هل قام العثمانيون بتقديم القرابين البشرية؟
لقد ترك الصراع العثماني/البيزنطي في العصر الوسيط، ثم الصراع العثماني/الأوروبي في العصر الحديث، بصماته الواضحة على قراءة الباحثين الأجانب لطبيعة وثقافة الدولة العثمانية وسكانها، خاصةً في زمانها الباكر.
لقد مثّل الأتراك العثمانيون -أصحاب الخلفية الدينية الوثنية- الدين الإسلامي الجديد في أحد تجلياته. كما نجحوا في تحقيق العديد من الانتصارات السياسية والعسكرية على ما تبقى من الإمبراطورية الرومانية وعلى دول البلقان وكذا على التحالفات العسكرية للبابوية والغرب الكاثوليكي.
وفي الوقت الذي كانت تجرى فيه تصفية الممتلكات الإسلامية في الأندلس، كان الأتراك المسلمون يواصلون التقدم في أراضي الشرق الأوروبي، وبدا الأمر كما لو أن «كابوس» المسلمين يستعصي على الاختفاء من ليالي الأوروبيين الحالكة.
لذلك كان من الطبيعي أن يقوم بعض المؤرخين الأوروبيين بقراءة سلبية لتاريخ خصومهم الأقوياء عبر محاولة اتهام المجتمع العثماني بما ليس فيه، ولصق أبشع التهم بالسلاطين الأوائل، بناءً على قراءة متعسفة للمصادر التاريخية البيزنطية.
وخير مثال على ذلك ما نجده لدى الباحث الشهير «فريونس سبيروس»، الذي حاول عبر قراءة معينة أن يُدلِّل على أن السلاطين العثمانيين الأوائل قاموا في غير مرة بالتضحية بالبشر. في محاكاة واستمرارية لعادة تقديم «القرابين البشرية» التي كانت موجودة عند القبائل التركية التي كانت تدين بالشامانية، وقبل اعتناقهم الدين الإسلامي فيما بعد.
وفي سبيله إلى تأكيد فكرته، نجد أنه يرجع إلى مصادر بيزنطية قديمة من القرن السادس الميلادي تتحدث عن الأتراك في آسيا الوسطى. فيعتمد على سبيل المثال على تقرير سفارة بيزنطية وصلت إلى بلاط الحاكم التركي، الذي وجدته يبكي والده المتوفى حديثًا، قبل أن يأمر خلال أيام الحداد بذبح أربعة من أسرى الحرب إضافةً إلى بعض الخيول قربانًا على روح والده. [1]
كما اعتمد أيضًا على ما أوردته «حولية بيزنطية» تناولت وجود هذه الممارسة الجنائزية خلال أوائل القرن الثامن الميلادي أيضًا، عندما مات رسول ملك الخزر إبان رحلة عودته إلى بلاده برفقة أحد المسئولين وفرقة عسكرية بيزنطية. فقام الخزر بذبح المسئول البيزنطي مع 300 جندي كطقس جنائزي، حسب الديانة الشامانية.
بعد ذلك انتقل فريونس إلى المصادر التاريخية المعاصرة للعثمانيين، محاولًا اعتساف أحد التعبيرات التي وردت عند المؤرخ البيزنطي دوكاس، لدى وصفه مقتل الأمير «موسى» بن السلطان العثماني «بايزيد يلدرم». حيث يذكر أنه:
وهكذا يستند الباحث إلى عبارة دوكاس «طبقًا لعاداتهم الوحشية واللا إنسانية»، في محاولة لاستنتاج أن محمد جلبي قام بذبح بعض البشر ودفنهم قربانًا لأخيه كما كان يفعل الأتراك الأوائل. وزعم أن دوكاس لم يقم بتوضيح تلك المسألة أكثر من ذلك بدعوى أن قرّاءه يعرفون ذلك عن العثمانيين، وأن الأمر كان لا يستحق المزيد من التوضيح. [2]
كما يلجأ فريونس إلى كتابات مؤرخ بيزنطي آخر من القرن الرابع عشر الميلادي من أجل تأكيد فكرته. حيث نجده يعتمد على ما كتبه مؤرخ معروف بهجومه المتكرر على الإسلام ووصفه بأنه ليس دينًا سماويًا، لأنه يأمر أتباعه بقتل الأبرياء. فضلًا عن ضرورة ذبح أكبر عدد من الرجال الأحياء، بدعوى أنه كلما قام المحارب العثماني المسلم بذبح عدوه البيزنطي المسيحي، فإنه يُقدِّم مساعدة لروح الشهداء العثمانيين. وهكذا يقوم العثمانيون بقتل الأسرى مساعدةً لأرواح زملائهم الذين سقطوا في المعارك.
ويضيف هذا المؤرخ في مزاعمه أنه إذا لم يكن لدى المقاتل العثماني أسرى بيزنطيون، فيمكنه أن يقوم بشراء بعض الأسرى لكي يقوم بذبحهم قربانًا على جثة زميله المتوفى أو على قبره.
غير أن الباحث يستدرك ليذكر أن وصف المصدر البيزنطي هنا لممارسة التضحية البشرية على قبور الجنود العثمانيين القتلى، هي ممارسة ليست إسلامية من الأصل. لأن الإسلام لم يأمر بذلك. ويقوم بإرجاع ذلك الأمر إلى ممارسات قديمة عند شعوب آسيا الوسطى، تعتمد على الاعتقاد الشاماني، بأن الذين يقومون بخدمة المحارب في هذا العالم، سوف يقومون بخدمته أيضًا في العالم الآخر.
ويمكننا أن نلاحظ هنا أن فريونس لم ينفِ أبدًا هذه التهمة عن الأتراك العثمانيين، بل قام بنفيها عن الدين الإسلامي فقط، وزعم باستمرارية وجودها عند العثمانيين بعدما اعتبرها من بقايا ممارسات شعوب الترك قبل الإسلام.
ثم ينتقل الباحث إلى مصدر بيزنطي جديد كي يؤكد على فكرته المزعومة. فيعتمد على ما كتبه مؤرخ بيزنطي من القرن الخامس عشر عن حملة السلطان العثماني مراد الثاني نحو جنوب اليونان، وقيامه بذبح 600 من الأسرى والتضحية بهم قربانًا بشريًا من أجل والده السلطان محمد جلبي.
ومن الواضح أن مزاعم فريونس لا تبدو منطقية. لدرجة أن مُترجِم المصدر البيزنطي إلى الإنجليزية يرفضها أيضًا، فقد علّق على ذلك بأن التضحية بالقرابين البشرية غريبة على الإسلام، كما أن العثمانيين لم يكونوا ليتخلصوا من العبيد التابعين لهم. [3]
غير أن باحثنا يعود ثانية للحديث عن هذه الحالة، فيذكر أن التضحية البشرية هنا كانت مرتبطة أيضًا بالعمل العسكري، وأن ما حدث هو استرضاء لروح الميت. قبل أن يراوغ ليُبدي دهشته من أن يحدث هذا الطقس الشاماني بطلب من سلطان مسلم.
ثم ينهي مقالته بالتأكيد على زعمه بأن مسألة التضحية البشرية في المجتمع العثماني الباكر إنما تؤكد على أهمية دراسة تاريخ آسيا الوسطى القديم وأثره في نشأة الأتراك، وكيف تركت الديانات السابقة –كالشامانية- بصماتها على الحياة الدينية للعثمانيين في أواخر العصور الوسطى.
والحقيقة أنه ليس لدينا سبب لتأكيد زعم تقديم السلاطين العثمانيين الأوائل للقرابين البشرية، فهي لم ترد بالطبع في كافة المصادر العثمانية على الإطلاق. وربما بنى فريونس فرضيته على ما هو معروف من قبل، وسبق ذكره بواسطة باحثين متخصصين على رأسهم «فؤاد كوبريللى»، من تسلل بعض مُخلّفات الشامانية والديانات القديمة في آسيا الوسطى إلى إسلام العثمانيين الأوائل وممارساتهم.
- S. Vryonis, Evidence on human Sacrifice among the Early Ottoman Turks, Journal of Asian History, vol 5, 1971, pp 140-146.
- M. Ducas, “Historia Turco–Byzantina”, Decline and Fall of Byzantium to the Ottoman Turks, trans. By: H. Magoulias Detroit, 1975.
- Ozgan Altay Tayfun, Menander Protector, un Dogu Roma Elcisi Zemarcus, un Gokturk Kaganligi, na Yaptigi Seyahate Iliskin Kaydi, Menander Protector Record on the Travel of the Byzantine Envoy Zemarcusto the GokturkKhanate, in, Kubaba-Arkeoloji-Sanat Tarihi – Tarih Dergisi, pp 27–35