حوار مع صديقي المثقف: لماذا نقلد أهل العلم؟
– لماذا لا تنصحني باستخدام عقلي بدلًا من أن تملي علي قناعاتك؟ أنتم المشايخ تفعلون ذلك دائمًا.
* أنا لا أملي عليك شيئًا وإنما أعطيك خلاصة ما تعلمت، فإن اعتبرت ذلك إملاء فقل للطبيب: لمَ تملي علي هذا الدواء اتركني أذهب إلى الصيدلية لأختار دوائي بنفسي!
– يا صديقي الأمر مختلف؛ لأننا أصحاب عقول تفهم وتزن الأمور وتعرف الصواب والخطأ، وأنتم أيها المشايخ تريدون حمل الناس على اجتهاداتكم وآرائكم البشرية غير المعصومة!
* يا صديقي نحن لا نريد أن نحمل أحدًا على عقولنا ولا آرائنا، هذا وهم وسوء ظن، وإنما نحن وأنتم مطالبون أن تسجد عقولنا لخالقها وباريها، وعلاقتنا بكم ليست سوى علاقة المُبَلِّغ الناصح؛ فإما القبول وإما الرفض، ولا نملك لكم ضرًا ولا نفعًا، ثم أنتم وربكم فانظروا ماذا تقولون له بعد ذلك. ثم إن عقول الناس متفاوتة ولأصحاب التخصصات نظر خاص يختلف عن نظر غيرهم، فالطبيب الماهر عقله في الطب أكمل، فهو مثلًا بمجرد رؤية الشخص قد يعلم مرضه وإن لم تصدر منه شكوى بخلاف غيره من الناس، وكذا علماء الشرع لهم عقل أكمل من غيرهم لدى نظرهم في نصوص الشرع ومقاصده. فاعلم هذا وتمسك به.
– أليست عقولنا قادرة على التفكير؟ فلمَ نجعل بينها وبين الله واسطة من رجال الدين؟
* بداية: إن مصطلح «رجال الدين» يعطى ظلالًا كنسية لا توجد عندنا، فكل مسلم هو رجل دين، وليس في ديننا أي كهنوت، ولا توجد تلك الأسرار التي لا يعرفها إلا أناس مخصوصون، بل الشريعة متاحة للناس لا يجوز كتمان شيء منها، لكن لا يتحدث فيها إلا أهلها. فنحن لدينا «علماء دين» لا ميزة لهم إلا تفرغهم لعلوم الشريعة وفهمهم لها، لأنهم ملكوا أدواتها، فكمُلَت عقولهم فيها، دون غيرهم من الناس.
– هذا ما آخذه عليكم: ما معنى قولك لا يتحدث فيها إلا أهلها، أليس هذا حجرًا على العقول؟
* يا صديقي، جَرِّب أن تتحدث أمام الأطباء بما لم تدرسه أو تسمعه من طبيب، أو تحدث معهم في أمور دقيقة برأيك الذي تظن أنه مهم، وانظر كيف يجيبونك، وهل سيعدونك من طائفة العقلاء أم الحمقى! فكذلك الأمر في علوم الإسلام، من أراد أن يتكلم في الدين أو يطور الإسلام، فليدرسه أولًا، وفق قوانين العلم. فالإسلام علم ودين، ومن تكلم في الإسلام بلا علم هدم العلم والدين معًا! إن الدعوة لالتزام كل منا غَرْسَه أو مقامه من حيث التقليد والاجتهاد: فعل حضاري، وانهيار الأمم يبدأ بترك أهل العلم واتباع أهل الجهل، على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا وُسِّد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة».
– أليس التقليد جمودًا؟
* كلا، فالتقليد ليس قرين الجمود بل هو قرين احترام التخصص، والأمم لا تتقدم إلا بهذا، ومن رفض التقليد فليتخصص، وليُحصِّل أدوات الاجتهاد، وسندعو له بالتوفيق.
– أفهم من قولك أنك تطلب مني ألا أتكلم في العلوم الإسلامية إلا بعد تحصيلها كلها إذن؟
* بل أطلب منك ألا تتكلم إلا بما وثقت منه بعد علم وفحص، واعلم أن الاجتهاد ليس شيئًا واحدًا، بل ربما وصل المجتهد لهذه الرتبة في مسألة أو مسألتين أو أكثر من ذلك، إذ الاجتهاد يتجزأ، ومن وصل لهذه الرتبة لم يجُز له تقليد غيره. وبغير امتلاك أدوات الاجتهاد يحرم القول في الشرع ابتداء؛ لأنه قول بغير علم، وهو منهي عنه، لذا قسم العلماء الناس إلى مقلدين ومجتهدين، فواجب المجتهد أن يعمل وفق علمه، وأن يستخدم أدواته التي تعلم على مدار عشرات السنين أن يحسن استخدامها، وتدرب على ذلك على أيدي المهرة، وواجب المقلدين فقط هو السؤال، سؤال أهل الذكر، فيقلدوهم فيما وصل إليه اجتهادهم.
– لكن ألستم تقولون إن باب الاجتهاد قد أُغلق؟
* باب الاجتهاد لم يغلق، ولا يملك أحد إغلاقه، لكنه فقط موصد أمام كل من «هب ودب»، كما تمنع نقابة الأطباء ممارسة المهنة أمام من لم يدرس ولم يتخصص.
– لكن الأئمة رفضوا تقليدهم في عبارات مشهورة!
* عبارات الأئمة في رفض تقليدهم لها توجيه معروف عند أهل العلم، ومعناها يدور حول عدم تقليدهم لمن قدر على الاجتهاد ليحثوا طلبة العلم المتميزين على الجد في الطلب.. هذا كل ما في الأمر. ثم اعلم أن غاية ما يجنيه رافض التقليد: طنطنات، ودعاوى عريضة، ثم بعد حين سيُسلم لأهل التخصص أو يترك تقليد المجتهدين ليقلد من هم أقل منهم مرتبة من المعاصرين، كما هو واقع الحال عند مدعي الاجتهاد في عصرنا، حيث تركوا تقليد أمثال «الشافعي» ليقلدوا الشيخ فلان الأثري أو علان السلفي، وربما قلد بعضهم أهل الجهل أو قلد شيطانه.. ولتعلم أن من يرفض التقليد هو في الحقيقة مقلد لمن ذهب إلى هذا الرأي؛ أي أنه في الحقيقة مقلد لمن فتح باب الاجتهاد أمام العالم والجاهل.
– فماذا تقول فيمن يقول: إن التقليد تجاوزه العصر لأننا في زمن الانفجار المعرفي فيسُهُل على كل الناس الوصول إلى المعلومات وتحليلها؟
* وهل توافر المعلومات وحده كافٍ لجعل الشخص عالمًا صاحب نظر واجتهاد في العلم؟ إن كثرة المعلومات تجعل الشخص مثقفًا، يعلم ما يدور على ألسنة أهل التخصص إذا سمعهم، لكنها لا تجعله مثلهم؛ لأن «العلم: مناهج وأدوات لا تفاصيل وجزئيات»، فكثرة المعلومات توفر التفاصيل لكنها لا تعطي النظر الكلي للعلم، ولا توفر فهم مناهجه ولا طرق توظيف تلك المنهجيات؛ لأنها لا تكون إلا بممارسة وتعلم وإجازة، وهذا التعلم وتلك الممارسة هي ما يسمى بـ«روح العلم»، وهو ما يُمَكِّنك من نقد القائم المستقر بين أهل التخصص، ثم قبول أهل التخصص لنقدك، ثم تحويل مجرى العلم في بعض المسائل.
– لكن التقليد مضاد لروح الحضارة الحديثة.
* بغض النظر عن الحضارة الحديثة، لكن التقليد عمومًا تحضر وفطرة؛ في الحضارة الحديثة وكل حضارة.
– هذا من أعجب ما سمعت، فكيف يكون التقليد الذي هو جمود تحضرًا، والتبعية للغير فطرة؟
* هذا ما أحدثك عنه المرة القادمة إن شاء الله.