ألم يعرفنا العلم أننا أصغر من أن نكون مقصودين بالخلق؟
يسأل سائل: طالما استدلّ رجال الدين ومن وافقهم من عوام الناس على وجود الإله بأنا إذا نظرنا لهذا للأرض، خلق الله البديع هذا.. لوجدناه مسخرًا للعيش عليه، يظهر فيه مظاهر رعاية الله لنا، وأنه لولا قدرة الله وإرادته لما أمكن وجود حياة أصلًا في الكون.
ولكننا بمزيد التعرف على حقيقة الكون، والتعمق في علم الكسمولوجيا عرفنا أكثر عن كيفية تكوّن السماوات والأرض، ووجدنا في ذلك أن العشوائية والصدف كان لهما الدور الحقيقي في هذا الأمر، وعلمنا بالضرورة أننا غير مقصودين بالخلق، وأننا مخلوقات هامشية على كوكب هامشي في مجرة من ملايين المجرات، ونحن أصغر من أن نكون مقصودين بالخلق، وأن كثيرًا من أسرار الكون ليس فيها حكمة ولا غاية، وإنما هي نتيجة حركة المادة، ونتيجة القوانين الطبيعية.
فلو كان الإله حكيمًا فلم خلق أشياء لا تفيد البتة؟ ولو كانت الأديان حقًّا، فكيف تدّعي أن يكون هذا الكون الشاسع مسخرًا للإنسان؟ أليس كلما بحثنا في الكون وجدنا فيه حجة على عدم الإله أو عدم حجة على وجوده؟
نقول: في الأبحاث الجنائية، يكون المحامي بارعًا إن استطاع أن يقلب أدلة الإثبات إلى أدلة نفي. أي أن يجعل من نفس الدليل الذي هو دليل إدانة للمتهم دليلًا على براءته. وها هنا محاولة – نراها فاشلة – من بعض الملاحدة في قلب الأدلة.
نقول: إن أهل الأديان طالما نظروا في الكون الرائع ليستدلوا به على أنه مخلوق لإله كامل عليم، لأن كل صنعة تدل على وجود صانعها وصفاته، وإن الكون طالما كان صنعة بارعة فإن فيه دليلًا على إله متصف بصفات الكمال والعلم والحكمة، خلقه وأبدعه.
ومن العجيب أن تجد من ينظر في عين هذا الدليل فيرى فيه عكس ما رأوا،كالملاحدة يقولون إن كونًا كهذا الكون منبئ تمامًا بأنه قائم بنفسه، ليس مستندًا إلى إله، وكل ما في الكون مما كشف عنه العلم في زعمهم ينقض فكرة الإله.
يقولون: إن المؤمن الذي يظن أن الأرض مثلًا قد سخّرها الإله لتلائم حياة اليشر هو مخطئ؛ لأن الحق أن في الكون ملايين المجرات التي تشتمل على ملايين الكواكب، وقد تصادف في أحد هذه الملايين أن تتحقق الأسباب الملائمة للحياة، فقامت الحياة. وأن الكون الكبير البديع الذي يرى فيه المؤمن آثار الجلال والجمال الإلهي، يقول عنه هذا الملحد إن الإله لو كان قد خلق الكون لاختبار الإنسان فلا معنى البتة من إتعاب نفسه –تعالى الله عن النصب والتعب- في خلق الكون الكبير. ولو كان بعض المؤمنين يستدلون على الإله أن الكون مخلوق لعلَّة وغاية، فإن العلم قد أثبت أن الكون لم يقصد منه الغائية، وإنما هي عشوائية أنتجت نظامًا متوهمًا.
ونحن نشرع في تفكيك كل تصور نراه خاطئًا في هذه النظرات إلى الكون، ونرى كيف نرى في الكون الإله، وكيف يتوافق العلم والدين، بل كيف تنتج المعرفة العلمية إشراقًا روحيًا.
هل الأرض مسخّرة لنا؟
يحسب بعض المؤمنين، ويحسب بعض الملحدين كذلك، أن معنى تسخير الإله للكون للإنسان ينافي معنى كونه يجري على وفق قانون الأسباب والقوانين الطبيعية الحاكمة عليه. فيظنون أن تسخير الكون للإنسان يعني أنه قد جُعل تحت إمرته، يتصرف فيه بما يشبه العصا السحرية مثلًا، أو أن كل شيء في الكون يجري ولا بد لمصلحة الإنسان ويتقيد وجوده بمصلحة يؤديها للإنسان فحسب.
وليس هذا إلا وهم!
فالحق أن جريان الكون على القوانين والأسباب الطبيعية هو عين تسخيره للإنسان. تخيل أن الكون لم يكن يجري على علاقات وقوانين مطردة، كيف سيكون شكل الحياة عليه؟ تخيل لو أنك كنت تجوع، فلا يتحقق الشبع بطريقة ثابتة معلومة. بل تحتاج تارة للطعام لكي تشبع، وتارة تجرب الطعام فلا ينفع فتجرب النوم فتشبع، وتارة تجربهما فلا ينفعان فتجرب المشي فتشبع، وهكذا بلا اطراد ولا تكرار، كيف تصلح الحياة إذن؟
تخيل لو أن الماء لا يغلي في كل مرة عند نفس الدرجة، فتارة يغلي عند 100 درجة، وتارة عند 70، وتارة عند -20، كيف يمكن للإنسان أن يستفيد من هذه الخاصية الفيزيائية في الصناعة وغيرها من الاستخدامات العلمية والعملية؟
تخيل لو أن الأجسام لا تطرد فيها قوانين الجاذبية، فتارة تعمل وتارة لا تعمل، بلا قانون مطرد مفهوم، أيمكن للإنسان حينئذ أن يستفيد علمًا؟ أو يؤسس حضارة؟ هل يمكنه أن يخترع الطائرات مثلًا؟
فالقول بأن التسخير ينافي السببية هو جهل شديد بمعنى التسخير. فمعنى تسخير الكون –كما نفهمه- هو كون الكون مخلوقًا بحيث يستطيع الإنسان فهمه وتطويع بعض أسبابه لمصلحته والاحتراز من بعضها الآخر. فهو من ناحية يجري على قانون سببي مطرد، والإنسان كذلك، وله عقل يستوعب ويتعلم.
وإن تسخير الكون لا يعني بالضرورة أنه خلق بهذه الصورة من أول الأمر، فلا ينافي كونه حصل بعد تطورات كوزمولوجية وتغيرات وأطوار مر بها الخلق. فقوله تعالى –مثلًا- (فلنعم الماهدون) لا يعني أن تمهيد الأرض كان بنزول ملائكة مثلًا تمهدها، ولا ينافي أنه حصل بطريق الأسباب التي دل عليها العلم، فإن الأسباب هي كلها خلق الله. ولكن انظر الآن لهذه الأرض، أليست ممهدة على أكمل ما يكون؟ فالله سبحانه وتعالى يمتن على عباده بهذا إذ الأرض فعلًا مسخرة لهم، ليس على معنى أنها مخلوقة كذلك ابتداء، ولكن بمعنى أن الحال النهائي للإنسان، هذا الذي نعيش فيه، أن الأرض والحيوان ونحوهما مهيأ لفائدته.
ولا يعني تسخيره للإنسان أنه مسخر له فقط، فهو كذلك مسخر لعيش الحيوانات الأخرى عليه مثلًا. ولكن لما كان الخطاب الإلهي والتكليف الديني متوجهين للإنسان، ناسب أن يذكر الله تعالى نعمه على الجنس الإنساني، وإن اشترك معه فيها غيره.
فنتاج التطور الذي سار عليه الكون أن الأرض ممهدة، وأن الإنسان يمشي على قدمين، وأن قانون الجاذبية مطرد، وكان يمكن ألا يكون كل ذلك على هذا الحال، وأن يصعّب هذا من الوجود الإنساني على هذه الأرض. وهذا يستحق الامتنان على الإنسان: «أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ».
ما الحكمة من خلق أشياء لا تفيد؟
يقول القائل: إن كثيرًا من أسرار الكون ليس فيها حكمة ولا غاية، وإنما هي نتيجة حركة المادة، ونتيجة القوانين الطبيعية. فلو كان الإله حكيمًا فلم خلق أشياء لا تفيد البتة؟
نقول: هذا الذي يسأل: (لماذا خلق الإله على زعمكم أشياء لا تفيد؟) فإننا نسأله بالمقابل: ما معنى قولك (لا تفيد)؟ لا تفيد من؟ أما الإله، فإنه لا يستفيد. وأما الإنسان، فلماذا تظن فائدته هي الهدف الأسمى في وسط هذا الكون الشاسع؟ لماذا تكون فائدة هذا المخلوق الهامشي هي أولى أولويات الكون وخالقه -تعالى عن ذلك- حتى يكون من أدلة عدم وجوده أن بعض الأشياء التي خلقها ليست لفائدة الإنسان؟
ثم أي مانع أن يكون خلقها لفائدتها هي أو حتى لضررها لابتلاء كائنات أخرى؟ أو أن لها فائدة لما نكتشفها بعد وكم وجدنا من ذلك؟ أو أنها مجرد لوحة تتجلى عليها الصفات الإلهية، فالله هو الخالق، الرازق، الضار النافع، المعز المذل؟
إن بعض العباد لا يهمهم من وجود كل موجود إلا بقدر ما يعرفهم من صفات الله عز وجل، وهؤلاء يرون في الكون كله كتابًا يقرءونه ويحاولون سبر أغواره، لماذا نحجر على الناس عقولهم وتجاربهم في الحياة؟
ومن أدرانا أننا مع الوقت لن نكتشف أكثر وأكثر نظام الله في كونه، فنعرف من عجائب التقديرات ودقائق الأمور عن الكون فنزداد إعجابًا بهذا الكون البديع، فما كان فضاء عديم المعنى نعرف له معنى، بل معاني!
على أن عمر الإنسان الفرد في الكون ضئيل جدًا فمن أدرانا أن قصير العمر صغير الحجم ضعيف الإدراك هذا يقدر أن يدرك أصلًا أي حكمة في الكون؟
وبذلك يظهر ضيق أفق من تاه في عظمة الكون، حتى عمي عن رؤية خالقه!
فقانون الأسباب منطبق على كل شيء، مقدمات يخلق الله عندها نتائجها، سواء أحب الإنسان هذه النتائج أم كرهها، ويبلو الله الإنسان بالخير والشر فتنة، والله تعالى المستعان.
وسبق أن بينا أن كل الكون ممكن محتاج مفتقر إلى موجد، يرجح وجوده على عدمه، ويبقيه، وإن الترجيح هو تخصيص لشيء ببعض ما يجوز عليه، وتخصيص الممكن يحتاج إلى إرادة، وهي الصفة التي ترجّح بعض الممكنات على بعض.
فوجود الكون بهذه الصورة المعينة لما كان أمرًا ممكنًا محتملًا من جملة إمكانات أخرى محتملة، كان بالضرورة مقصودًا مرادًا على هذه الصورة دون غيرها. فلا شيء في الكون عشوائي ولا صدفة بمعنى أنه قد حدثت لا من محدث، ولا أنه وُجِد لا من قصد، وليس مرادًا!
«وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا»، «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ»، فإنه تعالى خص كل حادث بوقت وحال معينين، وهيأ له أسبابًا مسوقة إليه تقتضي ذلك.
فالله خالق كل شيء، فلا شيء فاعل ومؤثر إلا هو، يفعل بمحض إرادته لأنه أراد، وتترتب على أفعاله الفوائد والحكم والغايات، لا أن شيئًا هو سبب يبعثه ليفعل ما يريد، بل يفعل لأنه أراد: «فعال لما يريد»، وتلزم الحكم على فعله لأنه هو الذي فعله: «لا إله إلا هو العزيز الحكيم»، «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».
فكل ما في الكون مقصود قصدًا أوليًا لله، ولم يفتقر –سبحانه- في شيء إلى شيء، ولا اعتمد –سبحانه- على شيء في تحقيق شيء.
فكل ما تراه بعينيك مما تحسبه نفعًا وضرًا هو خلق الضار النافع سبحانه، وكل ما تراه من تقديم وتأخير هو من فعل المقدِّم المؤخّر، وكل ما تراه من عز وذل هو من خلق المعز المذل، فكل أمر يبتدئ منه إيجادًا، ويعتمد عليه إمدادًا، وينتهي إليه سبحانه وتعالى.
ما الحكمة من خلق هذا الكون الكبير؟
انظر إلى الصورة السابقة التي تبين الأرض وما عليها كنقطة صغيرة جدًا في هذا الكون الشاسع. نظر البعض في هذه الصورة، ثم علّق متعجبًا[1] من اعتقاد البعض أن الله خلق كل هذا الكون لأجل الإنسان فقط الذي يعيش على هذه النقطة (الأرض) في بحر الكون الشاسع:
فهم يستدلون باتساع الكون وبهامشية وجودنا فيه our cosmic insignificance دليلًا على عدم كوننا مقصودين أصلًا، وعلى خطأ الأديان التي تجعل الإنسان والتكليف الإلهي له محورًا للخلق.
ونحن نقول: من قال إننا نظن أن الكون كله مخلوق لنا فقط؟ أو لاختبارنا دون سوانا؟ وقد قال تعالى: «لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»، وقال تعالى: «خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ» وقال تعالى: «فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ».
فنحن نرى بعين البصر، ونشعر بنور البصيرة، ونقرأ في كلام الله تعالى أننا مخلوقات صغيرة ضعيفة في بحر هائل من الوجود الكوني.
مع ذلك نقول: الكون كله من وجهة نظر الإنسان هو لاختباره، بل الحياة كلها من وجهة نظري أنا الفرد هي لاختباري أنا الفرد، فهذا ما يخصني ويهمني، فمن يخاطبني يخاطبني على هذا الأساس. ولهذا فقد جاء في الخطاب الديني ما يشعر أن كل هذا لك ولاختبارك من باب الامتنان. فالإنسان ينصرف ذهنه عند نظره إلى الكون إلى ما يخصه، وإلى ما ينفعه في اختباره الأكبر بالتكليف والعبادة وإعمار الأرض.
فهذا من وجهة نظر الإنسان وبحسب ما يجب أن يتعلق به اهتمامه. ولا يمنع ذلك من وجود مخلوقات لا يراها الإنسان ولا يعرفها، وقد ذكرتها النصوص الدينية. ففي دين الإسلام كذلك إشارة وتصريح بكثرة المخلوقات، كالكلام على الملائكة وعلى أطيط السماء من كثرتهم[2] وعظمتهم بالنسبة للإنسان، هذا المخلوق الضئيل الحجم الضعيف الحجم غير العابد.
فالدين لم يدّع أن كل شيء مخلوق لاختبار الإنسان، وإنما حث الإنسان أن يرى في كل شيء ما يعينه في هذا الاختبار.
ثم إن القول بأن خلق هذا الكون الكبير لا فائدة فيه ولا حكمة من ورائه لهو تهور كبير. فالإنسان لا يمكنه الحكم على فعل ما بالحكمة وعدم الحكمة ما لم ير الصورة الكاملة، ويعلم من التفاصيل ما يؤهله للحكم.
تخيل مثلًا أنك وجدتني أبني حائطًا من طوب، أتعب فيه وأدققه، وأزينه بنقوشات وزخارف، ثم ما إن أنهيته وصار مكتملًا جميلًا حتى نقضتُه وأرجعته قطعًا من الحجارة كما كان! ثم أعيد البناء ثانيًا حتى إذا اكتمل نقضته ثانيًا وهكذا، كلما اكتمل نُقض!
إنك ولا شك ستستغرب فعلي هذا، وستحسبني عابثًا، لأني فعلتُ فعلًا غاب عنكم سببه وحكمته، فتسارعت إلى عدّه غير حكيم. لكنّك ماذا لو علمتَ أني مقدم على وظيفة في البناء والتصميم ولا أملك إلا هذا الحجارة أتدرب عليها للاستعداد للعمل، فإن حكمك على هذا الفعل سيتغير بعدما عرفت ما فيه من حكمة.
وهنا نقول: كذلك، فإن مجرد كونك لم تر حكمة في اتساع قدر الكون أو طول امتداده الزماني، فإن ذلك قد يكون لغياب حكمتها عنك وقصور عقلك عن الإدراك.
ومن أدرانا أننا مع الوقت لن نكتشف أكثر وأكثر نظام الله في كونه، فنعرف من عجائب التقديرات ودقائق الأمور عن الكون فنزداد إعجابًا بهذا الكون البديع، فما كان فضاء عديم المعنى نعرف له معنى، بل معاني! هذا من جهة النظر في الأسباب الكونية.
إننا إن فكرنا في هذا الإله العظيم الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، والذي لا معقِّب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا يكون إلا ما يريد، ولا يعجزه شيء، ألا يناسب أن يكون الكون الذي خلقه هذا الإله من الاتساع والعظمة والتعقيد بحيث تحار الألباب فيه، ولا ينفك العقل عن السياحة في أرجائه، وأن يكون من العظمة والاتساع بحيث تخضع نفس الإنسان لعظمة وكبرياء خالقه؟ فيستعظم المخلوق الضعيف، الذي هو كالذرة في كل هذا الكون خالقه، ويستحقر نفسه، حيث تتجلى صفات الجلال، فينبعث من الاستعظام شوق للتقرب من الحق.
وهل يتصور لمن شاهد هذه الحقائق من هذه الجهة إلا أن يمتلئ قلبه تعظيمًا وهيبة ورهبة وخضوعًا وعشقًا وحبًا للحي القيوم بديع السماوات والأرض، فإن الكون كله هو خلق الله، وإن أسماء الله تعالى وصفاته تتجلى في خلقه، فنعرف الله تعالى وأسماءه وصفاته بالنظر في مخلوقاته العجيبة العظيمة، الدالة على عظمة خالقها وباريها!
فإن حقيقة ذات الله أعظم حقيقة مطلقا! ولا يقدر البشر على الإحاطة بها ومعرفتها بالكمال والحقيقة، وغاية ما يمكنه هو معرفة أمور عنها، ومن طرق ذلك النظر والتأمل في أفعال الله وخلقه.
فاسم الله: العظيم والجليل والقيوم والباري ومالك الملك، وغيرها، تخبر عن حقائق عظيمة لا أعظم منها! وإن الكون بكل ما فيه من عظمة، لهو بعض تجلي هذه الأسماء والصفات، فنقترب بعض الشيء – ولا نبلغ الغاية أبدًا – من التعرف على خالق الكون!
حتى أن بعض علماء اللغة ذكروا أن لفظ الجلالة (الله) مشتقٌ في اللغة من الوَلَه، وهي الحيرة، أي أنه تعالى خالق تحار العقول في إدراك عظمته، أصله من أله الرجل يأله إذا تحير، وذلك لأن القلوب تأله عند التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى، أي تتحير وتعجز عن بلوغ كنه جلاله!
وكما يقول أبو حامد الغزالي:
وإن هذه الحقيقة التي تعجز العقول عن استيعابها، قربها الله تعالى لنا بهذا الكون المشاهد، فضلًا منه ورحمة!
ثم إن دعوى الملحد هذه مشتملة على مغالطة أخرى، وهي الظن أن الكون الكبير يحتاج من الإله مجهودًا أكبر، أو أن الكون الكبير أسهل من الكون الصغير. وهذا كله من باب قياس الغائب على الشاهد، وهي مغالطة منطقية شهيرة.
إن خلق هذا الكون كله، الذي نحن لا نعرف عنه في الحقيقة إلا أقل القليل، ولم نصل إلا إلى أقل القليل من مساحته، لهو متساو في الاقتدار على إيجاده مع كونٍ ليس إلا ذرة واحدة صماء! فلا تفاوت من حيث تعلق القدرة على إيجاد هذا أو ذاك،إذ هذا وذاك كلاهما ممكنات، والقدرة تتعلق بكل ممكن وكل ممكن مساو لما هو مثله من حيث كونه ممكنًا، لا فرق في قدرة الله بين الذرة والمجرة، بل إن كل ممكن بالإضافة إلى القدرة سواء تمامًا!
فالله قادر على خلق كون ساذج بنفس قدرته على خلق كون معقّد، وهو قادر على خلق كون كبير بنفس قدرته على خلق كون صغير، فهو في على الجميع قادر، وقد تبيّن للناظر المحقق أن ما تبعثه عظمة الكون في نفس المؤمن من الخشية والمهابة والإجلال لله، والتواضع والإخبات للنفس، كل ذلك من بعض الحكم لهذا الكون الكبير العظيم، والله أعلم بحكمة خلقه.
وإن نفس هذا الكون العظيم الشاسع ذي المجرات الهائلة والنجوم بالبلايين هو كذلك مكون من الذرات الدقيقة والخلايا الحية الصغير المبهرة، فقد جمع الكون بين أعظم الموجودات التي حجمها وسعتها تبهر العقول، ولا يكاد يقدر على استيعاب عظمتها، وفي نفس الآن، قد تكونت الموجودات العظيمة هذه من موجودات في غاية الصغر والدقة، تركيبًا كذلك أبهر العقول وسلب الألباب!
ثم إننا لو سرنا في هذه الحياة بمذكرة تفصيلية فيها جواب كل سؤال، فأين مراد الله من خوض غمار التجربة والبحث والتأمل. بل إن لعقل العاقل لذة في السياحة في الكون وسبر أغواره والتأمل في تعقيده واتساعه، فنسير ننظر في الآفاق، ونغوص ندقق في الخلايا والذرات، وفي كل هذا نكتشف بالتأمل والتفكر والاختبار عن حقائق الكون، وعن النظام الذي تسير عليه «قوانين الطبيعة» التي هي في الحقيقة وصف لسنة الله تعالى في خلقه.
وختامًا نقول حصر البعض حكمة أو غاية أو المراد من الكون كله في معاني معينة، ثم إذا بهم يكتشفون أن الواقع على غير هذا، فينطلقون من هذا إلى نفي أي حكمة لهذا الكون، بل إلى عبثية كونه مخلوقًا لله تعالى، إن هذا لهو مجازفة شديدة وتهور!
بل هي رحلة تبدأ من إدراك الإنسان لجهله وقصوره من ناحية، وإدراكه لإمكاناته وقدراته من ناحية أخرى، ثم هو يسير في الأرض فينظر، ويتفكر.
ثم تأمّل: أي شرف وأي كرامة أن يمتن الله تعالى على هذا المخلوق الضعيف الصغير، فيكرمه بمخاطبة رب الأرباب ذي العزة والجلال له، وأن يصطفيه من خلقه فيكرمه بإمكان القرب منه وعبادته ومعرفته:
فلا شك أن رفع الإنسان الذي هو من أصغر المخلوقات وأقلها شأنًا إلى سماء التكريم والاصطفاء الإلهي لهو نعمة وكرامة لمن تأملها، وأزال حجاب الكبر عن عينيه، ونظر لجلال أن يخاطبه خالق هذا الكون العظيم، وأن يعد له ثوابًا وجزاء إن هو التزم بما كلفه به مما يرفعه من مقامه إلى مقام عال كريم. وقد صدق الله تعالى إذ يقول:
«وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا». فاللهم لك الحمد على ما أنعمت، ولا تحرمنا مشاهدة الحقائق، وأزل عن عيوننا الحُجُب، وأنر بصائرنا، وخلصنا من الكبر والهوى، وارزقنا كمال العقل وكمال التواضع.
وخلاصة ما سبق:
أن معنى التسخير – والله أعلم – أن الكون له أسباب وقوانين تحكمه يمكن للإنسان فهمها واستثمارها بقدر طاقته. فالتسخير لا ينافي كون الكون يعمل بالقوانين الطبيعية، بل إن اطراد هذه القوانين لهو عين التسخير. فالكون مسخر للإنسان وغيره من الكائنات، حيث آل أمره في النهاية إلى إمكان أن يستفيد منه الإنسان. وأن الإنسان مخلوق هامشي صغير والتكليف والخطاب تشريف له، وأن هذا الكون الكبير العظيم هو اللائق بجلال الله ولعل من حكمته بالنسبة للإنسان أن يورثه الخشية والإجلال لله سبحانه وتعالى.
وأنه لا فرق بالنسبة للقدرة الإلهية بين خلق الكون الكبير أو الصغير، أو البسيط أو المعقد. وأن مخلوقات الله هي مظاهر تجلي أسماء الله وصفاته، نعرف بها عظمة الله وجبروته، وأن الجهل بحكمة الله في خلق الكون لا يؤثر البتة لا يبطل احتياج الكون إلى خالق. بل هو جهل من بعض الجهال بخلق الله، لا أن فيه دلالة على عدم الحاجة له!
[1] وهو العالم الكسمولوجي الشهير كارل ساجان Carl Sagan.[2] عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله» (رواه أحمد 21516، والترمذي 2312).[3] إحياء علوم الدين 4/301.