جدلية الفقه والقانون في تشريعات الأوقاف المعاصرة
إذا كان «الفقه» تُنتِجه نخب متعددة ومتنوعة الاجتهادات من علماء الشريعة لصالح المجتمع، فإن «القانون» تُنتِجه للمجتمع نخبٌ سياسية وقانونية متعددة في أفكارها وتوجهاتها ومصالحها، ولكنها موحدة فيما تصل إليه عبر مؤسسات الدولة المركزية الحديثة. ولهذا نجد أن التعددية هي أوضح سمات الفقه، وأن مرونة الاختيار من بين الاجتهادات الفقهية هي أهم مميزاته. أما القانون فإن «وحدته» هي أهم سمة من سماته، والالتزام الجماعي به هو أهم ميزة من مميزاته.
ينتمي الفقه في عمومه إلى منظومة فكرية تعددية ومرنة وذات نسق معرفي منفتح؛ بينما ينتمي القانون إلى منظومة فكرية واحدية الاتجاه، وجامدة نسبياً، وذات نسق معرفي مغلق. وإذا أدركنا هذا الفرق الجوهري بين البنية المعرفية الفقهية والحكمة منها، والبنية المعرفية القانونية وفلسفتها؛ سيكون ممكناً التمييز بين حالة الأوقاف وهي محكومة بالفقه التعددي المنفتح، وحالتها وهي خاضعة للقانون الرسمي الموحد والمغلق. ولاختبار هذه الفرضية، دعنا نتأمل في مفهوم «الولاية» على الوقف بمنظور مقارن بين الفقه والقانون.
إن الولايةَ على الوقف نوعان هما: ولايةٌ عامةٌ؛ وهي معقودة للقضاء قولاً واحداً. وولايةٌ خاصةٌ؛ وهي معقودة للواقف أصالةً؛ أو لمن ينيبه الواقف أو يوكله، ثم لمن يقيمه القاضي بموجب حكم واجب النفاذ. وفي جميع الحالات فإن الأصلَ الأصيلَ للولايةِ على الأوقاف وإدارتها هو أنها «أهليةٌ مجتمعيةٌ»، وليست «حكوميةً»، أو «دولتيةً» (نسبة إلى الدولة). هي للمجتمع المدني ومؤسساته وفاعليه، وليست للحكومة ومجتمعها السياسي(الرسمي) إلا على سبيل الاستثناء، وفي حالات خاصة تختلف من عصر إلى عصر، ومن بلد لآخر، بل ومن وقف إلى وقف.
وقد تبلورت أحكامُ الولاية على الأوقاف بأنواعها تلك في ضوء بيئةٍ تشريعية صاغها الفقهاء، وطبقها القضاة الشرعيون على مر الزمن. وأسهم المفتون في حل أغلبية مسائلها ومشكلاتها، وتقبَّلها عموم الناس وتفهموها؛ إلى أن تراجع نظام الوقف برمته منذ منتصف القرن العشرين الماضي، وأضحى هذا النظام خاضعاً لمرجعية قانونية موحدة تحت مركزية الدولة وبيروقراطيتها العامة. وهذا التحول الكبير هو الذي يفسر أغلب -وليس كل- مظاهر التدهور وفقدان فعالية الأوقاف في ظل الدولة المركزية الحديثة في مجتمعات أمتنا الإسلامية.
ولما عاد الاهتمامُ بنظامِ الوقف الإسلامي -منذ الربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري/ثمانينيات القرن العشرين الميلادي تقريباً- تبين أن البيئة التشريعية لهذا النظام هي مظهر من مظاهر أزمته المعاصرة من جهة، وهي أيضاً سبب رئيسي من أسباب تلك الأزمة من جهة أخرى. وليست البيئةُ التشريعيةُ «القانونية» إلا أحدَ أوجه التعبير عن مركزية الدولة الحديثة في مجتمعات أمتنا الإسلامية.
ما قبل ذلك، وما هو أهمُّ منه هو: أن تاريخ نشأة «نظام الوقف» في العهد النبوي، يوضح أن «تشريع الصدقة الجارية» كان أول لبنة معرفية ومعنوية في بناء هذا النظام العريق. والأحاديثُ والآثارُ المروية عن سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) كثيرة في هذا الباب، ومنها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن النبي أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية… إلخ». وقد قام الفقهاءُ بعد ذلك بتفصيل معالم «البيئة التشريعية» للأوقاف، وعلاقة تشريع الصدقة الجارية بغيره من التشريعات، وبخاصة تشريعات الميراث، والوصية، والهبة، والزكاة، وأنواع مختلفة من الضرائب والرسوم الأميرية.
ومن ثَمَّ؛ لم يكن غريباً أن يكون بابُ الوقف هو أول باب من أبواب الفقه يستقل بكتبٍ خاصة به في تاريخ نشأة التدوين الفقهي وتطوره. وكان أول كتب الأوقاف ظهوراً في منتصف القرن الثالث الهجري تقريباً، وهو كتاب «أحكام الأوقاف» لهلال الرأي، ومن بعده ببضع سنوات ظهر كتاب «أحكام الأوقاف» لأبي بكر الخصاف الحنفي المتوفى في سنة 261هـ. وهذا يعني أن العلماء وأئمة الفقه؛ ومعهم المتطوعون بالوقفيات؛ هم الذين قاموا بالدور الرئيسي في صوغ القواعد الإجرائية والعملية المنظمة للأوقاف ومؤسساتها، في ضوء التشريع القرآني للعمل الخيري، وفي ضوء التوجيه النبوي للصدقة الجارية.
في بحوث سابقة لي -عن نظام الأوقاف- انتهيتُ إلى أن الولاية على الأوقاف هي من أهم المسائل التي تحتاج إلى بحوث جديدة ومتعمقة تستهدف تخليص نظام الوقف من الرواسب السلبية لنمط الولاية الفردية/العائلية (الناظر الفرد)، وهو نمط تقليدي موروث من العصور السابقة. وانتهيتُ أيضاً إلى أن فاعلية الوقف ارتبطت بمقدار إسهامه في تحقيق المقاصد العامة للشريعة.
وقد كَشَفَتْ وقائع الممارسة الاجتماعية للوقف عن أنه لا يكفي وجود تلك الصلة بين الوقف ومقاصد الشريعة على المستوى النظري حتى يكون النظام فعالاً في الواقع، ومؤدياً لأهدافه، بل لا بد من توافر شروط عملية أسميناها «شروط الوقف الفاعل»، وهي تتلخص في: المؤسسية، واستقلالية الإدارة وكفاءتها (الولاية على الوقف والمحاسبية في شئونه) وذاتية التمويل، واللا مركزية. ومن هنا تتجلى أهمية التشريعات الوقفية الحديثة في تطوير نظم الولاية على الوقف، وضبط اختصاصاتها؛ وهذا يتوقف على كفاءة هذه التشريعات في الجمع بمرونة بين ثوابت هذا النظام، ومتغيرات الواقع ومستجداته.
لقد بقي التعامل مع أحكام الوقف عامة مستنداً إلى اجتهادات الفقهاء، دون محاولة تقنينها، وذلك إلى بدايات القرن الرابع عشر الهجري/مشارف القرن العشرين الميلادي -وكان شأن الوقف في ذلك شأن كـــثير من العقود والتصرفات الأخرى التي باتت بحاجــة إلى التقنين الإلزامي الرسمي ضمن مواضعات الدولة الحديثة وأنظمتها القانونية والإدارية- وقد شهد الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري/الأخــير من القرن التاسع عشر ظهور بوادر تقنين الأحكام الشـــرعية من خلال مجلة الأحكام العدلية؛ وهي تُعدُّ أولَ تقنين تم بموجبه وضع الأحكام الفقهية في صورة مواد قانونية مرتبة ومنظمة، وأخذت طريقها إلى التنفيذ الرسمي الملزم في بعض بلدان الأمة الإسلامية.
ورغم تعدد الرؤى والاجتهادات المذهبية/الفقهية التي حكمت نظام الوقف، إلاّ أن الممارسة الاجتماعية على امتداد مجتمعات الأمة الإسلامية، وعلى طول تاريخ نظام الوقف، تكاد تكون واحدة من حيث آثارها الفعلية، وبخاصة من حيث إسهامها في بناء ودعم كثير من مؤسسات المجتمع الأهلي/المدني.
وقد أتاح الاختلاف المذهبي في فقه الوقف درجة عالية من المرونة، وقدم مجموعة كبيرة من الاختيارات أمام المجتمع للأخذ بأكثرها ملاءمة لظروفه، وأقدرها على الإسهام في تلبية احتياجاته، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كانت نقطة التحول الأساسية في الإطار التشريعي للوقف -ومن ثَمَّ في الممارسات المدنية الاجتماعية المرتبطة به- هي عملية إدماج الأوقاف في البيروقراطية العامة وسيطرتها الحكومية. وكان أوضح مظهر لهذا الإدماج هو «تقنين» فقه الوقف في عدد كبير من بلدان الأمة، ونقله من النسق التعددي الفقهي المفتوح، إلى النسق القانوني الدولتي الموحد والمغلق. وقد جاء هذا التحول التشريعي في ثلاث موجات تشريعية كبرى على مستوى البلدان العربية، وهي:
الموجة الأولى
بدأتها مصر بإصدار أول تقنين حديث للوقف في العالم العربي، وهو القانون رقم 48 لسنة 1946م، وتلتها كل من: المملكة الأردنية في سنة 1946م، ولبنان في سنة 1947م، وسوريا في سنة 1949م، والكويت في سنة 1951م، والعراق الذي أصدر «قانون جواز تصفية الوقف القادري في لواء ديالى» في سنة 1959م.
الموجة الثانية
بدأها السودان بقانون الوقف الخيري رقم 116 لسنة 1970م، وتلته ليبيا بقانون رقم 124 لسنة 1972م، ثم أصدرت الجزائر القانون المتعلق بالأوقاف رقم 91-10 في سنة 1991م، ثم التحق بهما كل من: اليمن في سنة1992م، وقطر التي أصدرت القانون رقم 8 لسنة 1996م بشأن الوقف، وموريتانيا في سنة 1997م، والإمارات العربية التي أصدرت القانون رقم 29 لسنة 1999م بإنشاء الهيئة العامة للأوقاف.
الموجة الثالثة
بدأت من سلطنة عمان التي أصدرت القانون رقم 65 لسنة 2000م، وتلتها المملكة الأردنية الهاشمية، التي أصدرت القانون رقم 32 لسنة 2001م بشأن الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية، وهو تقنين يحتوي على عدد مهم من الاجتهادات الجديدة. ثم أصدرت المملكة المغربية «مدونة الأوقاف» بموجب الظهير الشريف رقم 1.09.236 المؤرخ في 8 ربيع الأول 1431هـ – 23 فبراير 2010م، في شأن الأوقاف.
وتتيح لنا تلك التشريعات الحديثةُ المقارنةَ فيما بينها على النحو الذي يساعدنا في التعرف على خصائص البيئة التشريعية للأوقاف وأهم مشكلاتها في واقعها المعاصر.
لقد ظلَّ فقه الوقف الموروث هو المرجعيةُ التشريعية بلا منازعٍ لكل ما يتعلق بنظام الوقف ومؤسساته إلى نهايات القرن الثالث عشر الهجري/الربع الثالث من التاسع عشر الميلادي تقريباً. ولم تظهر اجتهاداتٌ معتبرة من أجل تقنين هذا الفقه وتيسير الإفادة منه والاحتكام إليه في ساحات المحاكم إلا عندما وضع محمد قدري باشا في الربع الأخير من القرن الثالث عشر الهجري كتابه: «قانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف» (اشتمل على 646 مادة). وما حدث لفقهِ الوقف، حدث أيضاً في فقه المعاملات وفقه الجنايات؛ ففي الفترة نفسها بدأت جهود تقنين الأحكام الشـــرعية تظهر من خلال مجلة الأحكام العدلية كما أسلفنا.
وتتيح تلك التشريعاتُ الحديثة المقارنة فيما بينها على النحو الذي يكشف عن جدلية الفقه والقانون في هذا المجال، ويساعد أيضاً في التعرف على خصائص البيئة التشريعية للأوقاف وأهم مشكلاتها في نطاق البلدان العربية (على الأقل). وهي بيئة قد لا تختلفُ كثيراً عن مثيلتها في بقية بلدان الأمة الإسلامية.
ومن أهم ما تكشف عنه المقارنات المنهجية في هذا المجال: أن البيئة التشريعية/القانونية للأوقاف في أغلب بلداننا تندرج في واحد من نمطين اثنين: الأول هو نمط القوانين الوقفية الجيدة الموجودة في بيئة تشريعية رديئة. والثاني هو نمط القوانين الوقفية الرديئة الموجودة في بيئة تشريعيةٍ جيدة؛ ولكن كلاً منهما يفتقر إلى المرونة ويتسم بدرجة عالية من المركزية. وهناك نمط ثالث يضم البلدان التي لا توجد بها قوانين خاصة بالأوقاف، ولا يزال أمر الأوقاف فيها متروكًا للاجتهادات الفقهية الموروثة، أو أن أمر الأوقاف لا يزال خاضعاً لحظر قانوني رسمي كما في الحالة التونسية.