للاطلاع على الحلقات السابقة


قلتَ (في نقاشنا السابق) إن قواعد الشريعة إنسانية قبل أن تكون شرعية. لم أفهم قصدك بالضبط..

قصدتُ من ذلك أن كل إنسان ذي عقل صحيح وطبع سليم يقر بهذه القواعد، وربما يكون مستخدمًا لها في بعض جوانب حياته دون أن يدري!

!!

الذي حدث أن العلماء استخرجوا هذه القواعد من الفطرة السليمة التي ركزها الله في العقول، ثم وظفوها في فهم الدين، والإسلام دين الفطرة، لذا كانت هذه القواعد الفطرية متماشية مع الدين تمامًا بتمام، ولاحِظ أن القرآن يمدح العقل ويعتبره نور الله في الإنسان، ويمدح الفطرة السليمة ويعتبر أن الدين هو الفطرة (فطرة الله التي فطر الناس عليها).

بل أزيد على ذلك فأقول: إن هذه القواعد التي اشتهر بين الناس أنها قواعد شرعية، يمكن أن توظف في كافة المجالات والعلوم الإنسانية والطبيعية لضبط عملية العلم والتعلم وتطوير العلم وتعاطيه؛ وما ذلك إلا لأنها إنسانية عامة، وكل ما في الأمر أن علماء الشريعة أول من تنبه لها ووظفها في فهم القرآن والسنة.

كلامك عجيب!

وأنبه هنا على أن معنى كونها إنسانية: أنها ليست «دوجمائية»، أي أنها ليست مخترعة خصيصًا لتثبيت شيء ما، على سبيل العصبية العمياء، ولا لتخدم مصلحة ما، أو فكرة ما، أو جماعة أو فئة ما، كما يدعيه أهل الجهل من التنويريين وأشباه المثقفين.

كلامك جميل لكن ينقصه الاستدلال، وَضِّح لي كيف تكون القواعد الشرعية إنسانية بالمعنى الذي قلته؟

سأضرب لك مثالًا بقاعدة مشهورة تقول: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، فمعنى هذه القاعدة أن ألفاظ القرآن والسنة ينبغي أن تُفهم وفق ما تدل عليه ألفاظها، لا وفق الأسباب التي كانت سببًا ومناسبة لبروزها. فمثلًا قوله تعالى: «والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة»، نزلت بمناسبة قصة الإفك التى اتَّهم فيها بعض المنافقين السيدة «عائشة» بارتكاب الفاحشة وخاض معهم بعض المسلمين، فنزلت هذه الآية لتوضح حكم الله، تعالى، في هؤلاء الخائضين بعد بيان براءتها مما نُسب إليها رضي الله عنها.. فهل هذا واضح؟

نعم، أكمل..

إذا كانت هذه الآية نزلت في حادثة معينة هي حادثة الإفك، لتبرئ شخصًا معينًا هو السيدة عائشة، وفي زمان معين هو زمان الرسول – صلى الله عليه وسلم – ليعاقب أناسًا بأعيانهم هم الخائضون في عرضها – رضي الله عنها – فهل يمكن أن يقال إن الآية لا تنطبق على أي مسلم الآن إن اتَّهم بعض الناس أمه أو أخته أو زوجته بالزنا دون تقديم دليل، ومن ثم يحتاج هذا المسلم إلى نص آخر ليدل على الحكم الشرعي في هذه الواقعة الجديدة؟!

كلا

فلماذا لا نقول إن هذا الحكم قاصر على تلك الحادثة؟

لأنه ليس من المنطق أن ينزل في كل حادثة نص، لأن الحوادث لا تنتهي، وإلا احتاج كل إنسان إلى نص خاص به أو كتاب إلهي مخصوص فتصير الكتب بعدد الناس! ولو قلنا إن الآية قاصرة على هذه القصة؛ فهذا يعنى أن القرآن نزل لزمان معين ثم انتهى مفعوله.. وهو ما لا يقوله مسلم ولا عاقل.

هذا بالضبط ما أريد قوله، وحتى يتبين لك الأمر؛ فاعلم أن كل الشركات والمصالح والدول والبرلمانات تسير وفق قاعدة: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» التي يُعملها علماء الشريعة في نصوص القرآن والسنة.

كيف؟

متى عرفت مصر قانون التحرش الجنسي؟

لا أدري ، لكنه قريب

تأمل معي، هذه القوانين ظهرت للعلن لما كثرت حوادث التحرش، فهل يضع البرلمان قوانينه لما سبق من الحوادث فقط، أو لما سيأتي من حوادث أيضًا؟

لا أفهم مرادك..

بمعنى أن البرلمان مثًلا بعد عدة حالات تحرش بدأ دراسة الأمر ليصدر قانونًا ويقول: «كل من يتحرش يُسجن» مثلًا، فهل هذا النص لحالة التحرش الأولى فقط لأنه صدر بمناسبتها ولسببها، أو هو لكل ما سيأتي في المستقبل، ويدخل فيه من باب أولى ما حدث من حالات تحرش سابقة إن لم يُبَتّ فيها؟

بل هو لكل الحالات

نعم هو لكل الحلات، لأنه إذا وقعت غدًا واقعة تحرش فإن القضاء سيرجع إلى نص المادة التي صدرت بمناسبة حالة سابقة أو عدد من الحالات لتٌطبِّق عليه ما ورد في لفظ المادة وهو: السجن، دون اعتبار لسبب تشريع المادة. فهذا بعينه هو قول الفقهاء: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب».

وحتى أزيدك وضوحًا: لو ذهب زميلك إلى عمله متأخرًا فأصدر المدير قرارًا بعدم التأخر، فهل يمكنك أن تتأخر في اليوم التالي قائلًا: إن القرار صدر لصديقي، أما أنا فالكلام لا يخصني؟!

كلا، فالمدير سيحتج علىَّ بالقرار الذي أصدره أمس

هذه كتلك، بالرغم من أن زميلك هو الذي تأخر فإن القرار سيطبق على الكل بألفاظه دون اعتبار سببه.

أرأيت الآن كيف كانت قاعدة إنسانية نستخدمها في حياتنا دون شعور، لأن الفطرة السليمة والعقل الصحيح يدل عليها. ولو توسعت في هذا الباب لأثبَتُّ لك أن قواعد أهل العلم كلها كذلك.. فافهم هذا.

فلم لا يشرح العلماء هذه القواعد إذًا بهذه الطريقة؟

يا صديقي: لو أن كل عالم سألته سؤالًا فأجابك وبيّن لك كل أدلته وقواعده لاستغرق الأمر سنوات، فلا هو متفرغ لهذا ولا أنت تقدر عليه.

فما الحل؟

فالحل أن تسأل من تثق في ديانته وعلمه ليعطيك خلاصة علمه، كما يفعله سائر العقلاء وكما تفعله أنت في كل شؤونك الدنيوية، أو قم بتفريغ وقتك للدراسة على أيدي أهل العلم لتكون منهم وتفهم قولهم.

فلنرجع لقاعدة: «الدليل ليس بمعط الدلالة من نفسه وإلا ما تخلفت عن نظر فيه». ما معناها؟ فقد وعدت بشرحها..

المعنى: أنه لا بد من شروط واعتبارات تتحقق في الناظر في الأدلة الشرعية حتى يتحصل على الدلالة الكامنة فيها، ولو كان مجرد النظر في الدليل ينتج دلالته لاستوى الناس جميعًا فيما يتحصل من كل دليل، أو لاستوى الناس في الفوائد المستخرجة من كل آية وحديث، وهو خلاف الواقع المعلوم المشاهد، وهذه قضية بدهية لا يختلف فيها اثنان، فكم من نص نظر فيه أهل العلم فاستخرجوا منه ما لا يخطر ببال العوام، والأمثلة لا تحصى..

!!

أي أن: قراءة المجتهد الفقيه للقرآن أو لنصوص السنة المطهرة تختلف عن قراءة غيره. هذا المجتهد الفقيه عنده مَلَكَة تهيؤه لتلقي النصوص بشكل مختلف مغاير بحيث يرى فيها ما لا يراه غيره، ثم هو يقرأ وهو يستحضر في ذهنه النصوص الكثيرة والقواعد الفطرية العقلية العديدة. المجتهد الفقيه يحصل في ذهنه عمليات فكرية، ويَرِد عليه من الخواطر لدى مروره على النصوص ما لا يخطر ببال غيره ممن لا يملك تلك الملكة ولم يتمرس بقواعد الشرع ولا مسائله.

هل من مثال على هذا؟

اقرأ –مثلًا- قصة «موسى» مع القبطي الذي قتله في سورة «القصص»، ثم انظر هل يمكنك أن تلتفت تلك الالتفاتة التي حصلت لشيخ الإسلام علم الهدى «أبو منصور الماتريدي» رحمه الله، وهو من طبقة مجتهدي المذهب الحنفي، حين قال في تفسيره: وقوله تعالى: «إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي» [القصص:16]، وفيه دلالة جواز الاستدلال لقول «أبي حنيفة» حين قال: من قتل آخر بحجر عظيم أو بخشبة عظيمة مما لا ينجو من مثله فإنه لا يُقتل به، ولا يجب القصاص فيه؛ لأن موسى لما وكز ذلك القبطي فمات، وكان له قوة أربعين رجلًا لم ير القصاص به واجبًا، حيث قال له ذلك الرجل: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» [القصص:20-21].

ولو كان القصاص واجبًا كان أولئك لم يكونوا ظلمة في قتله، بل يكون هو الظالم فيه. ولا يحتمل أن يكون القصاص واجبًا – أيضًا – وموسى يفر من ذلك ويهرب، وفي ذلك إبطال حقهم، دل أنه لم يجب. ولا شك أن وكزة من له قوة أربعين رجلًا إلى الهلاك أسرع وأقرب وأعمل من الضرب بالحجر العظيم أو الخشبة العظيمة، فإذا لم يجب في هذا لم يجب في ذاك، واللَّه أعلم.

إن دقة أنظار العلماء في الاستنباط من النصوص مثار عجب لكل منصف، ولو اطلعت على كتب الحديث والتفسير وغيرها لوجدت ما هو أعجب، والعقول متفاوتة فمنها ما يقرأ النص فلا يرى فيه شيئًا، ومنها ما يقرؤه فيستنبط منه معنى، ومنها ما يستنبط معنيين، ومنها ما يقف مع النص فيستنبط عشرة، وقد فسر الإمام «فخر الدين الرازي» عليه رحمة الله تعالى «الفاتحة» في مجلد كبير، وفسر «ابن تيمية» سورة «الإخلاص» في كتاب من القطع المتوسط يصل إلى 250 صفحة، وفسر شيخنا العلامة الدكتور «إبراهيم خليفة» الآيات الأربع الأولى من سورة «النساء» في كتاب كنا ندرسه في السنة الأولى بأصول الدين يصل إلى 300 صفحة.

هذا التفاوت يدعو من لم يتأهل لتلك الرتب للتعلم والتأدب والتواضع، واتهام النفس والعقل قبل الإقدام على اتهام العلماء فيما يُشكل من نصوصهم لأن عقله بالنسبة إليهم محدود.

كيف تكون العقول محدودة، أليست قدراتها واحدة؟ وهل أفهم من هذا احتقاركم للعقل والعقلانية؟

هذا ما أجيبك عنه في المرة القادمة إن شاء الله..