هل بحث السوريون عن السعادة أم عن التأهل للمونديال؟
قبل ما يزيد عن 6 أعوام كانت الجماهير السورية تجتمع في مطاعم ومقاهي المدن السورية لمتابعة المباراة الأولى للمنتخب السوري أمام المنتخب السعودي ضمن منافسات كأس آسيا المقامة في قطر آنذاك. في تلك المباراة تمكن المنتخب السوري من تخطي عقبة المطب السعودي، حمل هذا الانتصار بين طياته الذكرى الأخيرة المفرحة التي عاشها الشعب السوري على الصعيد الرياضي الكروي.
منذ ذلك الحين بدأت الكرة السورية مسلسل الهزائم والخيبات كحال البلد تمامًا، مزيد من الهموم، وكثير من الأسى في بلد لا مكان فيه للفرحة والسعادة أو الأمل. واستمر الوضع على حاله طيلة السنوات الماضية، لكن تغير الأمر هذا العام مع عودة غير متوقعة للكرة السورية، من خلال المنافسة على بطاقة التأهل للمونديال بنسخته الروسية، المنتخب السوري على مشارف التأهل لكأس العالم للمرة الأولى في تاريخه، وفي ظل أحلك الظروف التي يمر فيها الشعب السوري والدولة السورية.
فأصبحت الأيام التي سيلعب فيها المنتخب السوري أشبه بأيام الأزمة السورية في بداياتها، الشوارع شبه فارغة، الصمت يطبق عليها في مشهد غير مألوف، وكأن قرارًا لحظر التجول قد اتُخذ، والجميع متربص خلف الشاشات لمعرفة ما سيحصل في نهاية هذا الحظر. لكن مرة أخرى لم يجد السوري الفرحة المنتظرة من منتخبه، وعادت الشوارع لتكتسي هذا الشحوب المعتاد على أوجههم منذ اشتعال فتيل الأزمة السورية. فالسوريون لم يبجثوا عن التأهل على الإطلاق، وجل ما أرادوه هو السعادة، السوري لا يعنيه كأس العالم والتأهل والألقاب، بقدر ما يعنيه ابتسام الدهر له مرة أخرى دون أن يلقي على كاهله مزيدًا من الأسى والنكد.
فيما سبق، الكرة ليست أول الهموم ولا آخرها
في ظل الأوضاع الصعبة التي مرت وتمر فيها البلاد، كان الوضع الرياضي للمنتخب السوري مماثلًا لتلك الظروف الصعبة التي تواجه المواطن السوري، فكانت الظروف المحيطة بالمنتخب شاقة وصعبة جدًا بسبب سوء ظروف المنتخب من الناحية الفنية والتدريبية وافتقاده للمعسكرات الاستعدادية، بالإضافة لافتقاد الفريق السوري لبعض اللاعبين بسبب رفضهم تمثيل المنتخب لأسباب سياسية، وأخيرًا لعب المنتخب السوري مباراياته خارج أراضيه وغياب الدعم الجماهيري المعتاد له.
ولم يكن أشد المتفائلين بحظوظ المنتخب السوري يتوقع تخطي المنتخب السوري دور المجموعات خلال مرحلة التصفيات؛ بسبب الأوضاع السيئة التي تعيشها البلاد في ظل الحرب الأهلية التي تطحن رحاها في البلاد منذ ما يزيد عن 6 أعوام. وفي الوقت ذاته لم يولي الكثير من الناس بالًا لهذه الهموم الرياضية والصعوبات التي تعترض طريق نسور قاسيون المؤدي إلى روسيا وكأس العالم، فالشعب السوري عمومًا بشقيه الموالي والمعارض يواجه صعوبات حياتية واقتصادية تجعل هم المنتخب ومشواره المونديالي أمرًا لا يمثل الأولوية للسوريين. لم يكن أحد ينتظر أن تأتي الفرحة الغائبة من الجانب الكروي، فلقد برع المنتخب السوري في جعل المشجع السوري محبطًا في عديد المرات بسبب سوء الأداء تارة، وسوء الحظ تارة أخرى.
الأولويات تطفو على السطح دائمًا
لكن مع توالي المباريات وإثبات لاعبي المنتخب لأنفسهم مباراة بعد أخرى، أصبح الشعب السوري المهتم بالشأن الرياضي يحرص على دعم المنتخب بشتى الوسائل الممكنة سواء من خلال الفعاليات التي تقام داخل الأراضي السورية والتجمعات القليلة لدعم المنتخب، أو سواء بالسفر لدعم المنتخب في ماليزيا رغم طول المسافة وبعدها، وهذا أعطى دفعة معنوية إضافية للجهاز الفني واللاعبين لتقديم كل ما يملكون في سبيل إسعاد المشجعين المتعطشين لنفحة أمل.
ورغم إدراك جميع المهتمين بالكرة السورية لصعوبة المهمة بسبب افتقار الجهاز الفني للخبرة اللازمة لإدارة المباريات، لكن كان هناك عزيمة كبيرة لتحقيق ما فشلت فيه جميع المنتخبات السورية سابقًا. ومع تقدم المراحل، أصبحت فرص المنتخب السوري تكبر وتكبر بفضل تلك الإرادة، وما كان مستحيلًا فيما مضى، أصبح قريبًا وأشبه بالمعجزة، وهذا ما شجع بعض اللاعبين العازفين عن تمثيل المنتخب على العودة إلى الأراضي السورية، وارتداء قميص المنتخب السوري مرة أخرى سعيًا وراء حلم مونديالي يربو له جميع اللاعبين مهما صغر شـأنهم أو عظم.
السوريون استحلوا طعم الفرحة التي يقدمها المنتخب مع كل مباراة جديدة، فالشعب الذي حُرم السعادة طوال الأعوام الستة الماضية، كأنه وجد مفتاح صندوق السعادة الضائع في مباريات المنتخب المقامة في كوالالمبور، والتي تبعد آلاف الكيلومترات عن البلاد؛ سوريا التي تجمع شبانها في ساحات مدنها تحت شمس الظهيرة لمتابعة المباراة وتشجيع المنتخب بروح واحدة.
مُوالٍ ضد معارض
اللعبة أصبحت تجمع فئة لايستهان بها من الشعب حول المنتخب رغم اختلاف الآراء والمواقف، وأسرت قلوبهم كما لما تأسرها من قبل. فنسبة كبيرة من الشباب السوري لم يكن يدرك معنى كلمة منتخب وطني ولم يشعر بأهمية المنتخب بسبب عدم تقديم الفريق السوري لمستويات مماثلة في السنين الماضية، أصبح هناك هدف واحد جمع السوريين في بوتقة واحدة دون أي خلافات أو مناكفات مكررة ومعتادة.
حقيقة الأمر أن المنتخب جمع فئات كثيرة متباينة في موقفها السياسي، فالمتعاطفون مع المنتخب ليسوا فقط من الفئة الداعمة والمؤيدة للحكومة السورية، بل إن هناك فئة أخرى ترفض بقاء النظام في الحكم دعمت المنتخب وشجعته، معتبرة أن المنتخب الحالي هو وسيلة لإسعاد شريحة كبيرة من الشعب السوري، وليس وسيلة أو أداة بيد النظام يسعى لاستغلال نجاحاته الكروية.
«فراس الخطيب» (يمين)، و«عمر السومة»
والحقيقة الأخرى أن المنتخب نفسه جمع بين تلك الفئتين بتواجد عدد من اللاعبين أمثال السومة والخطيب المحترفين في الدوري السعودي والكويتي. فعمر وفراس كان لهما موقف مغاير من تمثيل المنتخب طيلة السنوات الماضية، وكان موقف بعض المشجعين السوريين الموالين للحكومة السورية واضحًا برفض مشاركتهما مع المنتخب بسبب موقفهما السياسي، إلا أن الفرصة الكبرى التي أتيحت للمنتخب جعلت جميع المواقف تلين في سبيل تحقيق حلم طال انتظاره، وليس في سبيل مجد شخصي أو بهدف تحقيق غايات معينة.
البطل الأوحد
الأمل الذي منحه المنتخب للشعب لم يكن بتخطيط ودعم الاتحاد الرياضي ولا الحكومة السورية، فالمنتخب افتقد جل المقومات الأساسية التي يحتاجها للوصول إلى أبعد المراحل في المنافسة، ابتداء من عدم توفير كوادر فنية جيدة، والفشل في تأمين المعسكرات الاستعدادية والمباريات التحضيرية، وعلى الرغم من ذلك استطاع المدرب أيمن الحكيم رغم تواضع إمكانياته الفنية من إيجاد بيئة مناسبة لجميع اللاعبين للتعبير عن أنفسهم بالشكل الأمثل رغم سوء الظروف المحيطة.
https://www.youtube.com/watch?v=ei5leDCp3yg
الحكيم بدموعه الصادقة خلال المؤتمر الصحفي أعاد الدعم الجماهيري والإعلامي العربي للمنتخب السوري، الجميع تغاضى عن مواقفه السياسية المتباينة سواء الداعمة أو الرافضة للحكومة السورية وقرروا دعم المنتخب رغم اقتناع بعضهم بأن النجاح الرياضي سيكون مستغلًا من الطبقة السياسية كما الحال في البلدان العربية، لكن مرة أخرى كانت شجاعة الحكيم بتوليه مسئولية تولي المنتخب ومجابهته للظروف السيئة هي لبنة الأساس في هذه الفرحة والآمال التي عاشها الشعب السوري في الفترة الماضية. فشكرًا للرجل الذي أعطى السوريين فرصة للتفكير بالمستقبل ومنحهم أملاً بأن هناك أرضية مشتركة يمكن البناء عليها لإيجاد مستقبل أفضل للبلاد التي أرهقتها الخلافات والصراعات.
يستحقون الإشادة رغم السقوط في سيدني
رغم الفشل في حصد التأهل، إلا أن العناصر الحالية للمنتخب تستحق الإشادة والتحية رغم جميع المصاعب التي واجهتهم. رغم افتقاد اللاعبين للخبرة وتسرعهم في أغلب لقطات المباراة، إلا أن الضغوط الموجودة عليهم صعبت من المهمة. اللاعبون وجدوا أنفسهم تحت الضوء الإعلامي والجماهيري وهم مطالبون بتحقيق التأهل، كانوا أبطالًا بتصديهم لهذه المهمة رغم معرفتهم بصعوبتها.
شكرًا لإبراهيم عالمة؛ قدم مستويات رائعة خلال مرحلة التصفيات واستطاع بقبضته إطالة مشوار سوريا في التصفيات بفضل تصدياته وتدخلاته، شكرًا لأحمد الصالح الذي زرع الثقة في الفريق بفضل شخصيته القوية، شكرًا لفراس الخطيب وعمر السومة بسبب عودتهم للمنتخب من أجل رسم البسمة الغائبة عن وجه السوريين، وتبًا لذلك القائم الذي رد كرة السومة واعترض طريقها نحو المرمى. لكن رغم ذلك سيذكر الجميع هذه اللحظات بحلوها ومرها، ويأملون بأن تكون هذه الرحلة الجميلة هي الخطوة الأولى للتفكير بإيجاد الحلول لتطوير الكرة السورية التي أثبتت أنها تستحق الأفضل.