معضلة «الإنسان المُستباح» ومعاركه الوهمية
عندما صاغ الفيلسوف والرياضي الفرنسي «رينيه ديكارت» مبدأه الأشهر على الإطلاق: «أنا أفكر، إذًا أنا موجود»، تزامن ذلك مع بلوغ عصر النهضة في أوروبا أوجه، وظهور الكثير من العلماء الذين ينادون إلى اعتبار العقل وحده هو الفيصل الأساسي في الحكم، والضرب بأحكام الكنيسة عرض الحائط؛ فارتبط تبعًا لذلك الوجود الإنساني بالعقل ومدى قدرته على التفكير، وصارت قيمة الإنسان الفعلية مرهونةً به. وقد سبقه إلى ذلك المعتزلة، فنادوا بتغليب العقل على النقل، ورفعوا شعارهم: «الحسن ما حسنه العقل، والقبح ما قبحه العقل».
المشكلةُ في زمننا الاستهلاكي السائل أن المعركة بين الخير والشر، أو بين ما هو صحيح وما هو خطأ لم تعد مهمةً جدًّا، ولم تعد المبادئ الصّلبة التي كان المرء يبذل جهدًا كبيرًا وزمنًا طويلًا للتحلي بها، مستميتًا في الدفاع عنها، لم تعد هذه الأخيرة تحتل حيزًا معتبرًا من مساحة الحياة اليومية؛ إذ لا أهمية عندنا لما يفعله ديكارت أو ما تنادي به الكنيسة. لأهل العقل دينهم ولأهل النقل دينهم، أما نحن فملتنا الأرقام.
من هنا، باتت قيمةُ المرء معلقةً بما يكسبه من أرقام ومتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي: أنت محبوب من الجماهير، ويتابعك القاصي والداني، ويُعلِّق الجميع على صورتك البهية مع رفاقك، إذن فقد حجزتَ مكانًا في سلم القيمة الاجتماعية العالية. ما عدا ذلك فأنتَ بهذا الميزان شخص منبوذ، منتهي الصلاحية، رهين الماضي ومبادئه، يمضي معظم يومه في عيش واقعه الحقيقي، في الوقت الذي هاجر فيه كل البشر على سطح المعمورة إلى كوكب الواقع الافتراضي.
الأمر يشبه بطريقة أو بأخرى فيلم خيال علمي شاهدته قبل أشهر يحمل عنوان «In Time»، والذي تقوم فلسفته على استبدال المال بالوقت، وربطه بمدى البقاء على قيد الحياة؛ فالبقاء حسب فلسفة الفيلم ليس للأقوى ولا للأذكى، ولا للأقدر على التأقلم مع الأوضاع، وإنما لصاحب الوقت الأكبر. بعد سن الخامسة والعشرين، يبدأ الحساب، وبما أن الغني يملك عدد ساعاتِ أكثر من الفقير، تكون فرص العيش عنده أكبر، بينما يجاهد الفقير في استثمار وقته في الضروري فقط ليوفر شيئًا من حياته.
الأرقام الآن صارت تعمل عمل الوقت في الفيلم بالضبط؛ إذ يبدو أن الشهرة على وسائل التواصل الاجتماعي وكمية الأرقام المُجمعة هي المسئولة الآن عن تحديد استحقاق المرء للحياة، وهذه الظاهرة في جوهرها تُنذِر بكوارث مجتمعية، وبتشكيل جيل كامل من الأشخاص الذين لا يحسنون العيش في واقعهم، المتعودين على الزيف والخداع، الذين يقتاتون من اللايكات، والتعليقات، والإشارات، والأرقام.
الإنسانُ المُستبَاح
في عام 1995، نشر المفكر الإيطالي الفذ «جيورجيو أغامبن» كتابه «المنبوذ: السلطة السيادية والحياة العارية» الذي تُرجم إلى الإنجليزية بعد عامين؛ وقد أحدث الكتاب ضجّة كبيرة وقلب العديد من المفاهيم المتعلقة بالفرد وعلاقته مع السلطة، مع الجمع بين النقد السياسي والتفكير الفلسفي.
الإنسان المستباح أو الـ «Homo Sacer» هو الشخص مهدور الدم، الذي يمكن لأيًّا كان أن يقتله من دون أن يتعرض للعقاب، لأنه صار منفيًّا من المجتمع الإنساني، ولم تصبح له أية قيمة، إنه كما قال «أغامبين» إنسان ميت حي. ورغم أن المصطلح أُطلق على الذين يُستبعدون من ممارسة أي نشاط سياسي، أو المشاركة في الحياة الاجتماعية بسبب تزمت السلطة، لكنه مناسب جدًّا لإنسان العصر الحديث، الذي استبيحت حياته الخاصّة وأصبحت محل السفك على العلن.
فالانفلونسر التي تخبر متابعيها بكل ما يحدث في منزلها منذ لحظة استيقاظها وحتى نومها، وبالمكان الذي أمضت فيه شهر العسل، والهدايا التي أحضرها لها زوجها هي في الحقيقة مستباحةٌ، لعدم وجود حدود حمراء تمنع العلن من رؤية كل تفاصيلها، والخوض فيها كما يحلو لهم. الأمر ذاته ينطبق على كل مظاهر الاستعراض الأخرى التي عززتها وسائل التواصل الاجتماعي: صار الجميع على دراية تامة بما يحدث في منازل الجميع، وصارت خصوصيات الكل مهدورة الدم.
بطولة الوهم
في كتابه «الحياة السائلة»، يشرح عالم الاجتماع البولندي «زيجمونت باومان» سبب تحول عالم ما بعد الحداثة إلى مجتمع استهلاكي، مُسير إلى القمامة، يحوز بكل مواده ومواضيعه وحتى أفراده على مدة عيش قصيرة تُحددها تواريخ نهاية الصلاحية، ليصبح مصيره في سلة المهملات. ثم يستفيض في الحديث عن تداعيات الحداثة والرأسمالية التي جردت الإنسان من إنسانيته، وغيرت من خصاله، فلم يعد الناس يفهمون كيف يجرؤ المرء على التضحية، والاستقامة الأخلاقية، والجهاد ضد أمور شاقة على النفس.
هذه الصفات التي كانت في السابق ميزةً أساسيةً للأبطال والشهداء والرموز الرفيعة التي اتخذتها المجتمعات نموذجًا يُحتذى به، مع غيابها في مجتمعاتنا الحالية بسبب ارتفاع الأنانية والفردانية وانحصار عقلية المجتمع الواحد، والأثرة، والتفكير على مدى بعيد، كل ذلك غير من معايير الشهداء والأبطال في وقتنا، فبعد أن كانت الأسباب المؤدية إلى شهرة الأبطال مستمدةً من أفعالهم، صارت في عصرنا مستمدةً من صورهم، وصرنا علاوةً على أزمة الأرقام، نعيش أزمة الأبطال.
في حين أن تضحيات أبطال هذا الزمن، لا تعدو عن كونها وهمًا بطوليًّا يشبه «أحلام دون كيشوت» الشهيرة في خوض المعارك بعصا مهترئة وأسمال بالية.
وبينما يعيش الجميع معركة الأرقام، بات على العاقل أن ينفرد بنفسه بعيدًا عن كل هذا الزيف ويسلك رحلة البحث عن المعنى.