هل أخرج «ستانلي كوبريك» فيلم الهبوط على سطح القمر؟
السادس عشر من شهر يوليو/تموز العام 1969، الساعة الواحدة والنصف ظهرًا بتوقيت جرينيتش، يجلس المخرج «ستانلي كوبريك» على كرسيه، يراجع مع الكاتب «آرثر سي. كلارك» الأحداث التي اتفقا عليها.
المشهد الأول: نهار خارجي، مركز كنيدي للفضاء بولاية فلوريدا، يتجه الأبطال الثلاثة: باز ألدرن، ونيل أرمسترونج، ومايكل كولينز إلى منصة إطلاق الصواريخ، ليصعدوا على متن المركبة الفضائية في مهمة أبولو الحادية عشر، والتي ستحملهم إلى سطح القمر.
ثلاثة، اثنان، واحد، يصرخ ستانلي: «أكشن».
تبدأ الكاميرا في الدوران، وتُظهِر الصاروخ «ساتورن 5» وهو يشتعل، وينطلق في رحلته إلى الفضاء.
بعد مرور 4 أيام..
المشهد الثاني: ليل خارجي، تهبط المركبة القمرية على السطح، ويهبط منها نيل أرمسترونج، ليصبح أول بشري يمشي على سطح القمر ويقول كلماته الشهيرة: «هذه خطوة صغيرة للإنسان، ولكنها قفزة عملاقة للبشرية!» يتبعه باز ألدرن، يغرسون علم الولايات المتحدة على السطح، ويلتقطون بعض الصور، ثم يغادرون باتجاه الأرض.
بعد 4 أيام أخرى..
المشهد الثالث: نهار خارجي، المحيط الهادئ، تهبط المركبة الفضائية في وسط المحيط، وتلتقطهم السفينة «هورنيت»، ليعود الأبطال الثلاثة إلى الأرض، معلنين انتصار الولايات المتحدة في سباق الفضاء.
يصرخ ستانلي في النهاية: أحسنتم جميعًا، عمل رائع يا شباب.
إذا فكرت في الأمر قليلًا، قد يبدو هذا السيناريو كأحد سيناريوهات أفلام هوليوود. ولكن هل يمكنك التفكير في ستوديو يعمل بميزانية تبلغ 175 مليار دولار بأسعار اليوم؟
أضخم ميزانية فيلم في التاريخ
ما الذي يتطلبه إعادة إنشاء القمر على الأرض في ستوديوهات هوليوود، ثم صُنع مركبة فضائية حقيقية، ووضع رواد الفضاء بها، وتصوير عملية الهبوط منذ البداية إلى النهاية؟
على افتراض أن وكالة ناسا كانت تضع خطة الفيلم قبل زمن طويل من يوم الهبوط في عام 1969، فمن المتوقع أنه سيتعين عليهم العمل بالمعدات والتقنيات المتوفرة في أوائل الستينيات، إذ كان سيتوجب عليهم إنفاق المزيد من الوقت والأموال من أجل الحصول على التقنيات المطلوبة لتصوير عملية الهبوط حتى تبدو حقيقية، أكثر من عملية الانتقال والسفر إلى القمر بالفعل.
كلّف برنامج أبولو للهبوط على سطح القمر بشكل إجمالي ما يعادل 25 مليار دولار منذ بداية الستينيات وحتى انتهاء المشروع في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وهذا يعادل 175 مليار دولار بأسعار اليوم، بعد احتساب معدلات التضخم.
وإذا افترضنا أن كل هذه الأموال قد استخدمت بالفعل في إخراج أضخم فيلم سينمائي، فكيف تم إنفاقها؟ لنأخذ مثلًا رواتب أبطال هذا العمل.
في ذلك الوقت، كان لدى ناسا حوالي 411 ألف موظف، قدّر الدكتور ديفيد جرايمز، من جامعة أوكسفورد، أنه قد يمكن كتمان هذا السر لمدةٍ تصل إلى ثلاث سنوات وثمانية أشهر، قبل أن يتكلم أحدهم ويقول الحقيقة.
لذا، كيف يمكنك أن تجعل 411 ألف موظف يكتمون السر بشأن مهمة هبوط مزيفة على سطح القمر، لمدة تزيد عن ثلاث سنوات؟
قد تقدم لهم الرشوة لتشتري صمتهم لبعض الوقت، لكن مع مراعاة أن متوسط رواتب العاملين في وكالة ناسا في الوقت الحالي يصل إلى 63 ألف دولار في السنة، لذا إذا قسّمنا ميزانية المشروع الكاملة بأسعار اليوم على عدد العاملين في ناسا في الستينيات، فسيحصل كل شخص على حوالي 425 ألف دولار، وهو ما يعادل مرتب سبع سنوات في وقتنا الحالي.
بالطبع، يجب أن تستمر هذه الرشوة إلى أن يموت جميع الموظفين في ناسا في ذلك الوقت، كما كان سيتعين عليهم قبول أقل من ذلك بكثير، بالنظر إلى تكلفة المعدات والإنتاج اللازمين لصنع مثل هذا الفيلم الضخم.
ربما لاحظت أن الظلال في الصور الفوتوغرافية تبدو متوازية على سطح القمر بدون تشتت، حيث يذكر خبراء التصوير أن هذه الظلال تعكس بدقة موقع الشمس من مسافة حوالي 150 مليون كيلومتر.
ولكي يتمكن ستانلي كوبريك من خلق مثل هذا التأثير الشمسي في ستوديو هنا على الأرض، كان سيحتاج إلى إضاءة المشهد بملايين من أشعة الليزر فائقة السطوع، والتي كان ثمنها باهظًا للغاية في عام 1969، كما أن اللون الوحيد المتوفر كان اللون الأحمر. أما الآن، يمكننا تغيير اللون باستخدام الرسومات المُعدة بواسطة الكمبيوتر (computer generated graphics)، لكن حينها كان تغيير الصور باستخدام أجهزة الكمبيوتر أمرًا مستحيلاً.
صورة أرسلها مسبار «مستكشف القمر المداري» لسطح القمر عام 2009
في عام 2009، أرسل المسبار الفضائي «مستكشف القمر المداري» صورًا عالية الدقة لكل من مواقع هبوط مهمات برنامج أبولو على سطح القمر. تظهر مسارات الإطارات الخاصة بالعربات التي استخدمها رواد الفضاء على السطح، إلى جانب علامات أحذيتهم. ومن أجل تزوير مثل هذه الآثار، كان يتعين على ناسا إرسال شيء ما إلى القمر، مثل المركبات الآلية على سطح المريخ، لتخلف هذه الآثار وراءها.
حيث ستكون تكلفة هذه المركبة حوالي 224 مليون دولار، مع إضافة 583 مليون دولار آخرين من أجل «مستكشف القمر المداري» حتى يلتقط هذه الصور.
في نهاية المطاف، تعتبر تكلفة تزوير الهبوط على سطح القمر أعلى بكثير من تكلفة الهبوط عليه بالفعل.
العلم هو من أخرج «أوديسا الفضاء»
هناك أسباب كثيرة ومختلفة لإيمان بعض الأشخاص بمؤامرة ناسا في تزوير الهبوط على القمر، وحتى إيمانهم بنظريات المؤامرة بشكل عام.
لكن تكمن المعضلة هنا في حقيقة أن معظم من يؤمنون بمثل هذه النظريات، لا يملكون أية خلفية علمية حقيقية، ولم يُجروا سوى القليل من الأبحاث في مجالات العلوم والفضاء والفلك، مثل الهبوط على سطح القمر، أو حتى كيف تعمل مؤثرات هوليوود، أو كيف يتم تمويل وكالة ناسا وكم تنفق على هذه المشاريع، أو أي موضوع ذي صلة قد يعزز من رؤيتهم.
تم توثيق الأدلة على هبوط بعثة أبولو 11 على سطح القمر من قبل أطراف أخرى، بعيدًا عن وكالة ناسا أو الولايات المتحدة بأكملها، مثل مرصد «Bochum» في ألمانيا، ومرصد «Jodrell Bank» في المملكة المتحدة، والعديد من المراصد الأخرى.
تمكن ستانلي كوبريك من صُنع فيلمه العبقري «2001: أوديسا الفضاء» عام 1968، بكل هذا الإتقان والمؤثرات المبهرة والدقة العلمية وتوقع المستقبل وتصوير عصر الفضاء بشكل لم يسبق له مثيل، لسبب بسيط للغاية، وهو لأنه استعان بفريق من علماء الفلك، ومتخصصي علوم الطيران، ومهندسي علوم الفضاء، ليساعدوه في تصميم مركبات الفضاء التي ظهرت في فيلمه، وفي اختيار تأثيرات الإضاءة الخاصة بالفضاء، وحتى في تصميمات بدلات رواد الفضاء في الفيلم.
لم يقم ستانلي كوبريك بمساعدة ناسا، وإخراج فيلم الهبوط على سطح القمر، ولكنه على العكس، هو من استعان بعلمائها ومهندسيها ليُخرج فيلمه الرائع عن عصر سباق الفضاء.
مشهد أخير: تظلم الإضاءة، وينتهي الفيلم، ويُكتب على الشاشة أسماء أبطال هذا العمل التاريخي.