أصبح تحليل وتصنيف أفلام السينما المصرية التجارية سنويًّا أشبه بعملية تكرارية روتينية، في كل عام هنالك وصفة وصيغة تُنتَج الأفلام وفقها حسب الموسم الذي تصدر به، تتنوع الأعوام بفوارق لا تكاد ترى، أعوام تزدهر بها أفلام البروباجندا القومية؛ مثل كيرة والجن العام الماضي، وأعوام أخرى تظهر أفلام تحاول بشكل أو بآخر أن تتنصل من مصطلح التجارية وتحتضن سمات السينما الفنية؛ مثل ريش 2021، لكن نظرًا لضيق مساحة العرض وانتفاء التنوع فإن ذلك النوع لا يحظى بعرض جماهيري في دور العرض العامة، في 2023 تراجعت السينما مرتفعة الميزانية ذات الطابع الوطني لصالح أفلام أكثر في العدد وذات مستوى فني متواضع، أفلام مصممة للاستهلاك الموسمي والنسيان للأبد.

 لم يتميز العام بفيلم مثير للجدل مثل ريش، أو فيلم ضخم الميزانية مثل كيرة والجن، بل مجموعة كبيرة من الأفلام المتشابهة مع التركيز على قوة النجوم السينمائيين وليس الميزانية، خاصة هؤلاء الذين يمتلكون قاعدة جماهيرية تضمن تخطي الفيلم حاجز تكاليف إنتاجه، صدر على سبيل المثال فيلمان في عام واحد للنجم الجماهيري محمد رمضان، نجح أحدهما  بشكل مقبول في موسم عيد الفطر (هارلي)، والآخر لم يسمع عنه الجمهور العام (عالزيرو)، ولعل أكثر الأفلام جلبًا للأرقام والنجاح الجماهيري هو بيت الروبي من إخراج بيتر ميمي، الذي يتوسط بطولته نجمان محبوبان، هما كريم عبد العزيز وكريم محمود عبد العزيز، لكن هذا العام على جانب أكثر بعدًا عن الجانب الجماهيري صدرت ثلاثة أفلام تحاول طرق مساحات ليست جديدة، لكنها ليست رائجة في الوقت الحالي من صناعة الأفلام وفق حسابات رقابية وإنتاجية معقدة وضيقة الأفق، أفلام ليست ذات مستوى فني أسطوري، لكنها حركت ركود دور العرض والتكرار الاستهلاكي للأفلام، وتنوعت بينها في المستوى الفني والنجاح الجماهيري.

في 2023 صدر فيلم وش في وش إخراج وليد الحلفاوي، والذي يعتمد على فريق ممثلين ذوي جماهيرية لكنهم ليسوا الأسماء الكبرى على الساحة السينمائية، ولا الأكثر جلبًا للإيرادات، كما أن وجوههم وأسماءهم ترتبط بالأعمال التلفزيونية أكثر من الشاشة الكبيرة، مثل أمينة خليل ومحمد ممدوح، لكن على الرغم من ذلك حقق نجاحًا معقولًا في دور العرض، وتم الترويج له عن طريق التراكم الشفهي ومواقع التواصل الاجتماعي. صدر كذلك فيلم 19 ب لأحمد عبد الله بشكل جماهيري بعد عرضه في مهرجان القاهرة في نهايات 2022، لم ينتشر الفيلم جماهيريًّا بالقدر المطلوب، لكنه فيلم ذو سياق صغير يعتمد على مواقع تصوير محدودة وشخصيات قليلة، وهو ما يندر تواجده في دور العرض أو عرضه جماهيريًّا بعد انتهاء دورة المهرجانات. في السياق نفسه وفي محاولات الحيد عن السائد أتى فيلم فوي فوي فوي، وهو الفيلم الأول لمخرجه عمر هلال، وربما يكون الفيلم الأكثر إثارة للجدل في عامه، ليس بسبب محتواه لكن بسبب تصريحات العاملين عليه، مثل وش في وش لاقى الفيلم نجاحًا متوسط في دور العرض نظرًا لتناقل الأخبار والترشيحات له، وهي أكثر الأساليب عضوية وصدقًا في نجاح فيلم ما.

اقرأ أيضًا: فيلم «وش في وش»: الزواج كاحتجاز قهري في منزل كبير

النوع الفيلمي

مشهد من فيلم وش في وش/SEA Cinema

تكمن محاولة الخروج عن السائد في تلك الأفلام التي تنتمي للسائد على أي حال، لكن ليس السائد في العقود القليلة الفائتة هو الحيد عن الأنواع الفيلمية المهيمنة والوصفات السينمائية المعدة مسبقًا، الأنواع المهيمنة وربما الاحتكارية للأفلام التجارية في دور العرض المصرية هي الكوميديا، وتحديدًا الكوميديا المعتمدة على الاسكتشات الفكاهية التي تؤطرها قصة هشة، والكوميديا ذات الطابع الاجتماعي التربوي، ونوع أفلام الحركة ذات الطابع العسكري أو الشرطي، يقع كل من وش في وش وفوي فوي فوي تحت المظلة الواسعة للكوميديا، لكنهما يعتمدان بشكل أقل على الكوميديا التي تتكل على النكات المنفصلة عن السياق القصصي والبيرسونا الشخصية للنجم على الشاشة، ربما يميل إلى ذلك وش في وش بشكل أكبر، لكن بالنسبة للأفلام التي تسيطر على أسلحة فإنه يعتمد على المواجهات والصراعات النابعة من مواقف تحدث للشخصيات داخل مساحة محدودة ومغلقة مما يولِّد كوميديا أكثر عضوية واتصالًا بالإطار القصصي.

اقرأ أيضًا: فيلم «ڤوي! ڤوي! ڤوي!»: موت المؤلف وولادة القارئ

في حالة فوي فوي فوي فإن التصنيف أصعب؛ لأن الكوميديا تأتي كعرض جانبي للسخرية من الأوضاع الاجتماعية التراجيدية، فهي حيلة دفاعية، تتكئ بشكل رئيسي على النكات الناتجة من سوء الفهم والتضاد بين ما يقدمه الفرد عن نفسه ومن هو حقًّا، تتداخل الأنواع الفيلمية في «فوي» بما يخدم السردية الأوسع للفيلم، فيصبح فيلم إثارة حينما يتطلب الأمر، وفيلم جريمة كوميديًّا عندما تتطلب القصة وفيلمًا واقعيًّا اجتماعيًّا في المناطق المناسبة، ويتجنب الوقوع في السمات المصوغة مسبقًا للأنواع في نهايته، لكنه يرضخ لها في بناء قصص الحب السطحية التي يهيأ لصناع الأفلام أن الفيلم سينقص دونها، بينما ينفصل فيلم 19 ب عن مظلة الكوميديا بالكامل، ويدخل حيزًا لا نوعيًّا، لكنه يلامس أنواعًا مثل الرعب القوطي (رعب المنازل المهجورة) والإثارة النفسية، فهو يتعامل بشكل رئيسي مع تيمات مجردة، ويحمل فيلمه مهمة إيضاح المجازات عن طريق الديناميكيات بين طاقات الشخصيات المختلفة.

يعمل أحمد عبد الله عادة في مزيج من الأنواع والصيغ السينمائية بين ما هو توثيقي وما هو روائي، فيلمه 19 ب على الرغم من كونه أكثر الأفلام المعروضة تجاريًّا تجريبُا على مستوى النوع والنغمة (tone)، إلا أنه أحد أكثر أفلام عبد الله وضوحًا وتقليدية.

اقرأ أيضًا: فيلم «ڤوي! ڤوي! ڤوي!»: الحياة في مكان آخر

أساليب الإنتاج

مشهد من فيلم قوي فوي فوي

يمكن رصد محاولات الحيد عن السائد أو كسر القوالب الرقابية في الصيغ الإنتاجية لبعض أفلام هذا العام،  تدور العمليات الإنتاجية السينمائية والتلفزيونية المصرية مؤخرًا في فلك محدود بين شركة المتحدة (سينرجي) أو شركة العدل مع استثناءات قليلة، مثل مشاركة المنصة السعودية شاهد في الإنتاج الدرامي المصري. 

تشارك سينرجي في إنتاج وش في وش الفيلم الأكثر رضوخًا للمعايير العامة للإنتاج السينمائي الحالي، بالاشتراك مع فوكس وعدة شركات أخرى، بينما تشارك فيلم كلينيك في إنتاج «فوي»، وتستمر في تعاونها الطويل مع أحمد عبد الله في 19 ب، فيلم كلينيك هي المنتج الأكثر قربًا لسينما بديلة قادرة على النجاح التجاري في السينما المصرية المعاصرة، على الرغم من كونها رأس مال ليس صغيرًا أو مهمشًا، لكنها ذات صيغة إنتاجية وموضوعية مغايرة للسرديات السائدة.

مشهد من فيلم 19 ب

لا تتطرق تلك الأفلام إلى موضوعات مرفوضة رقابيًّا لكنها تنسل قليلًا من تحت الغطاء الرقابي السميك المهيمن على ما يمكن عرضه أو قوله على الشاشة، يظهر ذلك بشكل واضح في فوي فوي فوي الذي يتعامل مع قضايا اجتماعية تعتبر معاصرة وبلغة بها قدر من التحرر، تغلف قضايا العدالة الاجتماعية والنقد المؤسسي والسياسي الكوميديا، فيصبح وقعها أكثر قابلية للمرور رقابيًّا، يكسر كل من 19 ب وفوي احتكار الطبقة العليا والطبقة المتوسطة العليا للمساحات السردية والبصرية على الشاشات، كما أن كلا الفيلمين تقع أحداثهما في مساحات حقيقية ذات تاريخ معماري وسكني، في ظل صناعة تسيطر عليها بالكامل حكايت طبقات محدودة، ويتم تصويرها مكانيًّا في المساحات الداخلية – ينتمي وش في وش لتلك الفئة – أو المساحات المخلقة رقميًّا كبديل تاريخي أو خيالي، أو التصوير في مساحات مفتوحة داخل المجمعات السكنية مرتفعة المستوى المعيشي.

يندرج وش في وش تحت إطار السرديات المرتفعة طبقيًّا، صراع بين عائلتين مرتفعتي المستوى المعيشي، تقع خلافاتهما داخل مساحة منزلية واسعة تتسلل لها الطبقات المختلفة عن طريق العمالة، عاملة منزلية وسائق، ويستخدم من ينتمون لتلك الطبقات الأدنى في السلم الاجتماعي لدفع قصص الشخصيات الرئيسية للأمام أو استخراج المواقف الكوميدية النابعة من تلك الفجوة الطبقية الضخمة، بينما يتخلى “فوي” عن التحرك داخل الطبقات المغلقة على نفسها، ويمارس مرونة في التحرك في الشوارع الواقعة في وسط المدينة، خاصة مصر القديمة، أو حتى أن يسافر خارج مصر مصورًا وضع الهاربين منها في أرض غريبة بثقافات مختلفة، يقع 19 ب في حيز مختلف، حيث يسكن حارس من طبقة عاملة فيلا قديمة تنتمي لعائلة ثرية، وتقع الأحداث بشكل رئيسي في حيز تلك الفيلا وحديقتها الداخلية، مع ظهور للشارع من حين لآخر، لكن المنطقة السكنية والفيلا نفسها تعمل بشكل حيوي داخل إطار الفيلم وتؤطر توترًا طبقيًّا بين حارس الفيلا الذي يعتبر من طبقة ليست من سكان ذلك النوع من المنازل وطبقة أخرى أدنى ثقافيًّا تجتاح تلك المساحة التي تمثل عمقًا تاريخيًّا وثقافيًّا، يتعامل 19 ب مع توتر طبقي داخله وخارجه، محور صراعه هو الصراع على الفيلا/ الوطن/ المساحة الشخصية.

لا يمكن اعتبار عام 2023 عامًا استثنائيًّا للسينما المحلية، سواء داخليًّا أو خارجيًّا، لم تصل أفلام مصرية إلى مهرجانات كبرى إلا بشكل محدود، مثل فيلم هجان لأبو بكر شوقي الذي عُرض في مهرجان البحر الأحمر، لكنه فيلم لمخرج مصري وليس ذا محتوى مصري، ولم تصدر أفلام ذات قيمة فنية أو ترفيهية لا تُنسى محليًّا، لكنه عام وعلى عكس أعوام سابقة تميز ببعض التنوع ولو بسيط، في طبيعة الأنواع السينمائية وطبيعة الطبقات الممثلة على الشاشة، وتتسلل خلاله أفلام يمكن مشاهدتها وتحليلها، وليس فقط استهلاكها ونسيانها في الطريق إلى المنزل.