هل امتلك فيلم كيرة والجن نفس فرص فيلم «RRR» في الجوائز العالمية؟
بالتزامن مع إعلان ترشيحات جوائز أكاديمية العلوم والفنون (الأوسكار) وإعلان الفائزين بجائزة الجولدن جلوب، لفت النظر ترشح غير معتاد لفيلم هندي بوليوودي وشعبي يدعى «RRR» إخراج «س. س راجامولي».
ترشح الفيلم لجائزتي جولدن جلوب، هما أفضل فيلم أجنبي، وأفضل أغنية أصلية، وفاز بالثانية، ترشح لجائزة أفضل أغنية أصلية في الأوسكار كذلك، وفي انتظار إعلان النتائج، لفت الاحتفاء الجماهيري والنقدي العالمي الذي حازه الفيلم نظر المشاهدين المصريين بشكل خاص أكثر من العالميين، لعدة أسباب، أولها كونه فيلمًا ناجحًا ماديًّا وشعبيًّا، وذا نزعة جماهيرية فهو ليس فيلمًا هنديًّا مستقلًّا أو جديًّا، بل هو فيلم يحمل كل سمات الأفلام الهوليودية الشهيرة، من تمثيل مغالٍ ومشاهد أكشن خيالية ووصلات غنائية راقصة، والسبب الآخر هو التشابهات البصرية والقصصية بينه وبين الفيلم المصري كيرة والجن للمخرج مروان حامد والكاتب أحمد مراد، والذي توقع البعض ترشيح نقابة المهن السينمائية له كممثل لمصر في مسابقة الأوسكار، لكن بدلًا من ذلك قررت النقابة انسحابها من ترشيح فيلم للعام من الأساس استنادًا لرؤيتهم للوضع السينمائي المتردي وعدم استحقاق أي فيلم لتمثيل مصر في المحافل العالمية.
أثار ترشح RRR تساؤلات حول إمكانية وصول كيرة للجن لمكانة مشابهة، خاصة أن كليهما أفلام شعبية، فكلاهما يسرد فترة زمنية مشابهة، وكلاهما تقع أحداثه في إطار مقاومة الاحتلال الإنجليزي، بل تصل التشابهات إلى أن الفرضية الرئيسية تدور حول صداقة غير مألوفة بين رجلين من خلفيات مختلفة، أحدهما يدعي الموالاة للإنجليز، ومعًا يصبحان خارقين لا يهزمان، أثارت تلك التشابهات التي لا يمكن إنكارها استنكارًا لعدم إعطاء كيرة والجن الفرصة نفسها، خاصة مع الميل العالمي العام لإدراج أفلام من ثقافات لم تمثل كفاية من قبل في المسابقات الكبرى، والتركيز على قصص مكافحة الاستعمار والتحرر الشعبي والسرديات السياسية للأقليات المنسية بشكل عام، لكن هل يكفي أن يتشابه فيلمان في النقاط الرئيسية لكي يمتلكا نفس الفرص؟
الأفلام الكبيرة والجوائز
لم يكن هناك انفصال دائم بين الجوائز والأفلام الشعبية في الماضي غير البعيد، عادة ما حصدت أكثر الأفلام نجاحًا وجماهيرية الجوائز الكبرى، لم يكن هناك خطوط حادة بين ما هو جماهيري وما هو فني، اعتدنا في السابق رؤية أفلام تعتبر منجزات فنية متفردة مثل «الأب الروحي – The Godfather» تنجح في شباك التذاكر وتمتلك تأثيرًا ثقافيًّا وشعبيًّا واسعًا، وفي الوقت نفسه تحوز على التقدير الأكاديمي والجوائز الرفيعة، مع ازدياد الفجوة بين الفني والجماهيري ابتعدت المؤسسات المانحة للتكريمات السينمائية عن الأفلام الشعبية ذات الميزانيات الكبيرة، في الغالب لعدم احتوائها على قيمة فنية تعطي لتلك الجوائز قيمة في المقابل، أصبح ما هو شعبي للناس وما هو فني لنخبة محدودة، وذلك الذي يطلق عليه فني هو ما يحصد الجوائز، مما قلل الاهتمام الجماهيري بحفلات تسليم الجوائز؛ لأن الأفلام المرشحة ليست مرئية بالشكل الكافي، وبالتالي قلت مشاهدات الحفلات وشعبيتها.
اعتبر البعض أن السبب الرئيسي لتجاهل نقابة المهن السينمائية المصرية لفيلم كيرة والجن هو كونه فيلمًا جماهيريًّا شعبيًّا ناجحًا، ليس فنيًّا أو ضئيل الميزانية، بل هو فيلم مكلف، عمل به الكثير من الجهات الإنتاجية، وتطلب تنفيذه مجهودات لوجستية ضخمة وفرقًا للمؤثرات البصرية ونجومًا ذوي شعبية كبيرة محليًّا، فعندما أخذ فيلم RRR الاعتراف والاحتفاء أصبح مفهوم الأفلام الكبيرة والجوائز وضع تساؤل، وتداخل مع ذلك تساؤلات عن الشعور بالدونية وعدم الثقة في الصناعة السينمائية المحلية، بينما تصل سينمات محلية أخرى للعالمية بأفلام مشابهة، لكن هل RRR وكيرة والجن متشابهان لذلك الحد الذي يجعل وصولهما للأماكن نفسها عملية محتومة ولم يمنع عنها شيء سوى التجاهل المحلي للفيلم المصري؟
أعطت الهند الفرصة الكاملة لفيلمها الأغلى تكلفة في تاريخها، تم عرضه عالميًّا بشكل واسع واختبره الكثيرون كفيلم ملحمي ضخم من ثقافة أخرى، بينما في الوقت نفسه وعلى الرغم من عرضه في مهرجان روتردام السينمائي وبعض العروض العالمية المحدودة لم تعطِ مصر لكيرة والجن الفرصة نفسها، لكن الافتراض بأن تساوي الفرص كان سيساوي الفيلمين هو افتراض منقوص بشكل عام، كلا الفيلمين يقعان تحت تصنيف الأفلام الكبيرة Blockbuster، لكن أحدهما يأخذ ذلك المفهوم لأقصى إمكانياته الممكنة، والآخر يستخدم فرضياته لإيصال رسائل آنية من خلال السرد التاريخي، كلاهما يكافح المعتدي نفسه، ويرسم أشرارًا متشابهين في صورة قيادات عسكرية إنجليزية كاريكاتيرية ووحشية، كلاهما يخلق قصة رومانسية بين البطل وفتاة إنجليزية، لكن التناول التاريخي والبصري والاستعراضي للفيلم كملحمة تاريخية يختلف تمامًا بين RRR وكيرة والجن.
أفلام الميزانيات الخيالية
يتناول فيلم RRR صراعه الرئيسي بشكل مبسط تمامًا، يقدم لقصته باعتبارها كفاحًا شعبيًّا ضد مستعمر، ويصنع من خلال السياق العام تفصيلات فردية وشخصية مثل اختطاف طفلة هندية في قصر أحد القيادات العسكرية الإنجليزية وسعي أخيها للثأر، لا يمتلك RRR أي أيديولوجيا أعمق من مفهوم المقاومة الشعبية والصداقة الرجولية، هو فيلم ضد استعماري بشكل استعراضي وشعبي، لا يقدم لأفكار قومية معاصرة، أو لأي أفكار أعمق مما تبدو عليه الأشياء، تتخطى مدة الفيلم ثلاث ساعات، يمضي حوالي الساعة منها في بناء الصداقة التي ستصبح العمود الفقري للفيلم بناءً واضحًا ومكثفًا يرسخ لتعاطف المشاهد أيًّا كانت خلفيته مع هذين الرجلين اللذين لن يوقفهما شيء عن الدفاع بعضهما عن بعض، وبالتبعية عن وطنهما، بينما يتخذ كيرة والجن توجهًا مختلفًا، فهو يقسم بناء علاقاته إلى فريق من المنتقمين، وهي فكرة جيدة لصناعة فيلم يظهر التنوع الوطني لبلد معين وقت الاستعمار، لكنه لا يعطي على الرغم من مدته الطويلة – ثلاث ساعات كذلك – أي عمق وترسيخ للصداقة الرئيسية التي سوف تسيِّر أحداث الفيلم كله وصراعاته، يأخذ الفيلم وقتًا طويلًا في التعريف بخلفيات أبطاله الثقافية، ثم ينساهم تمامًا، فيصبح الارتباط بتلك الشخصيات هشًّا، وسماتهم نفسها وعلاقاتهم قابلة للنسيان والتغاضي، كما أن التركيز على إدراج الأيديولوجيات القومية في نسيج التاريخ لكي يوازي الواقع المعيش يأخذ من مجهود الفيلم في صناعة ملحمة حركية، أو في أن يصبح فعلًا فيلمًا شعبيًّا ضخمًا، يدمج بين الفنية والجماهيرية.
تم التسويق لكلٍّ من RRR وكيرة والجن في بلدانهما الأصلية كأحد أكثر الإنتاجات ضخامة وتكلفة، مؤثرات بصرية باذخة ومشاهد حركة تفصيلية ومطولة ومثيرة، عند مشاهدة كلا الفيلمين يمكن رؤية كيفية استخدام كل تلك الأموال المنفقة والخيارات الواعية التي اتخذها كلٌّ منهما، في RRR يمكن رؤية لماذا يعتبر ذلك الفيلم هو الأعلى تكلفة في تاريخ السينما الهندية، لا يوجد لحظة في الفيلم دون مشهد قتالي مبتكر تمامًا وعامر بالألوان والحركة والتصميم الجسدي، يأخذ RRR سرده التاريخي ويحوله إلى احتفالية تقنية كبرى من الاستعراض والبذخ البصري، لا أظن أن أي مشاهد له سوف ينسى مشهد قتال الصديقين كشخص واحد قرب نهاية الفيلم، يصنع الفيلم مشهد حركة بصريًّا يعزز من السردية الرئيسية للصداقة بجعل أحد المقاتلين يعتلي كتف الآخر فيصبحان مقاتلًا واحدًا لا يقهر، مجهودات كتلك في تصميم المشهدية البصرية هي ما يجعل فيلمًا ما يكتسب سمعته كفيلم ضخم، ذلك بالإضافة بالطبع لتصميم الرقصات البوليوودي المعتاد الذي يأخذ منحى أكثر تطرفًا وإبداعًا في الفيلم، فتصبح مشاهد الرقص والغناء أشبه بمشاهد الحركة والقتال، بها نفس الإثارة البصرية، بل والإثارة القصصية، فهي تحرك القصة للأمام وليست مجرد فقرات منفصلة.
في كيرة والجن يمكن بالطبع رؤية التكلفة الإنتاجية في تصميم الملابس والإنتاج، في استعادة الفترة الزمنية بدقة وأناقة، وأسلوبية إخراجية ينتهجها مروان حامد في أفلامه بشكل عام، كيرة والجن فيلم تاريخي كبير لكنه يصنع هجينًا من الأنواع الفيلمية لعجزه الخاص عن الانتماء لتصنيف محدد، فهو يريد أن يكون فيلمًا فنيًّا يستدعي الاحترام والتقدير كفيلم مهم، لكنه في الوقت نفسه يريد أن يحوز على القيمة الشعبية والنجاح المادي الذي يضمن كسب التكلفة الإنتاجية، يستثمر الفيلم في كاريزما نجومه لصناعة الشعبية وليس في المشهدية الباذخة، فهو يميل إلى الواقعية في تصوير معاركه، وليس الإبهار البصري، فتصبح تلك المعارك عرضة للنسيان، تصميمات متقنة الصنع لكنها ليس أيقونية.
الاستشراق وإدراك انعدام المركزية
يمكن القول بأن ما أوصل RRR لذلك التعريف العالمي والاحتفاء الضخم هو عدم مساومته على هنديته، فهو لا يدعي الفنية أو الاحترام الفني، لا يسعى إلا أن يكون فيلمًا شعبيًّا، يحتفظ بكل ما يجعله فيلمًا قادمًا من بلده، الأغنيات والمبالغات، التمثيل البدائي، والابتذال الكامل في أساليب السرد، RRR هو فيلم مفرط في كل شيء، مفرط في مشاعره وفي عنفه ضد المستعمر، مفرط في قصص الحب، وفي رجولة أبطاله، وفي قصصهم الرومانسية، حتى إنه مفرط في تصوير الصداقة الرجولية وكأنها قصة حب مستحيلة لن يتمكن العالم كله من الوقوف في وجهها، أسهم المناخ العالمي العام في جعل الفيلم أكثر من فيلم بوليوودي مرتفع الميزانية وأصبح مشاركًا أساسيًّا في موسم الجوائز، لا يمكن إنكار الطبيعة الإكزوتيكية التي يشاهد بها المشاهدون الغربيون خاصة في أمريكا الإنتاجات الشرقية، خاصة مع توفر حالة غربية من إدراك انعدام المركزية الأمريكية، وأن لدى العالم ما يقدمه خارج عالم هوليوود المحدود، يوفر لهم RRR كل ما يريدونه لكن دون أن يقصد ذلك، فالفيلم لا يحاول خدمة ذوق مختلف عنه، بل يخدم ذوقه المحلي الخاص، وبالتبعية يستسيغ الآخر ذلك الذوق باعتباره وجبة جديدة تمامًا، تعلو فوق الواقع دون حسابات فنية أو منطقية.
لا يمكن قول المثل عن كيرة والجن، فعلى الرغم من كونه فيلمًا منتقعًا في مصريته ووطنيته نظريًّا، وقصصيًّا فهو ليس كذلك شكليًّا، كيرة والجن يتبع تقاليد الملاحم التاريخية الأمريكية الضخمة، يركز على تصميم الإنتاج الجمالي والتقاط التفاصيل التاريخية الدقيقة، لا يعد ذلك عيبًا فيه، لكنه لا يقدم التأثير نفسه، فهو فيلم يحاول أن يفعل كل شيء دون تميز بشكل محدد في أي من طموحاته، لا يوجد ما يميزه بشكل محلي لكي يصبح حديث دار عرض ما في بلد بعيد عن مكان إنتاجه، يشبه الممثلون الوسيمون بالمعايير الأوروبية أي نجوم من أي بلد آخر وتبدو البصريات المنمقة مشابهة لعدة أفلام درامية تاريخية أخرى، في الوقت نفسه توجد تشابهات طريفة بين استجابة صناع الفيلمين لحقيقة التأثر بأفلام عالمية شهيرة مثل أوغاد مغمورين Inglourious basterds لكوينتن تارنتينو، ففي حين أنكر أحمد مراد لتأثر الفيلم بأي شكل بفيلم تارنتينو الشهير، سواء قصصيًّا أو بصريًّا، فإن راجامولي أعلن بوضوح أن فيلمه متأثر مفاهيميًّا بأوغاد مغمورين، فهو مثل تارنتينو أخذ شخصيات مثبتة تاريخيًّا وصنع بهم قصة خيالية أعادت صياغة التاريخ من جديد، كل من بيم وراما مكتوبان في تاريخ المقاومة الهندية، لكنهما لم يلتقيا أبدًا، تصور راجامولي كيف سيكون لقاء بطلين مثل هذين وكيف سيكون اتحادهما قوة لا تهزم.
لا يمكن لأحد توقع مدى نجاح وتوسع فيلم ما أو تأثيره الثقافي، أو توقع استجابة المناخ العام الثقافي والأيديولوجي له وإدراجه ضمن موسم جوائز يعتبر أمريكا هي الحلقة المركزية التي يدور حولها كل شيء، وأن كل ما هو خارجها أجنبي، ربما إذا أعطى كيرة والجن الفرصة نفسها كان سيلقى استحسانًا غربيًّا لسرده قصة مقاومة ضد مستعمر تاريخي وربما لجودته البصرية، لكن التأثير الثقافي عادة ما يحابي الأفلام المتمردة، التي لا تحمل حسابات معقدة للتمثيل القومي والثقافي، الأفلام التي يمكن رؤية شغف صانعيها في كل مشهد منها، سواء وصلت إلى التقدير الغربي أم أصبحت أساطير شعبية داخل بلدانها الأصلية.