هل سرق ابن خلدون «المقدمة» من إخوان الصفا؟
حظي المؤرخ الأندلسي، العربي الأصل، أبو زيد، ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون المتوفى 808هـ، بمقام مهم، ومكانة معتبرة في الثقافة العربية الإسلامية، إذ نُظر لكتابه «المقدمة» على كونه أحد أهم الكتب التي ظهرت في تاريخ الثقافة الإسلامية على الإطلاق، واعتبره كثير من الباحثين المحدثين بمثابة الكتاب المؤسس لعلم الاجتماع.
على الرغم من كل ذلك التقدير الذي مُنح للكتاب ولمؤلفه عبر القرون، فإن بعض الباحثين المعاصرين قد خالفوا هذا التوجه المُعلِي من قدْر المؤرخ الأندلسي، عندما ذهبوا إلى أن ابن خلدون قد اقتبس كثيراً من الآراء والأفكار من بعض المؤلفين السابقين عليه، وأنه قد مارس نوعاً من أنواع السرقة العلمية عندما نقل مضامين أفكارهم في كتابه دون أن يشير إليهم.
المفكر المصري، الدكتور محمود إسماعيل عبد الرازق، كان واحداً من هؤلاء الباحثين الذين وجهوا سهام نقدهم لابن خلدون، عندما اتّهمه بسرقة أفكار جماعة إخوان الصفا، وناقش ذلك بشكل مفصل في كتابه المعنون بـ«نهاية أسطورة: نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل إخوان الصفا».
ما قبل النقد
قبل أن يلج الدكتور محمود إسماعيل عبد الرازق في مناقشته للأفكار الواردة في مقدمة ابن خلدون، يلقي الضوء على أهمية الكتاب، فيؤكد أن الدارسين لطالما اعتبروا أن مقدمة ابن خلدون «هي أروع إنجاز علمي عرفه التاريخ، وكم من كتب ودراسات وأبحاث أنجزت عن علم الخلدونيات».
من جهة أخرى، يشير إسماعيل للظلم الهائل الذي تعرضت له جماعة إخوان الصفا على مر القرون، ذلك الذي ظهر فيما اجتمع عليه كثير من الباحثين الذين اعتبروا أن معارف إخوان الصفا «محض إشراق غنوصي، وعرفان صوفي تهويمي يعبر عن عقل مستقيل، ونظروا إلى الإخوان على أنهم جماعة سرية تستهدف غايات سياسية موالية للحزب العلوي الشيعي…».
يوضح المؤلف الإرهاصات التي سبقت نقده للمقدمة، فيقول «تعاظمت شكوكي في ابن خلدون ومقدمته، حين درست تاريخه العبر وديوان المبتدأ والخبر. وكمتخصص في تاريخ المغرب، أدركت البون الشاسع بين المقدمة والتاريخ. إذ إن الأخير جد متواضع. وقد لا يرقى إلى مستوى تواريخ ابن حيان وابن عذاري وهما من مؤرخي بلاد المغرب والأندلس في العصور الإسلامية… عندئذ عكفت على دراسة مقدمة ابن خلدون مقارنةً بمعارف رسائل الإخوان. ولشد ما كانت الدهشة إذ وقفت على حقيقة أن سائر النظريات التي نسبت إلى ابن خلدون منقولة عن الرسائل».
من الشواهد التي ساقها الدكتور محمود إسماعيل في مقدمة كتابه، والتي تؤكد- بحسب وجهة نظره- على سرقة ابن خلدون لأفكار إخوان الصفا، أن المؤرخ الأندلسي الأشهر لم يذكر اسم جماعة إخوان الصفا صراحةً ولو لمرة واحدة في مقدمته، في الوقت الذي ذكر فيه أسماء المئات من الأعلام. وكأنه بذلك كان يحاول أن يمعن في التمويه والإيهام ليبعد أنظار القراء عن المصدر الرئيس الذي استقى منه مادة كتابه.
يرى إسماعيل أن المرة الوحيدة التي أشار فيها المؤرخ الأندلسي لإخوان الصفا، كانت بشكل مبطن مستتر، عندما تحدث عمن وصفهم بأهل البدع، فأشار إلى آرائهم في الإلهيات، وإن تعرض لها بالنقد والتوبيخ.
أيضاً يذكر المؤلف أن ابن خلدون- وفي سياق التمويه- قد ندد بمسلمة المجريطي، إذ وصفه بالخبث والإلحاد، ومسلمة هو العالم الأندلسي الكبير، الذي كان رئيساً لإخوان الصفا في الأندلس.
ويرى الدكتور محمود إسماعيل أن ابن خلدون قد نثر الأفكار التي اقتبسها من رسائل الإخوان، في شتى أنحاء المقدمة، وذلك حتى يخفي آثار سرقاته العلمية، ولكن ورغم ذلك «فكثيراً ما وقع في المحظور واقتبس بعض عناوين الفصول من تبويب إخوان الصفا مع إجراء تعديلات طفيفة»، كما أنه قد أخذ بكثير من المصطلحات التي وردت في الرسائل، ومنها العمران، والبداوة، والتوحش، والانحطاط.
أيضاً يلاحظ الدكتور محمود إسماعيل، أن لغة ابن خلدون في المقدمة- والتي تتماثل في أحيان كثيرة مع لغة الإخوان في رسائلهم- تخالف لغة عصره، كما أنها تخالف اللغة التي استخدمها في كتاب العبر، مما يدل على أن ابن خلدون قد استقى أفكار مقدمته من مصدر قديم.
إخوان الصفا: جماعة غامضة ظلمها المؤرخون
في الفصل الثاني من كتابه، يلقي الدكتور محمود إسماعيل الضوء على جماعة إخوان الصفا، فيوضح مجموعة من السمات والخصائص التي اشتهرت بها تلك الجماعة، مؤكداً أن تاريخ جماعة إخوان الصفا قد تعرض لكثير من التشويه، ولذلك فقد «ظل تاريخهم مضبباً إن لم يكن مجهولاً».
يحاول المؤلف أن يوضح الخطوط الرئيسة لتاريخ تلك الجماعة الغامضة، فيحددها في النقاط الآتية:
أولاً: أن مرحلة الإعداد لتأسيس الجماعة قد بدأت مع بداية العصر العباسي الثاني، وفي عهد الخليفة المتوكل على وجه التحديد.
ثانياً: أن فكرة تأسيس تلك الجماعة قد جاءت كرد فعل لحالة التدهور والتردي التي أصابت دولة الخلافة العباسية في ظل سيطرة الأتراك على السلطة.
ثالثاً: أن أهم رموز تلك الجماعة هم زيد بن رفاعة وأبي الحسن الزنجاني وأبي أحمد المهرجاني وأبي سليمان البستي، وربما انضم إليهم فيما بعد كل من ابن الراوندي وابن سينا والمعري والفارابي.
رابعاً: أن مركز جماعة إخوان الصفا كان البصرة، كما كان لهم فرعاً في الأندلس أيضاً.
خامساً: ألفت الجماعة إحدى وخمسين رسالة في شتى فروع المعرفة، وكان كل عالم يكتب في المبحث المعرفي الذي يخصه.
سادساً: على عكس كثير من الباحثين الذين يربطون بين جماعة إخوان الصفا والمذهب الشيعي الإسماعيلي على وجه الخصوص، فإن الدكتور محمود إسماعيل يذهب إلى أن الجماعة لم تكن لها أي هدف أو مشروع سياسي أو مذهبي، ولهذا فإن كثيراً من العلماء قد انضموا لتلك الجماعة على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم، وكان الهدف الأسمى للإخوان هو الدعوة للاشتراكية وتحقيق العدل الاجتماعي. الأمر الذي أشار له دي بور في كتابه تاريخ الفلسفة الإسلامية عندما وصف الجماعة «بأنها لم تكن إلا حركة مذهبية فكرية تستهدف تحقيق التنوير لإذكاء الوعي السياسي عن طريق المعرفة. لذلك انضم إليها المستنيرون من سائر المذاهب والفرق…».
سابعاً: من الملامح المميزة لفكر إخوان الصفا، أنهم قد عولوا في منهجهم المعرفي على السماع والتجربة والبرهان العقلي والحواس، وأنهم قد جعلوا العقل هو الفيصل في تلقي المعارف وتقويمها.
ثامناً: أما فيما يخص الإلهيات، فقد أخذت جماعة إخوان الصفا بنظرية الفيض ذات الأصول اليونانية التي ترجع لأفلوطين. فيما يخص رؤيتهم للعالم، فقد رسخوا مبدأ العلية والسببية، واستشرفوا مبادئ نظرية التطور. وفي السياق نفسه، يشير المؤلف إلى بعض الأفكار المهمة التي قال بها الإخوان ودعوا لها، ومنها على سبيل المثال، اعتقادهم بعدم الحاجة إلى وجود السلطة القاهرة في بعض الأحيان، وذلك عندما ينقل عنهم قولهم «العقلاء لا يحتاجون إلى رئيس، لأن عقلهم يقوم مقام الرئيس والإمام»، ودعوتهم لتحرير المرأة، والتنديد بفقهاء السلطان.
ابن خلدون: المؤرخ الميكيافيلي المغامر
أما في الفصل الثالث من كتابه، فقد عمل الدكتور محمود إسماعيل على رسم صورة واضحة لشخصية ابن خلدون، إذ استشهد بكثير من الكتابات التي تعرضت لسيرة المؤرخ الأندلسي، في سبيل إثبات براجمايته ووصوليته وتوقه الدائم إلى السلطة بغض النظر عن طريقة الوصول إليها.
بدايةً، يوضح المؤلف ظروف العصر الذي عاش فيه ابن خلدون، فيؤكد أنه كان عصر انحطاط، إذ كان عصر النقل والسطو في المشرق والمغرب، وإذا كان بعض مؤلفي ذلك العصر، من أمثال النويري والقلقشندي قد التزموا بالأمانة العلمية فأشاروا إلى مرجعياتهم، فأن أغلب مؤلفي ذلك العصر قد «تغاضوا عن ذلك ونسبوا لأنفسهم حسنات وإنجازات السابقين».
أما عن حياة ابن خلدون، فقد وصفها المؤلف بأنها كانت عبارة عن سلسلة متصلة من التآمر والإحن ومن الأمجاد والمحن، وذلك بسبب طموحاته السياسية التي حدت به ليصبح مكيافيللياً بامتياز.
بحسب المؤلف، فإن شخصية ابن خلدون قد تأثرت كثيراً بالعادات والتقاليد التي كانت مترسخة في عائلته من قبل «إذ حملت شخصية المؤرخ الأندلسي، بعداً فطرياً موروثاً عن أسرته التي غادرت حضرموت إلى الأندلس وبلاد المغرب من أجل طموحات سياسية ودنيوية أيضاً».
أسرة ابن خلدون- والتي ترجع إلى أصول عربية حضرمية- عاشت لفترة في مدينة إشبيلية الأندلسية، وشارك أبناؤها في أحداث الفتن والمكائد التي وقعت في أواخر عصر الإمارة بالأندلس، وبعدها سافرت الأسرة إلى المغرب، وتنقلت ما بين مدن سبتة وإفريقية وبجاية.
على ما يبدو، فإن نزعة المغامرة كانت متأصلة في نفوس رجال تلك العائلة منذ أمد بعيد، فعلى سبيل المثال، اشترك جد ابن خلدون، في كثير من المؤامرات، وبعدها سافر إلى المشرق، وأدى فريضة الحج، وأظهر توبته، ولكنه عاد مرة أخرى لممارسة المؤامرات، فكان مصيره الخنق في محبسه.
يؤكد الدكتور محمود إسماعيل أن ابن خلدون قد مارس نفس الأفعال التآمرية التي مارسها أجداده من قبل، فقد ورث عنهم نفس الطموحات والأساليب الملتوية «فنجح كثيراً في تولي المناصب السلطانية العليا، كما فقدها أيضاً بسبب عدم قناعته بها، إذ كان يطمع في الإمارة أو الحجابة التي كان متوليها هو الذي يمسك بزمام السلطة».
بسبب كل ذلك سجن ابن خلدون ثلاث مرات طوال حياته، كما لعب دوراً مهماً في سياسات الحفصيين بتونس وبني عبد الواد بالمغرب الأوسط وبني مرين بالمغرب الأقصى وملكة غرناطة في الأندلس.
ابن خلدون لما فشل في تحقيق أهدافه في المغرب والأندلس، سافر إلى المشرق، ونجح في كسب ود بعض سلاطين المماليك في القاهرة، فتولى التدريس بالأزهر الشريف، وتولى منصب قاضي المالكية بمصر.
بحسب إسماعيل، فإن شخصية ابن خلدون الميالة للمؤامرة والمنافسة الدائمة على مقاليد السلطة والنفوذ، قد هيأت له السبل لممارسة السرقة العلمية والسطو على رسائل إخوان الصفا، دون أن يخشى في ذلك لومة لائم.
نصوص نقلها ابن خلدون عن إخوان الصفا
أما في الفصل الرابع من كتابه -وهو الفصل الأكثر أهمية في الكتاب- فيقدم الدكتور محمود إسماعيل الأدلة والحجج والبراهين التي تثبت دعواه، فيعقد مقارنة تفصيلية بين مجموعة كبيرة من النصوص التي وردت في مقدمة ابن خلدون من جهة، ومجموعة مقابلة من النصوص التي وردت في رسائل إخوان الصفا من جهة أخرى.
فيما يخص علم الجغرافيا، يرى إسماعيل أن ابن خلدون قد أخذ بما قال به إخوان الصفا، عندما طرحوا تصورهم الخاص عن العالم القديم، وتقسيمه إياه إلى سبعة أقاليم، وقولهم بتأثير البيئة الطبيعية على أمزجة وطبائع السكان، ومن هنا نجد أن المؤرخ الأندلسي يعقد فصلاً في كتابه بعنوان «فصل في قسط العمران في الأرض والإشارة إلى ما فيه من الأشجار والأنهار والأقاليم»، في الوقت الذي كتب إخوان الصفا في رسائلهم فصلاً بعنوان «فصل في صفة الأقاليم وما في الربع المسكون من الأرض مع ما فيها من الجبال والبحار والبراري والأنهار والمدن وما في البحار من الجزائر والمدن».
بحسب المؤلف، فإن ابن خلدون قد اقتبس كثير من معلوماته الجغرافية مما كتبه إخوان الصفا في رسائلهم، ومن ذلك قوله «…وقد يتوهم من ذلك أن الماء تحت الأرض، وليس بصحيح»، وهو القول الوارد فيما نص عليه الإخوان «وليس شيء من ظاهر سطح الأرض من جميع جهاتها هو أسفل الأرض، كما يتوهم كثير من الناس».
في السياق نفسه، تحدث ابن خلدون عن الأقاليم الثلاثة المأهولة من الأرض، فقال فيها «…فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجميع ما تكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال وسكانها من البشر أعدل أجساماً وألواناً وأخلاقاً وأدياناً، حتى النبوءات فإنما توجد في الأكثر فيها…»، فيما ذكر إخوان الصفا عن تلك الأقاليم «وهذا الإقليم هو إقليم الأنبياء والحكماء… وأهل هذا الإقليم أعدل الناس طباعاً وأخلاقاً…».
اقتباس/ سرقة ابن خلدون من إخوان الصفا، ظهر/ ظهرت أيضاً في مجال الاقتصاد وتقسيم الأعمال والصنائع بين البشر، ففي حين يذكر إخوان الصفا أن الحكمة الإلهية أوجبت «أن يشتغل جماعة من الناس بإحكام الصنائع وجماعة في التجارات وجماعة بتدبير السياسات وجماعة بالخدمة للجميع…»، فإن ابن خلدون يقول في السياق نفسه «المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة…».
أما فيما يخص نظريات العمران- والتي يؤكد الدكتور محمود إسماعيل أهميتها البالغة في مقدمة ابن خلدون- فإن المؤرخ الأندلسي قد استلهم الكثير من أسسها من كتابات إخوان الصفا، فهو حين يتحدث عن حاجة الإنسان إلى الاجتماع وأنها حاجة فطرية جبلية، يقول «إن الاجتماع الإنساني ضروري، يعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع، أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم، وهو معنى العمران وبيانه أن الله، سبحانه، خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة على تحصيل حاجته من ذلك الغذاء… فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ. وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة…».
في الوقت الذي نجد فيه أن إخوان الصفا قد كتبوا في المضمون نفسه «أن الإنسان الواحد لا يقدر أن يعيش وحده إلا عيشاً نكداً، لأنه محتاج إلى طيب العيش من إحكام صنائع شتى، ولا يمكن للإنسان الواحد أن يبلغها كلها، لأن العمر قصير والصنائع كثيرة. فمن أجل هذا اجتمع في كل مدينة أو قرية أناس كثيرون لمعاونة بعضهم بعضاً. وقد أوجبت الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأن يشتغل جماعة منهم بإحكام الصنائع وجماعة في التجارات، وجماعة بإحكام البنيان… إلخ لأن مثلهم في ذلك كمثل أخوة من أب واحد في منزل واحد متعاونين في معيشتهم كل منهم في وجه منها».
وبحسب الدكتور محمود إسماعيل، فإن نظرية تعاقب الدول التي قال بها ابن خلدون في مقدمته، قد اقتبسها أيضاً من مضمون ما جاء في رسائل إخوان الصفا، لا سيما المقطع الذي ورد فيه قولهم «إن أيام هذه الدنيا دول بين أهلها تدور بإذن الله تعالى، وسابق علمه ونفاذ مشيئته بموجبات أحكام القرانات…».
أما عن العلاقة بين مفاسد الملوك وانهيار الأخلاق من جهة وزوال المُلك من جهة أخرى، فقد تابع ابن خلدون قول إخوان الصفا «أن أخلاق الملوك وسجاياهم وآداب أتباعهم ومن يصحبهم وينادمهم خلاف أخلاق العامة… فالملك يجب أن يكون رجلاً عاقلاً… مشفقاً على رعيته… وأما من كان مطبوعاً على الضد فهو يحتاج إلى أمر ونهي ووعد ووعيد»، فنجده يقول في مقدمته «والملك غاية للخلال لأن وجوده كفالة للخلق وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه… فإذا تأذن الله انقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل… إلى أن يخرج الملك من أيديهم».
فيما يخص السياسة ومبادئ الحكم والسلطان، ظهر تأثر ابن خلدون بأفكار إخوان الصفا في حديثه عن ضرورة الحكم، إذ يقول «إذا جعل العمران للبشر فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم… فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك… وذلك الحكم يكون بشرعة مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر»، فيما يقول إخوان الصفا بنفس المعنى مؤكدين حاجة العامة لوجود الحاكم أو الملك «واعلم أنه ما من جماعة تجتمع على أمر من أمور الدين والدنيا وتريد أن يجري أمرها على السداد، وتكون سيرتها على الرشاد إلا ولا بد لها من رئيس يرأسها ليجمع شملها ويحفظ نظام أمرها، ويراعي تصرف أحوالها، ويرم على الانتشار جماعتها، ويمنع من الفساد صلاحها».
في السياق نفسه تأثر المؤرخ الأندلسي بفكر إخوان الصفا الذي يؤكد ضرورة ارتباط الدين بالدولة، وأثر الأول في قوة الثانية، إذ يقول «خلق الكبر والمنافسة منهم وسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة، الوازع عن التحاسد والتنافس، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، ثم اجتماعهم، وحصل لهم التغلب والملك». وهو المعنى المنقول من قول الإخوان في رسائلهم «إذ صار الملك والنبوة في الدولة فتغلب سائر الأمم وتأخذ فضلها وفضائلها»، وأن «الدين والملك توأمان لا يفترقان ولا قوام لأحدهما إلا بأخيه، غير أن الدين هو الأخ المقدم، والملك هو الأخ المؤخر المعقب له».
وعن دور الجند المخرب في الدولة إبان مرحلة الانهيار، يقول ابن خلدون مفسراً تلك الظاهرة «بعد كثرة الإنفاق بسبب الترف تعظم نفقات السلطان وأهل الدولة… ويكون الجند في ذلك الطور قد تجاسر على الدولة بما لحقها من الفشل والهرم»، الأمر الذي يظهر في قول إخوان الصفا «ليس شيء على الملوك أضر ولا أفسد لأمرهم أو رعيتهم من المستأمن من جنودهم».
أما عن النظم والترتيبات السلطانية، فقد عددها ابن خلدون، وذكر أقسامها وأنواعها، مشيراً إلى أهميتها في بناء الدولة، فقال «واعلم أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة والملك الذي هو بسبيله من الجندي والشرطي والكاتب…إلخ»، وهي العبارة التي تتماشى مع ما ذكره الإخوان في رسائلهم من أنه «لا بد للملك من الوزراء والكتاب والعمال وأصحاب الدواوين وجباة الخراج…إلخ، وكل هذه الطوائف لا بد للملك من النظر في أمورهم…».
كذلك تأثر المؤرخ الأندلسي بالإخوان فيما يخص مسألة العلة والسببية، ففيما قالت الجماعة «لا يكون المعلول قبل العلة، فهذا أيضا بين في أوائل العقول، لأن المعلول لا يكون قبل العلة، ولكن من أجل أنهما من جنس المضاف إنما يوجدان معاً في الحس…»، قال الأول في مقدمته «اعلم أرشدنا الله وإياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان…».
أما إحدى أهم النقاط التي ظهر فيها تأثر ابن خلدون بفكر إخوان الصفا، فقد كانت تلك النقطة المتعلقة بتقسيم العلوم والمعارف، إذ يضع الدكتور محمود إسماعيل يده على بعض المواضع التي يتضح فيها النقل الحرفي من رسائل إخوان الصفا، واستخدام ابن خلدون لبعض المصطلحات والمسميات التي لم تكن شائعة أو معروفة في عصره، ومنها على سبيل المثال علوم الأرتماطيقي والأرثماطيقي والجومطريا والأسطرونوميا.
كذلك لخص ابن خلدون أقوال إخوان الصفا في مجال اللغة، فتحدث عن أفضلية اللغة العربية على سائر اللغات، وتابع ما أورده الإخوان في رسائلهم «اللغة التامة لغة العرب، والكلام البليغ كلام العرب…».
أما في مجال التعليم والتعلم، فقد تابع ابن خلدون ما ذكره الإخوان في رسائلهم عن أهم أسباب الاختلاف والجدل بين العلماء والمتعلمين، فقال «اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم وتعدد طرقها ثم مطالبة المتعلم باستحضار ذلك…فيقع القصور»، القول الذي ورد مضمونه فيما ورد في رسائل إخوان الصفا «يرجع اختلاف الناس في العلوم والمعارف والآراء والمذاهب إلى تفاوت درجات الناس في القوة المُتخيلة، ومن أسباب تفاوت الناس كثرة العلوم والمعارف التي لا يمكن أن يحويها كل إنسان واحد».
هل وُفِّق الدكتور محمود في نقده لابن خلدون؟
يتفق السواد الأعظم من الباحثين والدارسين على أهمية كتابات الدكتور محمود إسماعيل عبد الرازق، وعلى تأثيره المُعتبر في حقل الدراسات التاريخية الإسلامية، لا سيما السياسية والاجتماعية والمذهبية منها. رغم ذلك يمكن ملاحظة نزعة التحامل الواضحة في كتاب «نهاية أسطورة»، والذي عمل فيه إسماعيل على تجريد ابن خلدون من كل ميزة نُسبت إليه قديماً وحديثاً، بدعوى سرقة جل أفكاره من جماعة إخوان الصفا.
القارئ المتمعن في الكتاب سيلاحظ أن نقد إسماعيل لابن خلدون، قد انطوى على مبالغة وتعظيم واضحين في تقدير كتابات إخوان الصفا، باعتبارها كتابات أصيلة، غير مقتبسة، وغير مسبوقة. الأمر الذي يتضح في كثير من المواضع، التي حاول فيها المؤلف إثبات دعوى السرقة العلمية بشتى الوسائل الممكنة.
من تلك المواضع القول بتقسيم العالم إلى سبعة أقاليم، وبأن العمران البشري قد تركز في بعض الأقاليم دون بعض، وهو الأمر الذي حاول المؤلف أن ينسبه إلى إخوان الصفا تحديداً دوناً عن غيرهم، رغم أنه كان قولاً شائعاً في أوساط العشرات من جغرافيي ومؤرخي العصور الوسطى، فلم الإصرار على القول بأن ابن خلدون قد اقتبسه عن إخوان الصفا على وجه الخصوص؟
أيضاً، تظهر نزعة التحامل في تأكيد المؤلف على سرقة ابن خلدون لترتيب وظائف الدولة من رسائل إخوان الصفا، رغم أن تلك الترتيبات قد ظهرت في المصادر الإسلامية منذ فترة مبكرة، ويشهد على ذلك تواترها بصيغ مختلفة في كتب الآداب السلطانية والولايات الدينية، ومنها على سبيل المثال، كتب الماوردي والجويني وابن حزم والغزالي، وهي الكتب التي صُنفت في زمن تصنيف رسائل إخوان الصفا.
في السياق نفسه، نلاحظ أن معظم أقوال ابن خلدون وإخوان الصفا التي تطرقت للعلاقة الوثيقة بين الدين والدولة من جهة، وتأثير العقائد في السلطة من جهة أخرى، قد انتقلت من الثقافة الفارسية الكسروية إلى الثقافة الإسلامية، وأنها قد نُسبت في كثير من الأحيان إلى مجموعة من حكماء فارس القدامى، من أمثال أردشير بن بابك، وأنوشروان والوزير بزرجمهر.
من كل ما سبق يمكن القول إننا نتفق مع ما ذهب إليه الدكتور محمود إسماعيل في كتابه، من أن الأقوال والآراء التي وردت في مقدمة ابن خلدون لم تكن وليدة قريحة المؤرخ الأندلسي وحده، بل كان له فضل صياغتها وتقديمها وترتيبها في مؤلف واحد فحسب – وبالمقياس ذاته- وجب علينا القول إن ما تشابه من أفكار بين ابن خلدون وجماعة إخوان الصفا، لم تكن في حقيقتها من ابداعات إخوان الصفا وحدهم، بل كانت تلك الأفكار في واقع الأمر مزيجاً من عقائد وخبرات شتى، نُقلت من الشعوب الحضارية -الفارسية والبيزنطية والقبطية والسريانية- إلى العرب، وسرعان ما عبر عنها العلماء المسلمون في كتاباتهم بعد ما قدموها في صياغة إسلامية، فظهرت حيناً في كتب الآداب السلطانية، وظهرت أحياناً أخرى في كتب التاريخ والفلسفة والحكمة.