هل كان إنشاء «إسرائيل» مشروعًا نازيًا مهّد له هتلر؟
تُجمع المصادر التاريخية على كون المشكلة اليهودية التي نشأت في أوروبا، هي أحد أهم الأسباب التي مهدت الطريق لإنشاء دولة لليهود في فلسطين عام 1948. وقد ظهر مصطلح «المشكلة اليهودية» لأول مرة في بريطانيا أواخر القرن الثامن عشر، إذ كان يعبّر عن نقاش عريض ساد أوساط النخبة حول مظاهر العنصرية الناشئة ضد الأقلية اليهودية في أوروبا.
نشأت العنصرية ضد اليهود في أوروبا مع تشكّل الدولة القومية الحديثة، وتغذت على تصاعد الاتجاهات والحركات القومية المتطرفة مثل النازية والفاشية. ووسط حالة الهوس بالنقاء العرقي، كان يُنظر لليهود الذين انحدروا من أعراق متنوعة وتكتّلوا على أنفسهم وفقًا لعامل الدين، على أنهم مناقضون في جوهر وجودهم لفكرة القومية، ولا مكان لهم في دول باتت تُعرّف نفسها وفق النقاء العرقي وتراه رديفًا للتفوق الحضاري. وقد عزّز هذا الاتجاه العنصري، عدم نجاح اليهود بالاندماج ونزعتهم نحو التكتل في مجتمعات مغلقة جغرافيًا واجتماعيًا.
الحل النهائي
مع وصول النازيين إلى الحكم في ألمانيا وسيطرتهم على مساحات أخرى في القارة الأوروبية، ازدادت المشكلة اليهودية عمقًا، إذ عملت الآلة البيروقراطية والإعلامية للنازيين على تصوير اليهود على أنهم أعداء داخليون للإمبراطورية الألمانية، ولا بد من التخلص منهم لتحقيق التجانس والتفوق المنشود. وهنا نظّرت النازية لما بات يُعرف بـ «الحل النهائي» كوصفة لتخليص أوروبا من اليهود.
قدم النازيون ثلاث أطروحات لـ «الحل النهائي» للمشكلة اليهودية في أوروبا:أولها أن يتم عزل اليهود بطريقة ممنهجة داخل «الغيتو» في أحياء وضواحٍ فقيرة وبعيدة عن المدن. ثانيها: أن يتم دفعهم للهجرة خارج القارة الأوروبية. وثالثها: الإبادة. وقد تدرجت الأطروحات النازية تاريخيًا مع هذه الأطروحات الثلاث.
وفيما تركّز الأدبيات الصهيونية على تواطؤ النازية على إبادة اليهود وتروي فظائع «الغيتو» و«الهولوكوست»، فإنها تعمدت التظليل على حالات التهجير الممنهجة لليهود التي نظمتها ألمانيا النازية نحو فلسطين، وتعاون الجمعيات الصهيونية مع النازية على تحقيق هذا الهدف. كما تتواطأ الدعاية اليهودية في أوروبا اليوم على معاقبة كل من يُشير إلى التحالف النازي-الصهيوني خلال ثلاثينيات القرن الماضي، لا سيما دور معاهدة «هافارا» التي جمعت طرفيّ النقيض: النازيين، والصهاينة.
الهجرة اليهودية إلى فلسطين
خلال سنوات الاضطهاد، ارتأى الكثير من اليهود الهجرة خارج القارة الأوروبية وتأسيس حياة جديدة، ورغم أن الحركة الصهيونية كانت قد أنضجت مشروعها لتأسيس وطن قومي لليهود وأعلنت عن اختيارها فلسطين مكانًا لهذا الوطن منذ عام 1897، إلا أن فلسطين لم تكن الوجهة المحببة للهجرة اليهودية.
وفق ما ذكره المؤرخ اليهودي الشهير جيرشون شافير في موسوعة الهجرة العالمية لجامعة كامبريدج، فإن ما لا يزيد من 3٪ من الهجرة اليهودية اختارت فلسطين وجهة لها منذ «إعلان بازل» وحتى عام 1914. ووفق ذات المصدر، فإن وعد «بلفور» أيضًا وجميع التسهيلات التي قدمتها سلطات الانتداب البريطانية لليهود من أجل الاستيطان في فلسطين لم تخلق إجماعًا يهوديًا للهجرة إلى فلسطين، إذ لم تشكّل فلسطين وجهة مختارة سوى لـ 30٪ من عموم المهاجرين اليهود حتى عام 1933.
لكن تغييرًا دراماتيكيًا تكشفه الأرقام وقع بين عامي 1933-1936، إذ ارتفع عدد المهاجرين اليهود إلى 600 ألف وافد من أوروبا، وذلك بعد أن وضع النازيون أطروحتهم للحل النهائي حيز التنفيذ، وبدؤوا بالتواطؤ مع الجمعيات اليهودية-الصهيونية على تنفيذ مخطط التهجير لليهود إلى فلسطين، إلى جانب مواجهة واستئصال الجمعيات اليهودية التي عارضت هذا الاتجاه، وشجعت على إدماج اليهود في بلدانهم بأوروبا.
وقد رسَّمت السلطات النازية هذا المسعى من خلال اتفاقية «هافارا» التي وقعتها وزارة الاقتصاد النازية مع الاتحاد الصهيوني في ألمانيا صيف 1933، وكانت تهدف لتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين عبر منحهم فرصة نقل أموالهم وقيمة ممتلكاتهم المهددة بالمصادرة في ألمانيا، ومساعدتهم على الاستثمار فيها داخل فلسطين.
وقد مكّنت الاتفاقية النازيين بالتعاون مع الجمعيات الصهيونية في ألمانيا وسلطات الانتداب في فلسطين من نقل واستثمار أموال بقيمة 22 مليون دولار بين عامي 1933-1939، بالاضافة إلى تصدير 60 ألف يهودي ألماني إلى فلسطين، كما كان لها كبير الأثر في كسر العزلة التجارية والاقتصادية التي كان يرزح تحتها النظام النازي، وما كان ذلك ليتم لولا تواطؤ الجمعيات الصهيونية.
يُشير المؤرخ فرانسيس نيقوسيا في كتاب «الرايخ الثالث وقضية فلسطين» إلى أن هتلر شخصيًا كان مؤيدا لاتفاقية «هافارا» وأنه أعرب في خطاب له في يناير علم 1938 عن دعمه لاستمرار تهجير يهود أوروبا إلى فلسطين.
وقد لقي هذا التعاون ما بين النازية والحركة الصهيونية معارضة من قبل الجمعيات اليهودية في أوروبا، إذ اعتبروا أن الصهيونية قدمت خدمة جليلة للنازية عبر مساعدتها على تطبيق أطروحتها العنصرية المسمّاة الحل النهائي، والتي تهدف لتطهير أوروبا من اليهود. تمامًا كما عارض بعض هذه الجمعيات وعد بلفور، ومنهم العضو اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية عام 1917، إدوين مونتاغو، إذ كانت هناك خشية يهودية من تشجيع هذه الإجراءات لفكرة معاداة السامية وطرد اليهود.
التحالف النازي-الصهيوني
قد لا يكون هتلر والقادة النازيون مؤمنين بفكرة الدولة القومية لليهود التي نافحت الصهيونية لعقود من أجلها في أوروبا، لكن النازية بلا شك كانت السبب الرئيس وراء شيوع الأفكار الصهيونية وتبنّيها من قبل الكثير من اليهود على أنها الخلاص من الجحيم الأوروبي.
هذه القناعة التي تولدت لدى قطاعات كبيرة من يهود أوروبا قبيل وخلال الحرب العالمية الثانية، لم تكن ناشئة فقط من الاضطهاد النازي، بل تعززت عبر الاتفاقية الرسمية التي أبرمها النازيون مع الجمعيات الصهيونية، ورحلات الهجرة الممولة من ألمانيا النازية التي حملت اليهود في قوارب هجرة غير شرعية نحو الشواطئ الفلسطينية.
أما السبب الثالث، الذي يُشير إليه المؤرخ اليهودي شافير، فتمثّل بصدمة اليهود من تخلّي العالم عنهم بعد الحرب العالمية الثانية، إذ هُزمت النازية، وبدأ المهجّرون من الحرب يعودون إلى بيوتهم، ليفاجأ اليهود بحرائق وتخريب متعمد في بيوتهم وأحيائهم الصغيرة.وبينما قامت الوكالة الدولية التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية لمساعدة ضحايا النازية «UNRRA» بتقديم المساعدات والإيواء لضحايا النازية المهجّرين في أنحاء أوروبا، لكنها لم تتمكن من تقديم نفس الدعم لقرابة 200 ألف يهودي في ألمانيا، مما جعل غالبية هؤلاء اليهود تطمح بالهجرة إلى فلسطين.
المفارقة هنا، أن «إسرائيل» والدعاية الصهيونية تضيق اليوم بأية محاولة موضوعية للتذكير بالتعاون النازي-الصهيوني، وتعكف الدعاية الإسرائيلية حول العالم على مهاجمة كل من يشير إلى هذا التعاون. وبينما تُشهر تهمة الدفاع عن النازية ومعاداة السامية في وجه كل من يوجه انتقاداته لـ«إسرائيل»، يسعى الصهاينة بشكل حثيث لمحو تاريخ تعاون الحركة الصهيونية مع هتلر والنازيين.
ولعل آخر ضحايا الدعاية الصهيونية، كان العمدة السابق للعاصمة البريطانية لندن، كين ليفينغستون، الذي صرّح أواخر إبريل/نيسان الماضي، بأن هتلر كان داعمًا للصهيونية خلال ثلاثينيات القرن الماضي قبل أن يتحول إلى مجنون ويقتل 6 ملايين يهودي.
وبعد حملة واسعة من الهجوم الذي تعرض له من قبل الصحافة وتعليق عضويته في حزب العمال البريطاني، رفض ليفينغستون سحب تصريحاته أو الاعتذار عنها، وقال في لقاء متلفز بثته BBC: «أنا أشعر بالأسف إذا كان كلامي أزعج اليهود، لكنني ببساطة كنت أتحدث عن حقائق».