حوار مع صديقي المثقف: هل يقدّس العلماء «البخاري»؟
أنتم تقدسون البخاريّ وإن صرحتم أنه غير معصوم! والقول بأن كل ما فيه صحيح لا يعني إﻻ أمرًا واحدًا؛ وهو أن البخاريّ ﻻ يخطئ، فلا تتهربوا من هذه الحقيقة.
يا صديقي إن كنت تريد الفهم ﻻ مجرد ترديد ما يقال فأضف لعقلك الواعي ما أقول، واسمعني بأذن قلبك، وفرغه من الهوى، وحاكم كلامي للمنطق اﻹنساني البسيط.. ﻻ أريد منك سوى هذا، هل هذا ممكن؟
تفضل.
قولك إننا نقول بعصمة البخاريّ ونقدسه غير صحيح، هل تدري متى أسلم لك قولك هذا؟
متى؟
إن كنا نقول إن كل ما صدر عن البخاريّ صحيح؛ عندها فقط يصح لك القول بأننا نقدسه ونقول بعصمته وإن ادعينا العكس!
ألستم تقولون ذلك عمليًا؟
كلا، نحن نقول إن كتابًا من كتب اﻹمام البخاري الذي سمّاه (الجامع الصحيح من سنن رسول الله وأيامه) هو الصحيح خاصةً، وليس كل ما ألفه، فللبخاري (التاريخ الكبير) و(اﻷدب المفرد) ولم نقل بصحة ما فيهما، بل العلماء متفقون على أن بـ(اﻷدب المفرد) مثلًا بعضَ الضعيف، وأنه لم يَشترط فيه ما اشترطه في الصحيح؛ لذا أتى دونه في المرتبة واﻷهمية، بل يفضلون عليه (صحيح مسلم ابن الحجاج) وسائر الكتب الستة. فأين تقديس شخص البخاريّ الذي تزعم؟
إن أردت الإنصاف عليك أن تقول إننا نحن نحترم عمل البخاري في واحدٍ من كتبه ونضعه في أعلى مراتب البحث العلمي الموضوعي. فليس اﻷمر متعلقًا بذات البخاري بل لعمله الذي ﻻ يملك كل عاقلٍ إﻻ أن يقول بما يقوله علماء الإسلام فيه.
اسمح لي: هذه مبالغة، فكيف يقول كل عاقلٍ بما يقوله المشايخ عن البخاري؟ فنحن عقلاءٌ لكننا ﻻ نبالغ كما تبالغون.
يا عزيزي ليست مبالغة، هل تدري أين المشكلة؟ إن مشكلتكم الحقيقية أنكم تظنون أنكم أذكى من علماء الإسلام أو المشايخ فتأتون لتُعدّلون عليهم اختصاصَهم. أتدري أين المشكلة أيضًا؟ المشكلة أنكم تظنون أن العلماء يمكنهم أن يَخدعوا أنفسهم أو يكذبوا عليها، مما ﻻ يفعله عاقل. المشكلة أن عقولكم امتلأت بعدم الثقة في علماء اﻷمة كما أراد اﻻستعمار تمامًا عبر وسائل الإعلام المختلفة على مدار عقودٍ من التشويه. وكي تقف على ما أقول؛ فاعلم أن (صحيح البخاريّ) ما هو إﻻ بحث محكم بلغة عصرنا.
بحث محكم!
نعم هو كذلك، إن البحوثَ المحكمةَ التى تُعرَض على اللجان العلمية المختصة ﻹقرارها تختلف في قوتها العلمية عن غير المحكمة التي لم تُعرَض على لجان أهل اﻻختصاص قبل السماح لها بالنشر في مجالات محددة، بل إن قوة العالم وإسهاماته الحقيقية تقاس في عصرنا بعدد ما نشر من بحوثٍ محكمةٍ في العلوم الشرعية والطبيعية والإنسانية على السواء، ذلك ﻷن البحث ﻻ يُعد ثمرةَ جهدٍ فردي فقط بل هو جهدٌ فردي + إقرارٌ جماعي من أهل اﻻختصاص، ومن ثَمَّ يكتسب البحث قوته؛ ﻷن كل من قرأ البحث يكتب عنه تقريرًا بالموافقة على مضمونه وصحة معلوماته واستنتاجاته وما وصل إليه من نتائج، فيكون ثمرة عقولٍ ﻻ عقلٍ واحد!
فهل حدث ذلك مع (صحيح البخاري)؟
بل حدث ما هو أكثر وأدق، إن (صحيح البخاري) تخطى درجة البحث المحكم الذي يقرؤه خمسةٌ من أهل اﻻختصاص فيُقِرُّونه إلى درجةٍ علمية أعلى عبّر عنها العلماء بقولهم: تلقته اﻷمة بالقبول، والمعنى المتبادر من هذه العبارة: أنَّ علماء الحديث في اﻷمة الذين هم أهل اﻻختصاص في هذا الجانب قد اختبروا ما فعله البخاري وعرضوه على الموازين العلمية الدقيقة، فأقروا صنيعه وحمدوا سعيه، ﻻ لتقديسه بل ﻹعماله أعلى درجات الحيطة العلمية في التحقق من صدق الأخبار، ويكفي أن تعلم أن علماء عصره لم يُسلموا له دقة حفظه وفهمه إﻻ بعد أن اختبروه، بل كان بعضهم يريد الإيقاع به وإظهاره في مظهر المُدَّعي الذي أخذ من الصيت أكثر مما يستحق، لكنهم أمام تفوقه العلمي في المناظرات التي عُقِدت له خصيصًا لم يعد هناك مجالٌ للحكم بالهوى والتشَهِّي وعدم اﻻعتراف بفضله؛ فلم يَصر اﻷمر اﻵن – بعد اختبار العلماء لقوته العلمية في عصره ثم لصنيعه في كتابه من بعده – بعد أن عرضوه على الموازين العلمية – متعلقًا بالبخاري بل بصنيع الجماعة العلمية وما ارتضته من قواعد علميةٍ دقيقةٍ، لذلك فإن الطعن في صحيح البخاري ﻻ يقصد به البخاري بل ما ارتضته الأمة من قوانين ومناهج تتحقق من خلالها من صدق الأخبار، فهدمُه هدمٌ لقواعد أهل العلم قاطبةً وليس لرجلٍ اسمه (محمد بن إسماعيل البخاريّ) ألفَّ كتابًا ما.
أفهم من قولك هذا أن كل ما في البخاري صحيح، وأننا ﻻ يجوز لنا أن نعمل فيه أدوات البحث لنختبر صنيعه كما فعل اﻷقدمون، وأن اﻷمر صار مغلقًا فلا يجوز البحث فيه. وهل التقديس إﻻ هذا؟
ومن قال لك إن البحث توقف وأن العلماء أغلقوا الباب أمام دراسته بل نقده؟ هذا ﻻ يكون بل ﻻ يملك فعله أحد، وأول من يدرسه نقدًا هم علماء الحديث أنفسهم. إننا نغلقه نعم؛ لكن كما تغلق نقابة اﻷطباء الترخيص بمزاولة المهنة أمام من لم يدرس الطب حفاظًا على حرمة العلم وصحة الناس، أمام من لم يدرس قوانين العلم ومناهجه والذي سيكون كلامه الخالي من قواعد العلم المتسالمة عبارةً عن قولٍ بالهوى والتشهِّي، الذي يعبر عنه بـ«انتفاء الموضوعية العلمية» بلغة عصرنا، وهو ما ﻻ يُقبل عند كل عاقلٍ، فضلًا عن أهل اﻻختصاص في أي علمٍ من العلوم. قليلٌ من العقلِ يرحمكم الله!