هل قرأت من قبل عن دولة تعرض أراضيها للإيجار؟ إليك واحدة
كانت البلاد تشهد صراعًا انتخابيًا في أبريل/نيسان الماضي، وكان لافتًا توافق المرشحين الـستة على ضرورة دعم بقاء القواعد الأجنبية، والعمل على جذب مزيد من الدول لبناء قواعدها على الأراضي الوطنية؛ لاعتبارها واحدة من أهم مصادر الدخل القومي. نتعرض في سياق التقرير لأهم القواعد العسكرية على الأراضي الجيبوتية، بالطبع سنولي اهتمامًا أكبر لأحدثها، إذ تسعى المملكة العربية السعودية لإنشاء قاعدتها الخاصة في ظل تنافس جيو-إستراتيجي بينها وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية على الساحة الشرق أوسطية.
بهذه الكلمات أكد محمود علي يوسف، وزير خارجية جيبوتي، اعتزام بلاده استضافة قاعدة عسكرية على أراضيها، لتُضاف إلى قائمة القواعد الموجودة، والتي تعتبر ذات فوائد اقتصادية وسياسية لبلد لا يملك إلا موقعه الجغرافي المتميز على المضائق البحرية المهمة.
السعودية تبحث عن موطئ قدم في جيبوتي
تقع جيبوتي على الجانب الغربي لمضيق باب المندب، وتُعد إحدى بلدان القرن الأفريقي، وهو ما جعلها تطل على ممرات مائية إستراتيجية مهمة، رغم مساحتها الصغيرة (23 ألف كم مربع)، وعدد سكانها الهزيل، والذي يُقدر بنحو 800 ألف نسمة. وبسبب موقعها المهم وفقرها الاقتصادي استثمرت في اقتصاديات القواعد العسكرية لتحقق منافع اقتصادية وسياسية.
ونظرًا لما تمر به السعودية في الفترة الأخيرة من صراعات وحرب بالوكالة مع إيران في العديد من المناطق الساخنة، والتي وصلت إلى جوارها المباشر في اليمن وقبلها في العراق وسوريا ولبنان، سعت للاتفاق مع جيبوتي على إنشاء قاعدة عسكرية وبحرية، فلم تكتف بالمناطق التي تواجه فيها إيران والتي لم تنجز فيها أي تقدم يُحسب لها حتى الآن.
وتكتسب جيبوتي أهميتها -بالنسبة للسعودية- من موقعها القريب بشكل كبير، فهي تبعد عن مدينة جدة السعودية فقط حوالي 688 ميل، وعن ميناء عدن في اليمن حوالي 133 ميل. وقد استغلت إيران جيبوتي وإريتريا في تهريب الأسلحة إلى الحوثيين في اليمن؛ ما ساعد على إطالة أمد الصراع وصمودهم فترة طويلة منذ بدء عاصفة الحزم في مارس/آذار 2015. وقد كلف طول أمد الحرب اليمنية المملكة سياسيًا وأخلاقيًا واقتصاديًا، لهذا تبحث جاهدةً عن تسريع وتيرة وإنهاء الحرب الجارية، والتخطيط لما هو مقبل من صراعات محتملة.
وتُعتبر جيبوتي مكانًا مثاليًا للملكة لإقامة قاعدتها، فهي لن تكون مجرد قاعدة تمويل وإمداد لوجستي فقط، بل أكثر من ذلك، فقد صرح من قبل سفير جيبوتي لدى المملكة ضياء الدين بامخرمة، في8 مارس/آذار 2016، بأنه في حال توقيع الاتفاق مع الرياض لإنشاء القاعدة العسكرية فإن ذلك سيشمل التعاون في كل الجوانب العسكرية بريًا وبحريًا وجويًا.
الجغرافيا وحدها لم تجعل من جيبوتي خيارًا متميزًا، السياسة كذلك، إذ تستطيع المملكة استغلال حاجتها الاقتصادية بإغرائها بالمزيد من الأموال. وقد وقفت جيبوتي من قبل إلى جانب السعودية في دعم عملياتها العسكرية في اليمن، وفتحت مجالها البحري والجوي لقوات التحالف العربي؛ ما أسهم إلى حد كبير في تقييد قدرات الحوثيين، وإن حدثت بعض عمليات التهريب فإنها معدودة وضعيفة ولا تقارن إذا ما لم يكن هناك تعاون أو رقابة من قبل جيبوتي.
وتخطط السعودية بتقوية هذه القاعدة ليس فقط لمواجهة إيران وإنما لحماية مشاريعها المستقبلية في أفريقيا، كمشروع «أطلانتس 2»، والذي وقعت عليه مع السودان في مايو/أيار الماضي، وتقدر استثماراته بنحو عشرين مليار دولار، ويهدف إلى استغلال الثروات الطبيعية الموجودة في قاع البحر في المنطقة المشتركة بين البلدين.
ويقلل بعض المحللين من أهمية القاعدة السعودية، إذ لن تستطيع المملكة العمل بحُرية في هذه القاعدة ولن تورط جيبوتي في حروب أو صراعات كبيرة معها؛ نظرًا لوجود الولايات المتحدة وفرنسا والصين واليابان هناك، فلن تقبل هذه الدول الكبرى الإضرار بمصالحها من أجل السعودية، ولهذا من المتوقع أن تحد هذه القوى من توظيف الرياض للقاعدة عسكريًا بشكل كبير في المستقبل.
وما يؤكد ذلك، أن جيبوتي لن تعطي شيكًا على بياض للرياض لتفعل ما تشاء بالقاعدة المسقبلية وبشكل غير مقبول من قبل القوى الكبرى الموجودة في جيبوتي هو رفض الأخيرة من قبل طلبًا روسيًا بإنشاء قاعدة لها بسبب الضغوط الأميركية.
ولهذا لن تكون القاعدة ذات فاعلية كبيرة للسعودية، فهي إن أرادت محاربة القرصنة فموقعها على البحر الأحمر يسمح لها بذلك، وإن أرادت البحث عن نفوذ فمشاريعها الاقتصادية قد تكفل لها ذلك، فالقوى الكبرى أنشأت هذه القواعد لحماية نفوذها الإستراتيجي والعسكري في أفريقيا والمناطق الحيوية إضافة إلى بعدها عن المنطقة، أما بالنسبة للسعودية فالأولى لها أن تنهي الأوضاع في اليمن وتقيم نظامًا يستطيع فرض سيطرته على اليمن ويحمي مصالحها.
ويؤكد ذلك أنه رغم عمليات تهريب الأسلحة الضئيلة من السواحل الأفريقية إلى الحوثيين، إلا أنها لم تحسم الحرب حتى في حدودها المباشرة مع الحوثيين مثل صعدة فأمامها الفرصة لدخول اليمن من هناك، ولكنها لن تستطيع بسبب قلة خبرات وكفاءة جيشها، الذي لم يقدر على التوغل في الحدود اليمنية ويكتفي فقط بعمليات القصف المدفعي والضربات الجوية.
ولهذا لن تكون القاعدة ذات فائدة كبيرة للملكة في مواجهة إيران، فهي لها حدود مع العراق وباقي حلفائها في الخليج لهم حدود مع إيران، وإن أرادت فعليها تعزيز دفاعات هذه الدول وتقوية دفاعاتها في المناطق المحاذية للعراق.
الكل يتسابق على جيبوتي
تحتضن جيبوتي عدة قواعد لبعض القوى الكبرى، وأولهم فرنسا والتي استعمرتها لما يقرب من قرن؛ ولذا بعد الاستقلال وقّعت معها اتفاقية عسكرية تضمن من خلالها تواجد بين 3800 و4500 جندي فرنسي، ثم وصل حاليًا العدد إلى حوالي 900 جندي، مقابل عقد إيجار بقيمة 34 مليون دولار سنويًا، وتمثلت أهميتها في حماية حركة التجارة عبر مضيق باب المندب، وحماية جيبوتي من أي اعتداء خارجي.
وإلى جانب القاعدة الفرنسية أنشأت واشنطن في 2001، قاعدة «ليمونيير»، وتستضيف 4500 جندي أمريكي وشركات مقاولات، وتنفذ مهمات ضد التنظيمات الإرهابية في اليمن والصومال، وتدفع أمريكا مقابل ذلك 63 مليون دولار سنويًا لجيبوتي، بعد أن جددت مدة الإيجار لعشر سنوات إضافية على الأقل في مايو/أيار 2014، وكانت قبل ذلك تدفع حوالي نصف المبلغ.
وانتقالًا إلى اليابان التي تعتبر قزمًا عسكريًا وعملاقًا اقتصاديًا، أنشأت قاعدة عسكرية في جيبوتي، تمكنها من المشاركة في أعمال التصدي للقراصنة، وتبلغ قيمة إيجار القاعدة حوالي 33 مليون دولار أمريكي سنويًا.
ولم تفوت الصين الفرصة وانضمت لتحجز لها مكانًا يضمن مصالحها الاقتصادية والسياسية في أفريقيا، إذ أعلن الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر نية الصين إنشاء أول قاعدة عسكرية بأفريقيا في 2017، تحت ستار مكافحة القرصنة وضمان أمن مضيق باب المندب، وستنشر فيها قرابة 10 آلاف عسكري مقابل 100 مليون دولار سنويًا، على أن يستمر العقد لمدة 10 سنوات.
ما الذي يدفع بلدًا كـ«جيبوتي» لتأجير أراضيها؟
استثمرت جيبوتي بشكل متميز في القواعد العسكرية رغم مخاطرها الأمنية، مستغلة حالة التنافس الدولي والإقليمي على كسب مناطق نفوذ إستراتيجي وحماية مصالحها الاقتصادية والعسكرية،لدعم اقتصادها والذي بلغ نحو 1.5 مليار دولار في عام 2014، وهو رقم صغير جدًا، ولهذا قد يشكل تأجير القواعد مكسبًا كبيرًا لها من حيث إتاحة مورد مهم ودائم للحكومة، إضافة إلى توفير فرص عمل للسكان، حيث تصل نسبة البطالة لـ60%.
وتُقدر العوائد السنوية في المجمل بــــ226 مليون دولار، وهو ما يساوي 15% أو أكثر من ثلث الإيرادات الحكومية سنويًّا، وتؤكد هذه الأرقام الأهمية الاقتصادية للقواعد العسكرية للاقتصاد الجيبوتي.
ويستفيد النظام الحالي سياسيًا من هذه القواعد، حيث توفر له غطاءً دوليًا تحت ستار التعاون في مكافحة الإرهاب والقرصنة، إضافة إلى تقوية علاقاته بالدول الكبرى؛ ما يجعله يحصل على ظهير دولي قوي يستطيع حمايته من أي أخطار مستقبلية. فلن تقدر دولة على سبيل المثال على التعرض لجيبوتي، والتي تستضيف ثلاثة أعضاء من مجلس الأمن على أراضيها.
هل تحمي القواعد جيبوتي فعلًا؟
من المؤكد أن الدول التي تحتفظ بقواعد عسكرية لدى جيبوتي تمارس ضغوطات عليها، خاصةً وأنها دول كبرى، ولكن ردًا على احتمالية تأثير القواعد على السياسة الداخلية لجيبوتي وسيادتها، نفى وزير خارجيتها هذا الأمر، وأكد أن بلاده ستمضي في هذه السياسة،قائلًا: «أمن مضيق باب المندب هو لمصلحة الجميع، وإذا كانت هناك قواعد عسكرية تستضيفها جيبوتي لحماية هذا الأمن، فنحن ما زالت لدينا قناعة بأن هذه القواعد تحمي هذا الأمن الدولي، ولهذا الغرض نحن لم نتردد يومًا ما في هذا الأمر».
ورغم ما تحصل عليه جيبوتي من منافع اقتصادية من تأجير القواعد إلا أنها ستبقى ضئيلة ومشروطة، ولهذا فالأولى أن تطورها إلى مشاريع اقتصادية مثل إنشاء الموانئ الضخمة، فهذه القواعد قد تجعل أرضها مسرحًا لصراعات مكلفة مستقبلًا لا سيما وأنها تستضيف أضداد ومنافسين، ومن المرجح أن تدخل هذه الدول في صدامات مستقبلًا، كذلك ستبقى رهينة ضغوطات وتوازنات هذه الدول في المستقبل.