أموت أنا: هل أضفت السينما طابعًا رومانسيًا على المرض؟
في عام 1978 نشر للكاتبة الأمريكية سوزان سونتاج دراسة بعنوان المرض كمجاز Illness As Metaphor، فيها تستكشف وتحلل كيف تستخدم اللغة والأدب والسياسة الأمراض كمفردات مجازية للوصول إلى معانٍ تصف تلك الأمراض أو تستخدم صفاتها لوصف أشياء أخرى مثل الموت والانحدار، عقدت مقارنات بشكل أساسي بين مرضين وهما السل والسرطان، فالسل هو مجاز القرن التاسع عشر وبعده يأتي السرطان فهو المرض الأكثر حداثة ومعاصرة ويمثل أحجية يصعب حلها حتى الآن، أوجدت بينهما تشابهات واختلافات بدلائل ودعائم من الأدب من فترات مختلفة وأحيانًا السينما.
حسب دراسة سونتاج، فإن السل كان يستخدم في الأدب ومن قبيل الأدباء أنفسهم لإضفاء رومانسية وقدسية على الموت وبسبب غموضه فقد ارتبط بالموت قبل أن تعرف أسبابه وعلاجه. وحسب الدراسة فإن السرطان مثل السل سابقًا يعتبر مرضًا غير متوقع ومسيطر، وكونه غير مفهوم وغامض في فترة تعتبر فرضية الطب الأساسية فيها أن لكل مرض علاج، فسيظل يكتنفه الغموض حتى تفهم أسبابه بشكل كامل مما يجعله مساويًا للحكم بالموت. وعلى الرغم من أن تلك العقلية تجاه المرض قد أخذت في التراجع نتيجة لنسب الشفاء المتزايدة، إلا أن تمثيلاته في السينما والدراما التليفزيونية لا تزال متوقفة عند مساواته بالموت، إذا أخذنا دراسة سونتاج كدليل لمجازات وتمثيلات المرض في الشخصيات الدرامية يمكن من خلالها تحليل كيف ترى السينما والدراما المعاصرة المرض وماذا تغير من دراستها لأدب القرن الثامن عشر والثامن عشر وحتى يومنا هذا.
رومانسية المرض
تنقسم الأفلام التي تتناول الأمراض وخاصة السرطان إلى نوعين: أفلام تتمحور حول قصة حب أحد طرفيها أو كلاهما مصاب بالمرض، أو أفلام تتناول فردًا في مرحلة متأخرة من عمره يصاب بالمرض فيقرر أن يقلب حياته رأسًا على عقب باحثًا عن المعنى وأحيانًا يتداخل النوعان معًا. لسبب ما أصبح السرطان طرفًا ثالثًا أساسيًا في العلاقات التي تتناولها السينما الأمريكية التجارية المعاصرة، فهو عقبة في سبيل قصص الحب المثالية لكنه أيضًا سبب في مثاليتها، وهو كما تأملت سونتاج مرادف للموت، فيصبح الصراع الأساسي هو الحب في مواجهة الموت وليس المرض.
تنزع سونتاج الرومانسية عن السرطان مقارنة بالسل، فالسل هو مرض الروح فهو يصيب الجزء العلوي من الجسد. وحسب المجازات المستخدمة في عصره فإن ارتباطه بالتنفس يجعله مرتبطًا بالروح، أما السرطان فهو مرض غير متوقع يضرب أي جزء من الجسد، لا توجد حوله هالة رومانسية نظرًا لارتباطه بالنمو غير المسيطر عليه واحتمالية التشويه وبتر الأعضاء، كما أنه يمكن أن يضرب أعضاء غير روحانية مثل البروستاتا والثدي، لكنها أيضًا أطلقت على اللوكيميا أو سرطان الدم «السرطان الأبيض» والنوع الأكثر روحانية من السرطان بسبب استخدامه الرومانسي في الأدب، وضربت مثالاً على استخدامه كسارق للحياة الفتية في رواية قصة حب والتي تحولت إلى فيلم بنفس الاسم جر بعده تيارًا من الأفلام التي تجعل من السرطان مرافقًا لقصص الحب المحمومة.
في كل من قصة حب (Love Story 1970) والفيلم الذي يشبهه بدرجة كبيرة لكن موجه لمراهقي بداية الألفية الطريق للتذكر (A Walk to Remember 2002)، يضرب السرطان وخاصة اللوكيميا البطلتين الشابتين، في قصة حب لا يأتي الموت كمفاجأة لكنه متجذر في نسيج الفيلم منذ أول مشهد فيربط المشاهد بشكل مباشر بين المرض والموت، يقع بين الفيلمين وقبلهما وبعدهما عدة أفلام تتناول المواضيع ذاتها وتختار المرض نفسه ليتولى موت الفتاة الجميلة التي تغير حياة البطل للأفضل.
في نوفمبر العذب (Sweet November 2001) وحتى في التجربة المصرية أنت عمري 2004 يكون المرض هو سرطان الدم، وعلى الرغم من قسوته الشديدة وتأثيره على الطاقة والمظهر إلا أن الأفلام نادرًا ما تظهر تمثيلًا حقيقيًا لتأثير الأمراض حتى وإن أقر وقرر صانعوها أنها فظيعة إلى حد الموت.
يسمي الناقد روجر ايبرت في كتابته عن فيلم قصة حب المرض الذي جاء شبه مجهول على الرغم من وضوحه في الرواية بمرض آلي مكجوان على اسم بطلة الفيلم ويصف أعراضه بأن المصاب يزداد جمالًا حتى يموت في النهاية، وهو ما وصفت به سونتاج أحد تناقضات مرض السل وما جعله مادة ملائمة لمجازات الموت والحياة كونه يعبر خطًا رفيعًا بينهما، فيقال إن مريض السل تضربه بعض مظاهر الحيوية فينبض وجهه بالحمرة التي تحيل للصحة وتنتابه نوبات من الطاقة المتقدة يصعب معها تحديد تأثيرها على تحسن أو تدهور حالته، لكن يصعب تطبيق ذلك على السرطان فهو مرض قاسٍ صريح يصعب جعله مجازًا رومانسيًا عن الحيوية والجمال أو حتى الحزن، لكن في السينما يصبح بهاء وجمال أبطال الفيلم المحبين الفتيين اللذين تعصف بحبهما قوة خارجة عن إرادتهما أهم من وصف الأشياء بأسمائها، لا تقتصر الأفلام فقط على جعل المرض عنصرًا لدفع قصص الحب للأمام ولكنها تختار أبطالاً يتسمون بطاقة هوسية مألوفة في أنواع متعددة من الأفلام.
على الرغم من نهايتها المأساوية المعروفة مسبقًا إلا بعض تلك الأفلام خصت بطلاتها بتركيبة شخصية نمطية شهيرة تعرف بفتاة الأحلام السحرية الهوسية manic pixie dream girl. صاغ المصطلح الناقد نيثان رابن عام 2008 وهو وصف للفتاة التي تساعد في إنقاذ البطل وتعلمه ما يجهل عن الحياة وقيمة التمسك بها، تحرره من مخاوفه حتى وان امتلكت هي المخاوف، هي خفيفة الظل والوجود، سليطة اللسان ومتحكمة في مصيرها، الفارق هنا أن المرض يباغتها وتتجاهله حتى يتمكن منها لكنها دائمًا وحتى آخر لحظة تشجع حبيبها على التمسك بالحياة وأن يصبح قويًا بعدها.
في قصة حب جيني فتاة طموحة محبة للحياة عنيدة وخفيفة الظل تأتي من خلفية اجتماعية أقل من حبيبها، لكن خفتها في التعامل مع الأشياء تجعل حياتها مع حبيبها الثري أبسط بل تعلمه قيمًا لم تكن فيه وتحاول التحسين منه، وفي الطريق للتذكر نقابل شخصية مشابهة لكن في سياق المدرسة الثانوية فالفارق الاجتماعي يتعلق بترتيب العلاقات داخل المدرسة حسب الأولاد الأكثر شهرة وسطوة، تقع جايمي في الجانب الأقل شهرة مما يجعل لندن لا يفكر في الارتباط بها، ولكنها مثل جيني فتاة موهوبة ومنفتحة وبصفاتها الشخصية المميزة تغير لندن للأفضل ويصبح وجوده معها مفتاحًا لحياة مثالية تحظى بها قبل رحيلها، وفي مثال أكثر وضوحًا على هذا النوع من الشخصيات يقدم فيلم نوفمبر العذب شخصية سارة، فتاة متحررة وغريبة الأطوار، تعلن بوضوح أنها سوف تغير حياة البطل المتزمت للأفضل، تتصرف بتهور وعشوائية، فوعيها بتدهور صحتها وموتها الحتمي يعطيها حرية أكبر من الشخص الذي يخاف على عمله وحياته لأن مستقبله ليس في يديه، يصبح الموت المرتبط بالمرض فرصة لمعرفة قيمة الحياة وقيمة الحب فلا مجال لتضييع الوقت أو التعامل مع الحياة كشيء مسلم به فلكل لحظة ثمنها وأهميتها.
المرض وقصص الحب الاستهلاكية
ما يجعل الموت المتمثل في المرض مادة لقصص الحب الاستهلاكية هو كيف يجعل الحياة تصغر أمام سطوته، فانتهاء العلاقة يحدث بسبب عارض قدري ضخم يستحيل التصدي له تتضاءل أمامه كل التفاهات الحياتية، فحتمية الموت تجعل الحب هو السعادة والملجأ الأخير، ولا يمكن لوم أحد الأطراف، فالعلاقة لم تنتهِ بسبب الأنانية أو الخيانة، بل يفرق الموت بينهما بالضرورة كما تنص عهود الزواج، ويرسخ في الأذهان صورة الحبيبة أو الحبيب الصبي الذي لم ينقص من جماله شيء ويصبح الطرف الآخر في حداد أبدي على حبه المفقود.
في الأفلام الأكثر حداثة يميل الموت لأن يصبح أكثر مفاجأة وألا يكون من المسلمات المقترنة بالمرض لكن الطرح يكون أشبه بالخدعة، ففي داخلنا نعرف أن أحد الأبطال سيكون مصيره الموت لكن الفيلم يقدم لنا الأمل ثم يسحبه منا مثلما يسحبه من أبطاله الصغار.
في الخطأ في أقدارنا (the fault in our stars 2014) نفترض من البداية أن الفتاة هيزل هي صاحبة الأعراض الأكثر نشاطًا فسرطان غددها الليمفاوية يشتد ويلزم تنفسها أنبوب أكسجين كما أنها وعلى عكس بطلات أفلام بداية الألفية لا تملك تلك الروح المرحة بل هي مدركة لمرضها ولقسوته ولاحتمالية موتها المفاجئ، أما الفتى اوجستس فيمكن اعتباره المقابل لفتيات أوائل الالفية وجيني في قصة حب السبعينيات فهو وسيم، مرح، شاعري، محب للحياة ويصدق في قدرته على تغيير حياة هيزل للأفضل على الرغم من إصابته هو الآخر بسرطان العظام وفقدانه إحدى ساقيه، يرى قدرة الحياة على تجديد ذاتها ويستمتع بها كأنه يعيشها أبدًا، في ذلك الفيلم المبني على رواية بنفس الاسم يتم استكشاف أنواع مختلفة من المرض ربما لزيادة الوعي تجاهها، ويصبح المرض بمثابة قاسم مشترك يقرب المحبين من بعضهما كما حدث في فيلم أنت عمري، ويصبح عنصر المفاجأة في تخمين من منهما سوف يتمكن المرض منه أولاً وعادة ما يخالف توقعات المشاهد فيصبح التأثير أكبر.
في أنا وايرل والفتاة المحتضرة (me and earl and the dying girl 2015) تغيب قصة الحب في تحدٍ للنوع المعتاد، وتحل محلها صداقة لشابين يحتويان بينهما فتاة مصابة بسرطان الدم ويعطونها أيامًا مليئة بالمرح والتقبل والحياة، يشي الفيلم بالموت في عنوانه فهو يعتبر مريضة السرطان فتاة محتضرة ولكنه يحيك خدعة للتلاعب بتوقعات المشاهد فتسير الأحداث في إطار خفيف وكوميدي، وبما أن الفيلم يسرد بواسطة راوٍ وهو الأنا في العنوان فإنه يخبرنا بأسى أنه كان يتمنى مثلما كنا نتمنى نحن ألا تموت الفتاة لكن ذلك لم يحدث.
المعادلة التولستوية
النوع الآخر من تناول السينما للمرض والذي تذكره سونتاج في كتابتها هو نوع لا يرتبط بقصص الحب بل بقصص اكتشاف الحياة بعد فوات الأوان وتذكر فيلم أن تعيش (Ikiru 1952) لأكيرا كوروساوا كمثال، في دراستها توضح سونتاج إن أحد التفسيرات الرائجة للسرطان أنه مرض ناتج عن القمع والمشاعر المكبوتة، مرتبط بالعوالم الحديثة الرأسمالية التي تجبر الإنسان على العمل دون توقف كما أن إحدى الأساطير عن السرطان أنه مرض المدن ومرض الطبقة العليا وأنه من الممكن أن يصيب شخصيات بعينها أكثر من غيرها وكأنه يرتبط بطبيعة الشخصية وأسلوب الحياة.
يمكن إرجاع تلك الموجة من الأعمال لرواية ليو تولستوي القصيرة موت إيفان الييش والذي بنى عليها كوروساوا فيلمه أن تعيش، فيهما يصيب المرض المميت أشخاصًا تخطو منتصف أعمارهم، فالسردية الأساسية ترتبط بالحياة الضائعة وكيف أن إنذار الموت ينبه الشخصية لأن تصنع فارقًا لنفسها ولمجتمعها، وأن تعيش الحياة الحقيقية وتترك الزائفة خلفها لأنه لم يعد هناك وقت للزيف.
في فيلم أن تعيش يصاب واتنابي بسرطان المعدة وعند علمه بمصابه تضرب أوصاله صدمة تتعلق بتفاهة وفراغ الحياة البيروقراطية التي يعيشها، وأنه عاش لسنوات لا يصنع شيئًا لنفسه أو لغيره، حياته هي سلسلة من اللحظات التي يقضيها فقط لكي يؤمن مكان عمله، وهي باختصار شكل من أشكال الموت حتى أن زملاءه من الموظفين يطلقون عليه اسم المومياء، يدرك واتنابي قسوة أسرته التي اعتقد أنه عاش وعانى من أجلها وأن كل مدخراته لا معنى لها طالما أن حياته لا تصنع تغييرًا، يصعقه الإدراك بأنه لم يعش حقًا، يجد واتنابي معنى الحياة في الفعل، الفعل الذي يؤدي لتغيير ما، يحاول في البداية أن يمضي أيامه في استهلاك الشهوات المادية لكنها لا تشبع رغبته في اختبار الحياة، ما يجعله يغادر راضيًا عن الشهور التي عاشها حقا هو قدرته على استخدام موقعه لبناء حديقة، فعل ربما يبدو بسيطًا لكنه يعلم أنه سوف يبقى بعد رحيله وأن كل من يتنسم هواءها وكل طفل سوف يتأرجح بين أعشابها سوف يتذكره في يوم ما.
المرض والوقت والبحث عن المعنى
حسب سونتاج فإن من تصورات الأدب عن مريض السل أنه شخص متجول يحق له الانفصال عن المجتمع والبحث عن مكان مناسب لشفائه فهو يقتطع وقت خارج حياته اليومية لإيجاد البيئة الأفضل والأنسب لتنفسه وصحته، وهو ما لا ينطبق على السرطان كونه مرضًا يوهن الجسد وعلاجه يتطلب الاستلقاء السريري لكن في بعض الأفلام يصبح السرطان فرصة للتحرر والنظر للحياة من جديد باعتبارها رحلة خارج نمط الحياة العادية تحديدًا عندما يصيب كبار السن، في فيلم قائمة الدلو (The Bucket List 2008) يمرض الميكانيكي الذي ضيع حياته في خدمة أطفاله ولم يدرس أو يشتغل بالتاريخ الذي يعشقه، ويصاب فاحش الثراء الذي لا تملك حياته معنى بعيدًا عن المتع الحسية بنفس المرض، وكلاهما يذهب في رحلة تأخذهما من الشرق للغرب تاركين المشفى والعلاج كتعويض عما فاتهما، ولسبب ما يملكان طاقة لا نهائية وتسعفهما النقود فترة في الاستمتاع بما تبقى من حياتهما، لكن سرعان ما تفقد المتع المادية معناها وتحل محلها مفاهيم الأسرة والصداقة والتعاطف لتمثل المعنى المفقود.
مفهوم الوقت أساسي في الأعمال التي تتناول المرض وعادة ما يحدده الطبيب بوضوح قائلاً إن المريض يملك ستة أشهر أو عامًا على الأكثر فيصبح المرض محررًا من غموض المستقبل وفرصة لاستغلال ما تبقى منه، ومن أكثر الأعمال تطرفًا في تناول فكرة الصراع مع الوقت والمرض هو مسلسل Breaking Bad فبعد علم البطل والتر وايت بحقيقة مرضه ومحدودية أيامه على الأرض لا يتجه تفكيره فورًا لمعنى حياته أو كيفية الهروب من عاديتها إلى ما هو أسمى، بل يشغل تفكيره تأمين حياة أسرته ماديًا بعد رحيله حتى إذا لزم الأمر ارتكاب أبشع الجرائم لكن مع الوقت يتحول ذلك السباق مع الوقت إلى إعادة اكتشاف للذات وإمكانيتها الدفينة، وتتغير الأولويات وتتوسع الطموحات، وهذا ما يجعل المسلسل كاسرًا لنمطية مفاهيم المعنى والوقت التي تطرح في الأعمال المشابهة، فالإصابة بالسرطان وإنذار الموت تحول والتر من شخص أليف إلى شخص متمرد جامح يصعب كبحه، لا يبحث عن معنى حياته في الخير والصلاح بل في الوصول الى حدود إمكانياته الشخصية، وتتلاشى فكرة ارتباط المرض الحتمية بالموت فهناك أسباب ووسائل تؤدي إليه في كل خطوة يخدوها، لكن المرض يمثل دفعة للتغيير حتى وإن كان تحول مدرس كيمياء ورب أسرة لأشهر صانع للمخدرات.