الخلافات بين تركيا وقبرص تعود إلى الواجهة: إليك أصل المسألة
الصدر الأعظم «صوقوللو محمد باشا» بعد الهزيمة في معركة «ليبانتو» البحرية
في الـ23 من فبراير/ شباط الماضي، اعترضت خمس سفن تابعة للبحرية التركية سفينة التنقيب التابعة لشركة «إيني» الإيطالية «سايبم 1200»، وأجبرتها على الرجوع والعدول عن التنقيب عن الغاز في المياه القبرصية، بحجة أن البحرية التركية تجري مناورات في هذا المكان.
يعيد هذا الصدام إلى الأذهان الأزمة القبرصية التركية، ولكي نفهم جذور المشكلة علينا العودة إلى الوراء قليلًا.
الوصول إلى ليبانتو
في سبتمبر/أيلول 1566م توفي السلطان «سليمان القانوني» عاشر سلاطين الدولة العثمانية وأقواهم أثناء حصاره لمدينة «سكتوار» المجرية. ورغم انتصار الجيش العثماني فإن الصدر الأعظم «صقوللو محمد باشا» كتم الخبر عن الجنود، وأعلن أن السلطان مريض وأنهم مضطرون للعودة إلى «اسطنبول» وعدم إكمال الزحف تجاه «فيينا».
أبلغ «صوقوللو» سليم ابن السلطان سليمان، والذي خرج ليستقبل الجيش العائد في «بلجراد»، وهناك تم إعلان خبر وفاة السلطان وصعود «سليم الثاني» مكانه. وصلى السلطان «سليم الثاني» على أبيه وأخذ البيعة من الجيش العثماني هناك في «بلجراد» وعاد الجميع لأسطنبول لدفن «القانوني».
ومع صعود «سليم الثاني» للحكم مكان أبيه كان له أولويات أخرى وكان أهمها جزيرة «قبرص». ورغم أن تاريخ الإسلام في قبرص قديم ويعود لعهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه، والذي أمر واليه على الشام معاوية بن أبي سفيان بركوب البحر لفتح الجزيرة إلا أن الأمور لم تستتب للمسلمين هناك أبدًا.
استمرت الحملات عليها سواء أيام الأمويين أو المماليك في مصر، حيث قام السلطان «الأشرف برسباي» بتنظيم ثلاث حملات بحرية كبرى على قبرص.
نجحت آخرها في احتلال الجزيرة بالكامل وأسر الملك «جانوس» عام 1426م. وعلى إثر تلك الحملة تم فك أسر الملك القبرصي مقابل فدية كبيرة، على أن يحكم قبرص تحت سلطان المماليك في مصر، مع دفع جزية سنوية لمصر. وظلت الأمور هكذا حتى ضُمت لجمهورية البندقية عام 1489م.
لكن بعد اكتمال سيطرة العثمانيين على كل حوض شرق المتوسط أصبحت قبرص هدفًا سهلًا لهم، وفي يونيو/ حزيران 1570م بدأ الغزو، وبعد معارك ضارية استمرت لأكثر من عام سقطت مدينة «فامجوستا» آخر معاقل البندقية في قبرص في أغسطس/ آب 1571م.
ظلت الجزيرة تحارب العثمانيين لأكثر من عام، إلا أن أحدًا من جيرانها المسيحيين لم يهب لنجدتها لظروف خاصة بكل دولة. وبعد جهود مضنية من البابا «بيوس الخامس»، نجح في حشد تحالف جديد سماه التحالف المقدس «holy league». وفي أكتوبر/ تشرين الثاني 1571م، اشتبك الطرفان في أكبر معركة بحرية في المتوسط منذ معركة «بروزة».
لكن على عكس معركة بروزة التي انتهت بانتصار العثمانيين، انتهت تلك المعركة البحرية الكبرى، والتي عرفت باسم «ليبانتو» بانتصار التحالف المسيحي، وتحطيم معظم الأسطول العثماني. لكن الهزيمة الكاسحة لم تفض لشيء تقريبًا والغرض الرئيسي من المعركة الذي كان استعادة قبرص، لم يحدث.
لأول مرة في تاريخ المسلمين يستتب الأمر لهم في قبرص. ستصبح ولاية عثمانية، يحكمها بايرلباي عثماني. وتحت حكم العثمانيين دخل الجنس التركي المسلم للجزيرة لأول مرة.
الاتفاق الثلاثي والوحدة المؤقتة
رغم الاستقرار الذي شهدته الجزيرة لأكثر من قرنين من الزمن، فإنه مع اندلاع الثورات في شبه جزيرة «المورة» أو «اليونان» عام 1821م، بدأت القلاقل تدب في قبرص و كريت، اللتين كان بهما أغلبية سكانية يونانية، واستنجد السلطان العثماني بمصر والجزائر لمساعدته على وأد الثورات في اليونان وقبرص وكريت.
نجح الجيش المصري بقيادة «إبراهيم باشا» في السيطرة على الوضع في قبرص وكريت، مما حدا بالسلطان العثماني للاستعانة به في اليونان. وفعلًا حقق الجيش المصري انتصارات كبيرة في اليونان. لكن تدخل البحرية الفرنسية والإنجليزية لصالح اليونان أدى لهزيمة كبيرة للبحريتين العثمانية والمصرية في معركة «نافارين» عام 1827م وتمكن الثوار الإغريق من حسم الأمور لصالحهم.
ثم كانت الهزيمة العثمانية أمام روسيا في الحرب الروسية العثمانية عام 1877م، والتي أدت لمؤتمر برلين، الذي حاولت فيه الدول الأوروبية التقليدية إيقاف الزحف الروسي والسلافي على أملاك الدولة العثمانية. وبناءً عليه قامت الدولة العثمانية بإعطاء قبرص لبريطانيا 1878م. رغم أنه في الأحوال الطبيعية كانت قبرص ستنال استقلالها أو تنضم لليونان.
استمرت قبرص تحت الحكم البريطاني حتى اجتمعت بريطانيا وتركيا واليونان مع ممثلين للقبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، وعبر سلسلة طويلة من المفاوضات في زيورخ ولندن نالت قبرص استقلالها أخيرًا في أغسطس/آب 1960م. ونص الدستور القبرصي على أن يكون الرئيس القبرصي يونانيًا منتخبًا بواسطة القبارصة اليونانيين ونائب الرئيس تركي منتخب بواسطة القبارصة الأتراك ولديه حق الفيتو علي قرارات الرئيس.
كما وقعت الدول الثلاث بريطانيا وتركيا واليونان على ما سُمي بمعاهدة ضمان. نصت المعاهدة في المادة الرابعة منها على أن الدول الضامنة، لها الحق في التحرك للحفاظ على الوضع الدستوري لقبرص المتفق عليه. أصبح الأسقف «مكاريوس الثالث» هو الرئيس الأول لقبرص، وأصبح الدكتور «فاضل كويوك» هو نائب الرئيس.
تصاعدت الحركات القبرصية اليمينة الموالية لليونان سريعًا. وفي 15 يوليو/ تموز 1974م تحرك الحرس الوطني القبرصي، المكون بصورة كبيرة من ضباط موالين للنظام العسكري الحاكم في اليونان، واحتلوا القصر الرئاسي في «نيقوسيا» وحرقوه وحاولوا قتل الرئيس مكاريوس، الذي هرب للقاعدة البريطانية في قبرص، ومنها إلى مالطا، ثم سافر لنيويورك لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأعلن أن قبرص تم احتلالها بواسطة الجيش اليوناني.
اقرأ أيضًا:قبرص: قصة الجزيرة التي يريدها الجميع
لم تتأخر تركيا، فتحرك الجيش التركي سريعًا، وبعد 5 أيام فقط من عزل الرئيس «مكاريوس»، قام الجيش التركي بغزو قبرص للحفاظ على الأقلية التركية هناك، ونجح في احتلال 7% وتكبيد الحرس الوطني القبرصي وكل القوات اليونانية على الجزيرة خسائر فادحة.
وعلى إثر الغزو التركي لقبرص وتصاعد التهديدات باندلاع حرب شاملة بين تركيا واليونان، ستكون اليونان هي الخاسرة على الأرجح.
قرر المجلس العسكري الحاكم عزل قائد الشرطة العسكرية «ديمتريوس يوانيدس» مهندس الانقلاب القبرصي، والحاكم الفعلي لليونان وقتها. قرروا تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة رئيس الوزراء السابق «قنسطنطين كارامينليس»، وفقدت القوات القبرصية واليونانية على الجزيرة الداعم الأول لها.
لم تفوت القوات التركية الفرصة، واجتمع ممثلو الحكومة التركية واليونانية والإنجليزية في جينيف للبحث عن حل للموقف. طالبت تركيا بدولة فيدرالية مع تبادل سكاني بين القبارصة الأتراك واليونانيين، لكن الرئيس القبرصي طلب مهلة 36 ساعة للتشاور بينما تركيا لم تعطه فرصة.
وفي 14 أغسطس/ آب بدأ الأتراك الجزء الثاني والأكبر من العملية، والذي كان يهدف للسيطرة على معظم الجزء الشمالي من الجزيرة بما فيه مدينة «فاماجوستا». تم ترحيل السكان اليونانيين من هناك بالقوة المسلحة للجزء الجنوبي من الجزيرة مع الإعلان عن أن 40% من الجزيرة أصبح فيدرالية تركية مستقلة تحت اسم: «فيدرالية شمال قبرص التركية».
ومع عدم اعتراف الأمم المتحدة أو أي دولة في العالم بالوضع الجديد، تفتق ذهن الحكومة التركية عن فكرة جديدة، فقامت فيدرالية شمال قبرص التركية بإعلان استقلالها، وأصبح اسمها «جمهورية شمال قبرص التركية». ومرة أخرى، لم تعترف أي دولة في العالم بالوضع الجديد باستثناء تركيا!.
ظلت العلاقات سيئة بين كل من قبرص وتركيا. تدخلت تركيا بقوة لمنع أي صفقات سلاح لقبرص منها صفقة «الإس-300» الروسية في 1997م. وفي النهاية تم وضع المنظومة علي جزيرة كريت. لكن مع بدء مفاوضات انضمام قبرص للاتحاد الأوروبي، بدأت محاولات إعادة توحيد الجزيرة.
وبين 2001 – 2003، قام الأمين العام للأمم المتحدة «كوفي عنان» بجهود كبيرة لتوحيد الجزيرة تحت نشيد وعلم واحد. نجح في الخروج بخطة فيدرالية تنص على الآتي:
1. أن يتكوّن مجلس رئاسي مدني مكون من ستة أفراد. أربعة من اليونانيين، واثنان من الأتراك مع اختيار رئيس، ونائب تركي وآخر يوناني.
2. أن يتكوّن مجلس تشريعي مكون من غرفتين بالتساوي بين الأتراك واليونانيين.
3. أن تتكوّن محكمة عليا مقسمة بالتساوي بين الأتراك واليونانيين، مع وجود ثلاثة قضاة أجانب.
4. عدم عودة من تم ترحيلهم أثناء الحرب لديارهم.
في الـ24 من أبريل/ نيسان 2004م، عُرض الإستفتاء على الشعب القبرصي بمكونيه، ورفض القبارصة اليونانيون خطة «عنان» بأغلبية كاسحة بلغت 75.3%، في حين وافق القبارصة الأتراك بنسبة بلغت 64.9%. و
رغم دعم الأمم المتحدة للخطة، وموافقة كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والسويد على الخطة، فإن الرفض اليوناني كان عقبةً أمام اتحاد شطري الجزيرة، لتستمر المشكلة بلا حل حتى يومنا هذا!.