ثارت ضجة كبيرة خلال الأسبوعين الماضيين، عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية في 14 يوليو/تموز 2023 نتائج مراجعة أجرتها الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC)، ولجنة الخبراء المشتركة المعنيّة بالإضافات الغذائية (JECFA)، وأدت إلى تصنيف مادة الأسبارتام كثيفة الاستخدام في المنتجات الغذائية كمادة مسرطنة محتملة أُعطِيَت درجة تصنيف (2B) على تصنيف الوكالة الدولية لأبحاث السرطان، وهي درجة التصنيف الثالثة مع أصل أربع درجات.

كالعادة، عندما تتناول وسائل الإعلام العامة مثل تلك الأخبار الطبية، فإنها تجنح إلى نوعٍ من التهويل والتبسيط المخل في آن، مما يثير الكثير من الفزع الزائد عن الحد، وتضيع الحقيقة العلمية المُركِّبة في معمعة المبالغات والتسطيح. ولأنَّ كلمة (سرطان) مرعبة بحق في أذهاننا جميعَا، فإنَّ الأخبار التي تتعلق به تحظى باهتمام كثيف، وبقدرٍ كبير من التوجس والذعر، وهكذا، أصبح من شبه اليقيني لدى الكثير من المشاهدين والمتابعين الذي اطلعوا على هذا الخبر أن الأسبارتام يُسبِّب السرطان، وأنه من الأفضل الامتناع التام عن استهلاكه، وأن السلطات حول العالم عليها مواجهة مافيا الشركات الكبرى صاحبة المصالح، وأن تحظر تداول هذه المادة المسرطنة بالغة الخطورة.

والآن، بعد أن انتهى هذا (الترند) وسكن الكثيرُ مما أثارَه من الغبار، نناقش الأمر بهدوء من وجهة نظرٍ علمية محايدة، ونحاول أن نضع الأمور في نصابها الصحيح.

هل يستحق الأسبارتام كل تلك الضجة؟

الأسبارتام من أوسع المُحليَّات الصناعية الخالية من السعرات الحرارية استخدامًا حول العالم في المنتجات منخفضة السعرات والمشروبات الغازية (الدايت). تذكر إحدى الدراسات العلمية التي صدرت عام 2021، أن الأسبارتام يدخل في صناعة أكثر من 5 آلاف منتج غذائي حول العالم مثل المشروبات الغازية والزبادي والمخبوزات والآيس كريم والعلكة … إلخ. بينما تقدر دراسات أخرى أنه يدخل في أكثر من 12 ألف منتَج. وقد بدأ استخدامه بشكلٍ تجاري واسع منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين، أي إن هناك أكثر من 40 عامًا من تناول تلك المادة من قِبَل عشرات الملايين من البشر حول العالم.

يسعى الملايين حول العالم لمحاربة السمنة، وأهم مسبباتها حول العالم هو الإسراف في تناول الأطعمة عالية السعرات لا سيًّما السكريات. والأسبارتام وغيره من المُحليات منخفضة السعرات قد أحدث اختراقًا مهمًّا في مساعدة الكثيرين من محبي السكريات والمشروبات الغازية على الإقدام على بدء حمية غذائية لخفض الوزن، بتقليل فرص حدوث الانتكاسات المتكررة نتيجة الرغبة في تناول السكريات. ولذا، فقد تضاعف استهلاك المنتجات الغذائية المُحلاة بالأسبارتام، وأصبح سوقُها يدر المليارات من الأرباح. وتتوقع الأبحاث الاقتصادية أن ترتفع قيمة سوق مادة الأسبارتام من 367 مليون دولار عام 2022 إلى أكثر من 560 مليون دولار عام 2031، رغم وجود العديد من المُحليات المنافسة له.

اقرأ أيضًا: أدوية إنقاص الوزن: سؤال وجواب

ليس بتلك الخطورة الشديدة .. إلى الآن

في مقال سابق (هل مشروبات الدايت الغازية صحية؟) سلَّطنا الضوء على مشروبات الدايت الغازية، وهي من أشهر المنتجات المعتمدة على الأسبارتام في التحلية، وتوصَّلنا بمراجعة الأدلة العلمية المتاحة وقت كتابته إلى أن التناول المعتدل لتلك المشروبات لا يزال آمنًا من الناحية الصحية، ولا نرى أن الإعلان الجديد لمنظمة الصحة العالمية يغير هذا بشكل جذري للأسباب الآتية:

  • بالعودة إلى نص الإعلان الرسمي عن تصنيف الأسبارتام كمادة مسرطنة محتملة على موقع منظمة الصحة العالمية، سنجده يتحدث عن أدلة علمية (محدودة) عن كون الأسبارتام مادة مسرطنة في الإنسان. إذًا فالأدلة التي بنيَ عليها القرار الجديد ليست أدلة بالغة القوة، وهذا يفسر الحذر في التصنيف وتبعاته.
  • التصنيف الجديد للأسبارتام ليس كمادة مسرطنة مؤكدة، إنما مادة مسرطنة محتملة possible. وكما ذكرنا، فقد منحته الوكالة الدولية لأبحاث السرطان تصنيف 2B، وهو أولى درجات تصنيف المواد المسرطنة، وهناك درجتان أعلى في الخطورة منه، وهي 2A والتي تعني مادة مسرطنة مرجَّحة probable، والتصنيف الأول والذي يعني مادة مسرطنة مؤكدة.
  • من أقوى الأدلة التي استند إليها التصنيف الجديد للأسبارتام، دراسة فرنسية واسعة نُشِرَت في 2021 في الدورية الأوروبية للصحة العامة، وشملت أكثر من مائة ألف فرنسي، وأظهرت نتائجُها أن من يتناولون المنتجات المحتوية على الأسبارتام لديهم خطورة أعلى بنسبة 20% للإصابة بالسرطان بوجهٍ عام، و25% للإصابة بسرطان الثدي بالمقارنة بمن لا يتناولونها. وفي نفس العام 2021، نشرت جامعة كامبريدج نتائج دراسة أثبتت أن استهلاك المشروبات المُحلاة بالمحليات الصناعية تزيد احتمالات الإصابة بسرطان الكبد بنسبة 28%.
  • لكي نضع تلك الأرقام في حجمها الصحيح، سنقارنها مثلًا بنتائج دراسة نُشرت عام 2019 عن خطورة التدخين في التسبب بالوفاة بأمراض القلب في شرائح عمرية وجنسية مختلفة، حيث تراوحت نسبة الخطورة لدى المُدخنين الحاليين بين 95% و426%. وهناك نتائج دراسة كورية نشرت عام 2016 أظهرت أن تعاطي السيدات الكوريات لـ 10 إلى 19 سيجارة يوميًّا يزيد احتمالات إصابتهن ببعض أنواع سرطان الرئة أكثر من 2200%.
  • في البيان الرسمي الذي أصدرته منظمة الصحة العالمية، ذُكر أن الأدلة العلمية المتاحة حاليًّا لم تدفع الهيئات العلمية المعنية إلى أن تُغيِّر الحد الأقصى للاستهلاك اليومي الآمن لمادة الأسبارتام، وهو 40 مجم لكل كجم من وزن الإنسان (منظمة الغذاء والدواء الأمريكية ما تزال تضع رقمًا أعلى قليلًا وهو 50 مجم لكل كجم). فإذا أجرينا حساباتنا على أصحاب الوزن المعتدل حوالي 75 كجم، فإن الحد الأقصى اليومي من استهلاك الأسبارتام هو 3 آلاف مجم، وهو كم مرتفع للغاية، لا يصل معظم المستهلكين إلى نصفه أو حتى ربعه. فزجاجة المشروبات الغازية الدايت (الكانز) الواحدة تحتوي بين 200 و300 مجم، أي إن هذا الشخص معتدل الوزن لكي يصل إلى الحد الأقصى الآمن فعليه أن يشرب 10-15 عبوة من المشروبات الغازية الدايت.

اقرأ أيضًا: هل مشروبات الدايت الغازية صحية؟

الخلاصة

  • في ضوء الأدلة العلمية المتاحة حتى الآن، بالفعل ليس الأسبارتام آمنًا بشكل كامل، لكنه أيضًا ليس شديد الخطورة كما أوحت الكثير من الأخبار التي تحدثت عنه في الأيام الماضية. وقد يتغير هذا مستقبلًا وفقًا لما ستُظهره الأبحاث العلمية المستقبلية.
  • الاعتدال في كل شيء هو الاختيار الأمثل. فننصح بالتقليل من استهلاك المشروبات والأطعمة المحتوية على الأسبارتام، والابتعاد بمسافة كبيرة عن الحد الأقصى الحالي من الاستهلاك الآمن (مثلًا الاكتفاء بعبوتين أو ثلاثة يوميًّا من المشروبات الغازية المُحلاة بالأسبارتام) ويُفضَّل تجنب تناولها بشكل يومي مستمر لفترات طويلة.
  • أفضل أنواع السكريات هي الموجودة مباشرة في الأغذية الطبيعية مثل الفواكه أو عسل النحل الطبيعي، ولذا فيجب أن تكون تلك الأطعمة هي المصدر الرئيس للسكريات، بدلًا من السكر الأبيض الصناعي أو بدائله كالأسبارتام، وأن تُتَناوَل باعتدال تجنبًا لزيادة الوزن.

اقرأ أيضًا: كيف تقهر الكولسترول قبل أن يقهر صحتك؟