بحثًا عن الحقيقة: هل قتلت حماس أطفالًا في معاركها؟
على مدار الأيام الماضية انتشر بشكل واسع في الإعلام الغربي أخبار مضمونها أن جنود المقاومة الفلسطينية، أو عناصر حماس كما وصفتهم الأخبار، قاموا بقتل 40 طفلًا إسرائيليًا في هجوم طوفان الأقصى. الخبر لم ينته عند تلك النقطة، بل تحدّث عن قيامهم بقطع رؤوس الأطفال القتلى. وحدّدت الأخبار أن تلك المجزرة البشعة حدثت في كفار عزة التي دخلها جنود حماس فعلًا.
لحظة ظهور الخبر في الإعلام الغربي كانت متزامنة مع تفجّر الغضب الدولي من حماس وجنودها. وكرر الرئيس الأمريكي، جو بايدين، الخبر في خطاب رسمي داخل البيت الأبيض. ترديد بايدن للخبر جعله حقيقةً لا شك فيها، فلا يمكن أن يتفوه الرئيس الأمريكي ومن خلفه الاستخبارات الأمريكية ومكاتب البيت الأبيض بمعلومة شديدة الخطورة مثل تلك المعلومة، دون أن يكون قد رأوا ما يوّثق تلك الجريمة. لدرجة أن قرر البيت الأبيض تحريك الوحش الأمريكي، جيرالد فورد، حاملة الطائرات العائمة إلى حيث يمكنها مساعدة إسرائيل في مواجهة وحشية قتلة الأطفال.
شبكة «سي إن إن» على لسان مراسلها، نيك روبرتسون، أضافت أن قطع الرؤوس طال النساء أيضًا، وأضاف كذلك أن هناك عديدًا من عمليات الإعدام قام بها مسلحو حماس بطريقة داعش.
تلك الإضافات المضطردة للقصة توحي بأن شيئًا خطأ في الموضوع. الحقيقة سوف تظل ثابتة مهما زادت عدد رواتها. الأمر الذي كان واضحًا في صوت الجندي المتحدث في الفيديو أعلاه. لكن لم يحاول أحد التقصي حول الأمر، أو المطالبة برؤية المشاهد التي رآها بايدن ليُطلق حكمه الجازم بصدق ما حدث.
ديفيد بن تسيون، شعر أنه ليس بحاجة إلا لأن يقول وسوف يصدقه العالم الغربي. فلديهم من مخزون الأفكار والتصوّرات عن العرب، والمقاتلين المسلمين، ما سيجعل الأمر يسيرًا تصديقه. ديفيد هو زعيم المجلس الإقليمي، شومرون، ويضم 35 مستوطنة في الضفة الغربية. قناة آي 24 الإسرائيلية نقلت الرواية عنه. وأسهمت الصحفية نيكول زيديك في إضافة الإثارة الصحفية على المقابلة، وعرضت دماء على عديد من الأسّرة، وأظهرت أكياس جثث متراصة.
كان واضحًا من النظرة الأولى أن أكياس الجثث لا يمكن أن تكون لأطفال رُضع، لكن ذلك لم يمنع وزارة الخارجية الإسرائيلية من المسارعة للترويج للقاء، ودعمه ليتجاوز عشرات الملايين من المشاهدات في ساعات معدودة. رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، نقل القصة للرئيس الأمريكي لكنه أضاف تفصيلة أخرى، قائلًا إنهم أخذوا عشرات الأطفال وربطوهم وأحرقوهم.
بعد أن أدت الرواية دورها في حشد الغرب المتحضر ضد الجنود الإرهابيين بدأت التغريدات تظهر على استحياء ليس لنفي القصة، بل للقول إن بايدن لم ير ما يوثقها بعد. ونقلت «واشنطن بوست» عن متحدث باسم البيت الأبيض قوله إنه لا بايدن، ولا أي مسئول غيره، رأى صورًا أو تقارير تؤكد صحة تلك الواقعة. وبدأت الاعتذارات تباعًا من مراسلي ومحرري الصحف الأجنبية حول نقلهم القصة دون التأكد من صدقها. بيانات الاعتذار لم تحمل أي نبرة غضب تجاه مصدر الإشاعة، أو نبرة عتاب حتى تجاه البيت الأبيض الذي أحرج الجميع بالانسياق وراء هذا الخبر.
كذلك ظهرت مقاطع فيديو تظهر عددًا من الأطفال في أقفاص حيوانات وطيور. المشهد يؤذي العين خصوصًا مع بكاء مستمر للأطفال لوجودهم في هذا الاحتجاز غير الآدمي. لكن بالتقصى وراء الفيديو يتضح أنه لا علاقة له بالأحداث في فلسطين إطلاقًا، بل نُشر على منصة «تيك توك» قبلها بداية طوفان الأقصى بعدة أيام. لكن بعد انتشاره وقيام الإعلام الإسرائيلي بالادعاء أن الأطفال هم إسرائيليون في قبضة حماس قام «تيك توك» بحذف الفيديو باعتباره يروّج محتوى مضللًا.
مقطع آخر طاف في تطبيقات التواصل الاجتماعي لما قيل إنها طفلة يهودية صغيرة أسرتها حماس، ووضعتها في قفص يشبه أقفاص المساجين. بدأ انتشار الفيديو عبر صفحة محام يهودي أمريكي يعيش في الولايات المتحدة. حصد الفيديو على أكثر من مليون مشاهدة في دقائق معدودة عبر منصة التغريد إكس. لكن بعد تشغيل الفيديو لا يبدو أن فيه شيئًا يدعو للريبة، فالقفص غير موجود، والفتاة تتحدث مع الرجل الذي معها، الذي يرتدي ملابس عادية، ويجلس في مكان عام لا يبدو أنه ينتمي لفلسطين أو لإسرائيل. وقد نُشر الفيديو الأصلى على تطبيق تيك توك في سبتمبر/ أيلول 2023.
حماس بدورها نفت هذه الادعاءات منذ اللحظات الأولى. نافيةً عن نفسها استهداف المدنيين أولًا، فضلًا عن استهداف الأطفال. وقالت الحركة إن تناول تلك الرواية سقوط إعلامي هدفه محاولة التستر على جرائم الاحتلال ومجازره التي ترقى إلى كونها جرائم حرب في غزة.
وبعيدًا عن النفي الرسمي من الحركة، وهو نفي متوقع حتى لو ارتكب جنودها تلك المجازر المزعومة، فإن مقاطع الفيديو وشهادات المستوطنين الإسرائيليين الذي وجدوا في قبضة المقاومة تنفي تلك الاحتمالية تمامًا. فقد أظهرت عديد من مقاطع الفيديو جنود حماس وهم يطيّبون خاطر بعض الأطفال الذين روّعهم وجود جنود ملثمين في ساحة منزلهم. وظهر جندي آخر من حماس وهو يحمل رضيعًا ويحاول جعله ينام. وظهر ثالث وهو يُهدهد طفلًا في عربة أطفال كي يتوقف عن البكاء.
كما ظهر جندي جديد وهو يعطي الماء لطفل إسرائيلي، ويمازحه والابتسامة ترتسم على وجه الطفل. كما ظهر في التلفزيون الإسرائيلي عديد من الشهادات تؤكد حسن معاملة المقاومة للأطفال. رُوتم، أم لطفلين، قالت للقناة 12 الإسرائيلية، إن مقاتلي القسام لم يؤذوها هى وأطفالها عندما اقتحموا منزلهم في كفار عزة. قالت السيدة إن 6 مسلحين دخلوا لمنزلها، بعد أن أطلقوا رصاصة واحدة فقط لفتح باب الملجأ.
تُكمل السيدة سردها قائلةً إنها أخبرتهم بلغة إنجليزية أن معاها أطفال، فتقول إن أحد المقاتلين رد عليها بالإنجليزية إنهم مسلمون ولن يؤذوها. وأضافت أنها شعرت بالاطمئنان في وجودهم، لدرجة أن أحدهم استأذنها في تناول حبة موز. ثم انصرف المقاتلون بعد ساعتين وانتهى الأمر.
كذلك نقل التلفزيون عن مستوطنين شهادات بأن المقاتلين تجنبّوا قتل النساء والأطفال بشكل واضح. فقد برز في أحد المقاطع المصورة جندي من كتائب القسام وهو يؤّمن سيدة عجوز ومعها شابة صغيرة، دون أن يمسهم بسوء.
وفي مقطع فيديو آخر ظهر جنود المقاومة وهم يطلقون سراح مستوطنة إسرائيلية وطفليها، بعد احتجازها وطفليها في قطاع غزة لأيام. ظهرت السيدة وهى تجتاز السياج الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل، ويرافقها مسلحون من القسام. التلفزيون الإسرائيلي أكد القصة، وأوضح أن السيدة هى أفيتال الجم، وأن الطفلين اللذين معها هما أبناء صديقتها، أحدهما 4 سنوات، والآخر يقترب من الـ6 أشهر.
لم تقل حماس إنها أطلقت سراح المرأة والطفلين بالتنسيق مع أي جهة محددة. ما يؤكد أن إطلاق السراح كان لغرض إنساني فحسب. وهو ما يترجح بسبب أن اعتقال السيدة من البداية لم يكن على يد جنود القسام أنفسهم، بل حدث مع حالة التوافد الكبيرة في ساعات يوم السبت بعد أن نجحت المقاومة في ضربتها الأولى.
لكن لم تقبل إسرائيل تلك الحقيقة، وظلت متمسكة بحقيقة لا يراها أحد سواها، أن حماس قتلت الأطفال وقطعت رؤوسهم. فوصف أفيخاي أدرعاي، المشهد بأنه مسرحية تحاول بها حماس تبييض وجهها وتغيير الحقيقة. رغم أن الحقيقة التي توّثقها الكاميرات والبيانات الدولية أنه على مدار 23 عامًا الماضية، منذ مشهد استشهاد محمد الدرة، فإن إسرائيل قتلت 2230 طفلًا، معظمهم في الحروب الأربعة الأخيرة على غزة.
أما الحرب الدائرة حاليًا، التي من المفترض أنها تستهدف البنية التحتية لكتائب القسام ومقرّات وقيادات حماس، فإن إسرائيل قد قتلت حتى لحظة كتابة التقرير 614 طفلًا. هذا الرقم بطبيعة الحال مرشح للارتفاع بسبب استمرار القصف العشوائي وقطع المياه والكهرباء والغاز وإمدادات الدواء، فيما يتضح أنه إبادة جماعية على الهواء مباشرة لقطاع غزة بنسائه وأطفاله.