذلك المجد للأسف سرعان ما سيختفي ويتناثر بعيدا.
العالم هو «إرنست فراير سترومر فون رايشنباخ»، التاريخ هو 11 من يناير/كانون الثاني لعام 1911م، سترومر العالم الألماني ذو الطابع الأرستقراطي يمتطي جملا يخطو ببطء في رمال الواحات البحرية بمصر، يصحبه دليل من البدو،طباخ، وأمل كبير في العثور على جد أقدم للثدييات، إلا أن تلك الآمال كانت على وشك أن تنحني أمام اكتشاف أضخم، فور وصوله منخفض البحرية كان سترومر قد عبر ملايين السنين قبل انتشار الثدييات، العصر الذهبي للزواحف الضخمة أو الديناصورات.
الانقراض الثاني لديناصورات البحرية
قبل قرابة 95 مليون عام من الآن، أضخم المفترسات على الأرض –سبينوصورس- الذي اعتاد التربع على قمة السلسة الغذائية، يحوم ذهابا و إيابا باحثا عن أي وجبة كبيرة أو صغيرة تسد رمقه في صراع حاد للبقاء، لقد تغير موطنه كثيرا عما كان يعرفه، جفت الأنهار والبحيرات الغنية بالأسماك الضخمة التي كانت تشكل غذائه المفضل، نتيجة لارتفاع غير مسبوق لدرجات الحرارة، ماتت آكلات الأعشاب الكبيرة مع انحسار اللون الأخضر، ولم يبق للمفترس الضخم إلا الجيف، ليصبح كسائر الحيوانات القمامة، يؤمن حياته من الموت.
إلا أن وزنه الذي يقدر بعشرات الأطنان كان ليحتاج إلى المزيد من الطعام ليستطيع الصمود، لم تعد قدماه قادرة على تحمل وزنه الضخم، التوت ركبتاه ليسقط ببطء على الأرض محدثا ضجة كبيرة، أطلق صرخاته الأخيرة، وبدا أن قصة الزاحف الضخم على وشك أن تنتهي إلى الأبد.
لكن، كان لقوانين الطبيعة رأي آخر، ستحتفظ بصورة دائمة للمخلوق المميز في لوحة فنية شديدة الإتقان، بعد أن غطت الرمال كل ما تبقى من الأجزاء الصلبة المتفرقة منه، حملت المياه المتسربة تحت الرمال ببطئ مختلف المعادن، وكفنان ماهر بلمسات أنيقة هادئة، بدأت المعادن تتداخل مع الفراغات في عظام الوحش البائد، على مدار ملايين السنين تراكمت حتى تحجرت العظام كالصخر، لقد أصبح الوحش البائد «أحفورة».
بعد مرور سنين طويلة من انقراض الزاحف الضخم، كان لأحفاد الحيوانات الصغيرة من ذوات الدم الحار التي كانت تركض مرتعبة تحت أقدام الوحش البائد، الفرصة أخيرا للازدهار والنمو، التنوع ثم السيادة، تنوعت الثدييات و تفرعت إلى رتب مختلفة بعد انتهاء عصر الديناصورات، أحد تلك الفروع –الرئيسيات- ظهر بمكان قريب من الأرض التي كان يسكنها الوحش البائد، وقد طور مع الوقت القدرة على المشي منتصبا على قدمين كما كانت الزواحف الضخمة تدب الأرض قبله، إلا أنه تفوق على سواه بميزة متفردة لم يملكها أحد قبله، فبرغم من ضآلة أحجامهم، طور أحد تلك الأجناس مع الزمن دماغا كبيرا، عوضه عن الحاجة إلى الحجم الضخم، منحه السيادة، وزاد من قدرته على التحليل الدقيق لما حوله،الشغف والسؤال الدائم عن محيطه وتاريخه، كما أنه كان أيضا أكثر وحشية وأكثر قدرة على التدمير الواسع من الوحوش الضخمة البائدة.
إبادة التاريخ
في صباح الرابع والعشرين من أبريل/نيسان لعام 1944م وصل الكابتن «ليونارد شيشاير» إلى مطار «وودهول سبا» التابع لسلاح الجو الملكي البريطاني، بمظهره الذي يبدو كنجوم السينما و إنجازاته خلال السنين الأولى من الحرب، كان شيشاير معجزة تمشي على الأرض.
لقد كانت خسائر سلاح الجو البريطاني مفجعة خلال السنين الثلاث الماضية، خاصة بين قاذفات القنابل، حيث تشير الإحصائيات أن نسبة الخسائر البشرية المتوقعة لقاذفات القنابل البريطانية في تلك الفترة كانت تزيد عن 10% في الغارة الواحدة، بل أن خسائر سلاح قاذفات القنابل عام 1941م كان أكبر من الخسائر بين المدنيين الألمان في المواقع المستهدفة!
شيشاير كان مختلفا، خلال 4 سنين مستمرة من القتال، كان قادرا على إصابة أهدافه بدقة ثم العودة سالما إلى الوطن، إلا أنه كان يدرك أن مهمته القادمة هي الأصعب والأهم، كانت القيادة البريطانية ترغب أخيرا باستهداف قلب ألمانيا ومسقط رأس الحزب النازي، ميونيخ.
ميونيخ المدينة الأكثر تحصينا بعد برلين، سماؤها عصية على الأعداء، حاول البريطانيون استهدافها في الشهور الأولى من الحرب، إلا أن الآثار كانت مدمرة، ليست على الجانب الألماني، وإنما على الأرض البريطانية، حين نفذت قوات اللوفتوافا رد انتقامي على مدينة كوفتري الصناعية، مخلفة الدمار و الخراب خلفها، وقد انتظرت القوات البريطانية كثيرا الوقت المناسب لرد الثأر.
اجتمعت العوامل الكفيلة باختراق السماء الألمانية بحلول بحلول مساء 24 من أبريل/نيسان، قوات الباثفيندرز «pathfinders» التي تعني حرفيا «مكتشفو الطريق»، والتي تشكلت عام 1942م من أفضل الطيارين في السلاح الجوي، حسنت بشكل غير مسبوق دقة الضربات الجوية من قاذفات القنابل التي عانت كثيرا من عدم الدقة، حيث يسبق سرب الباثفيندرز القاذفات إلى الهدف المحدد، لتلقي بعلامات متوهجة تنبه القاذفات إلى موقع إلقاء القنابل.
إلا أن مهارات مقاتلي الباثفيندرز وحدها لم تكن كافية لاختراق عمق ألمانيا وسماء ميونيخ شديدة التحصين وإصابة الهدف بدقة، هناك عامل آخر قلب المعادلة، ليونارد شيشاير المقاتل الفريد يستطيع التحليق حتى ارتفاعات منخفضة للغاية تزيد من الدقة بشكل مذهل.
انطلق من وودهول قبل مغيب الشمس في سرب صغير من طائرات الموسكيتو الخفيفة، بانتظار إشارته المميزة والتي تستهدف محطة السكة الحديد الأساسية بميونخ، 244 من قاذفات القنابل الثقلية لانكستر، بعد مناورات لتشتيت دفاع العدو، وصلت القاذافت الضخمة إلى الهدف المحدد، في تمام الساعة 1 و 40 دقيقة صباحا كانت المهمة قد تمت على أكمل وجه.
صباح 25 من أبريل/نيسان أفاق سكان ميونيخ على حطام مدينتهم ليجدوا محطة السكة الحديد الرئيسية قد دمرت،إضافة إلى ركام 7 آلاف مبنى آخر بالجوار، أحدهم هو مبنى مرموق يعرف بـ «الأكاديمية القديمة» Alte Akademie ، والذي يحوي متحف بافاريا للأحافير والجيولوجيا التاريخية، ضمن المتحف يوجد في العرض 4 ديناصورات جديدة تماما على العلم، أحضرها قبل سنين قليلة عالم أحافير ألماني مميز من الصحراء الغربية لمصر، كان ذاك العالم هو إرنست سترومر، وكان تلك هي قصة الانقراض الثاني لديناصورات الواحات البحرية.