ثورة «ظفار»: لأن عُمان لم تتحرر يومًا من الاستعمار
لم تشهد سلطنة عمان منذ عام 1932 (أي على مدار 86 عامًا) سوى حاكمين فقط؛ السلطان سعيد بن تيمور، الذي تولى الحكم عام 1932، ونُحيّ عنه عام 1970 لصالح ابنه السلطان قابوس بن سعيد، الذي يقبع في قصر الحكم حتى يومنا هذا.
ولا شك أن هذه الفترة الممتدة من حكم الأب وابنه للسلطنة منحت السياسة الخارجية العمانية قدراً من الاستمرارية والثبات، وكذلك ذاكرة تاريخية ممتدة. فالخبرات التاريخية التي مرت بها عمان على مدار الـ86 عاماً الماضية، لابد وأنها راسخة في ذاكرة ذهن السلطان، وتمثل إحدى القواعد الأساسية لتشكيل سياسته الخارجية.
وحينما نعلم أن قابوس بن سعيد على مدار سنوات حكمه، وإلى جانب كونه سلطان البلاد،شغل مناصب رئيس الوزراء، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ووزير الدفاع، ووزير المالية، ووزير الخارجية، ورئيس المجلس الأعلى للتخطيط، ورئيس البنك المركزي. فلن يكون من المبالغة القول إن السياسة الخارجية العمانية هي في مجملها انعكاس لرؤية السلطان قابوس ومدركاته وتصوراته ومعتقداته وخبراته الشخصية والتاريخية.
ثم كانت «ظفار»
أخيراً نجح السلطان سعيد بن تيمور في توحيد البلاد مرة أخرى عام 1955، وقضى على نظام حكم الإمامة بقيادة الإمام «غالب بن علي»، لتتحول عمان بعد ذلك إلى مركز لحرب باردة إقليمية، انخرطت فيها عدد من دول المنطقة (السعودية والكويت والعراق واليمن ومصر وإيران) بجانب بريطانيا، التي كانت تمتلك وجوداً عسكرياً في عمان.
وقد كانت المملكة العربية السعودية داعماً رئيسياً لنظام «الإمامة» في المنطقة، وهي حركة دينية لا تؤمن بتوارث الحكم بل بانتخاب الإمام من قبل علماء المذهب الإباضي. لذلك استضافت الإمام غالب بعد هروبه من عمان، ودعمت انتفاضته ضد السلطان سعيد، التي انطلقت عام 1957.
استعان السلطان سعيد بالجيش البريطاني لقمع الانتفاضة، والتي انتهت بالفعل عام 1959، لكن تمكن الإمام غالب من الهروب مرة أخرى من البلاد، ففتح مكتباً له في الكويت، وأخذ يُروّج للقضية العمانية في أروقة جامعة الدول العربية والأمم المتحدة.
انقضت انتفاضة الإمام، لكن بقيت الأوضاع الداخلية على صفيح ساخن، فالبلاد تعاني تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع حالة من التهميش عانت منها عدة مناطق، في القلب منها محافظة «ظفار»، التي تشغل وحدها ثلث مساحة السلطنة.
أضف إلى ذلك، نمو وانتشار المد القومي العربي برعاية الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والمناداة بالوحدة والتحرر من الاستعمار ومقاومته بشتى الوسائل، مما ولّد لدى العمانيين، والظفاريين تحديداً، النزعة نحو الثورة ضد الوجود البريطاني في عمان.
انطلقت شرارة الكفاح المسلح عام 1963، بقيادة مُسلم بن نفل، الذي قام بهجوم مسلح على حافلات لشركة النفط الأجنبية، وبعدها لجأ مع 30 نفراً من رجاله إلى السعودية وقام بالاتصال بالإمام غالب. ومدعوماً بالمال السعودي، انضم نفل إلى مجموعة أخرى من المناهضين الظفاريين، ورحلوا إلى العراق، حيث تلقّوا تدريباً على حرب العصابات. وفي صيف 1964 عادت المجموعة إلى ظفار مع وعود من الحكومة السعودية بزيادة الدعم المالي والعسكري. ولم يقتصر الدعم على السعودية، كان أيضاً من الكويت ومصر.
ثم كانت انتفاضة ظفار 9 يونيو/ حزيران 1965، بعدما تشكلت جبهة تحرير ظفار من ثلاثة تنظيمات: حركة القوميين العرب (فرع الخليج) والهيئة الخيرية الظفارية (المرتبطة بالإمام غالب قائد انتفاضة 1957) ومنظمة الجنود الظفاريين، وهي منظمة ضمت في صفوفها الجنود العاملين في جيوش إمارات الخليج؛ قطر والبحرين والشارقة. صاغت حركة القوميين العرب بيان الثورة في الكويت حيث أعُلن.
وبعد تولي السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم عام 1970، تم التخطيط لاغتياله وقلب نظام الحكم عام 1972، بدعم عراقي – يمني، وتحدثت مصادر تاريخية عن دعم إماراتي أيضًا، غير أن هذه المحاولة باءت بالفشل الذريع وتم القبض على العديد من عناصر الجبهة.
خلال هذه الفترة، ووصولاً إلى إخماد الانتفاضة عام 1975، قدمت إيران دعماً سياسياً وعسكرياً ضخماً لعمان، منحها التفوق العسكري ضد قوات الجبهة خلال تلك السنوات. بينما على الجانب الآخر، استمرت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي) في دعم الانتفاضة حتى اليوم الأخير، ووفرت لهم على أراضيها قواعد عسكرية للتمركز والتدريب، بالإضافة إلى تحملها جزءاً كبيراً من ميزانية الجبهة، ناهيك عن وسائل إعلامها التي سُخرت لتكون ناطقة باسم الانتفاضة.
سياسات متناقضة وبراجماتية وغير حيادية
بعد انتفاضة ظفار، لم يكن من المستغرب أن تشعر عُمان بأنها لا تنتمي سياسياً للنظام السياسي العربي، وفي القلب منه النظام السياسي الخليجي. وليس معنى ذلك العزلة والانكفاء على الذات فقط، لكن كذلك إنكار الثوابت السياسية العربية والخليجية، المرحلية منها والتاريخية، أو على أقل تقدير عدم دعمها بشكل تام، بما في ذلك التحركات العربية المشتركة، ومواقف المنطقة من الدول الكبرى، وتطورات القضية الفلسطينية.
وفي الوقت ذاته، وخشية تكرار تجربة ظفار، ونتيجة تواضع الموارد الطبيعية لعمان، التي تحِد من قوتها الاقتصادية كإحدى أدوات السياسة الخارجية، اتبعت عمان سياسة خارجية متوازنة، قد يراها البعض متناقضة وبراجماتية، لكنها منحتها قدراً أكبر من محورية الدور وحرية الحركة والفاعلية، على الصعيدين الإقليمي والخليجي، مما جعلها حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا.
كذلك عضواً مؤسساً رئيساً في مجلس التعاون الخليجي، وفي الوقت ذاته شريكاً رئيساً لإيران، مع عدم إغفال علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والقوى الآسيوية الكبرى، وعلى رأسها الصين والهند وباكستان، حيث نجح قابوس في أن يجمع بين كل هذه الأطراف المتضادة في علاقاته الخارجية، ويحافظ على نمط من العلاقات الودية مع الجهات الفاعلة والمؤثرة في المنطقة، والتوفيق بينها وتقريب وجهات النظر بين الأطراف ذات المصالح المتعارضة.
بين السعودية وإيران: توازن لا حياد
كان الهاجس الرئيسي لعمان هو تشكل نظام سياسي إقليمي تكون اليد الطولى فيه للمملكة العربية السعودية، والتي إن خضعت له عمان، ستكون تحت رحمة سياسات الرياض. ومن هنا نشأت أحد أهم مرتكزات السياسة الخارجية الإقليمية للسلطان قابوس وهي تحقيق التوازن بين المملكة العربية السعودية وإيران، حيث تستمر عمان في كونها أحد أعضاء المنظومة العربية والخليجية، دون أن تكون خاضعة لسياسات السعودية، وفي نفس الوقت تجني ثمار تعاونها الاقتصادي مع حليفتها التاريخية إيران.
تُعد عمان شريكاً سياسياً واقتصادياً كبيراً لإيران، فبين عامي 2012 و2013، ارتفع حجم التجارة الثنائية بين الدولتين بنحو 70%، ليبلغ 873 مليون دولار. وبحلول نهاية عام 2015، تجاوز هذا الرقم حاجز المليار دولار. كما رحبت السلطنة باستثمارات إيرانية مباشرة في مجمع مستشفيات ومعمل لتقنية النانو، وكليهما يهدف إلى المساعدة في تنويع اقتصاد البلاد بعيداً عن النفط.
وفي 2016، أعلنت إيران خودرو، الشركة المصنعة للسيارات، عن تأسيس مشروع مشترك بقيمة 200 مليون دولار لإنتاج السيارات في عُمان. ولم تكن عمان تُجاهر بتأييدها العلني المباشر لسياسات إيران، لكنها في الوقت نفسه كانت ترفض الخوض في غمار أي سياسات جماعية أو تحالفات عسكرية تضر بالمصالح الإيرانية، وآخرها كان التحالف السعودي – الإماراتي (عاصفة الحزم) للحرب على الحوثيين في اليمن مارس/ آذار 2015.
وحينما انضمت إلى التحالف العسكري الإسلامي في الرياض لمحاربة الإرهاب ديسمبر/ كانون الأول 2015، كانت عمان تحاول توصيل رسالة (غضب) غير مباشرة إلى إيران. لأنه كان من المتوقع أن تشهد عمان عوائد اقتصادية أكبر من إعادة إدماج إيران على الصعيد الدولي بعد الاتفاق النووي لعام 2015، لكن الأعمال كانت بطيئة في استئنافها، حيث أعطت إيران الأولوية لمشاريع ذات شركاء أكثر ربحاً، مثل الاتحاد الأوروبي، وشعرت السلطنة أن طهران تتباطأ في عدد من المشاريع المشتركة.
وغالباً ما يكون خروج عمان عن الإجماع الخليجي (كما في حالة حصار قطر)، ليس لاتباع سياسة خارجية محايدة ومتوازنة فقط، لكنها ترى في نجاح هذه التحركات الخليجية الجماعية انتصاراً سياسياً قد يمنح السعودية (وربما الإمارات أيضاً) درواً إقليمياً أوسع وأكثر هيمنةً. وهو الدور الذي لا ترغب به عمان أبداً.
النفوذ الصامت في اليمن
انخرطت عمان بشكل واضح في حرب اليمن، وهو الأمر الذي عزاه معظم المحللين إلى العلاقات العمانية الإيرانية المتينة. فنتيجة لكون إيران أحد الأطراف الأصيلة (عن طريق الحوثيين) في حرب اليمن، كان من المنطقي أن تحاول عمان لعب دور الوساطة في العديد من محطات الحرب، وهي الوساطة التي تحمل أحد أشكال الانحياز لإيران، انحياز وصل إلى حد المساعدة أو التغاضي عن نقل الأسلحة الإيرانية إلى الحوثيين في اليمن.
منظور آخر يمكن أن نرى من خلاله الأمور، فاليمن التي مثّلت في السابق القاعدة العسكرية والسياسية للثوار العمانيين، قد تكون مُرشحة للعب ذات الدور في المستقبل، خاصة في ظل حالات الفوضى السياسية. وربما يكون هذا ما دفع السلطان قابوس إلى تعظيم دوره ونفوذه في اليمن.
ففي المرحلة التي سبقت حرب اليمن في صيف 1994، استضاف العمانيون الاجتماع الأخير بين الزعيمين الخصمين علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض في محاولة أخيرة للتوسط بين الاثنين. ومنذ اندلاع الحرب الأخيرة في اليمن، أدت عمان دوراً أساسياً، استضافت قياديين من التيار الحوثي وممثلين عن عبدالله صالح، مما أتاح لها الانخراط في عملية سياسية للمساهمة في تسوية النزاع.
وباتت عمان متنفساً وشريان حياة للعديد من أطراف الصراع هناك. ورغم الغضب السعودي من السلوك العماني تجاه اليمن، فإنهم لجئوا إلى السلطان قابوس حينما أرادوا الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الحوثيين.
بل وتخوض عمان صراعاً محتدماً مع الإمارات حول النفوذ في شرق اليمن، فمحافظة المَهْرة – التي تُعد بوابة اليمن الشرقية والعمق الحيوي للسلطنة بوجود أكثر من منفذ بري بينهما – شهدت سعياً إماراتياً دؤوباً لتعظيم نفوذها هناك، أسوة بجنوب اليمن.
كما أن هناك مخاوف عديدة داخل الحكومة العمانية من الدور المتزايد للإمارات جنوب اليمن ودعمها للحركات الانفصالية والحراك الجنوبي، فمحاولات الإمارات تطوير قاعدتها العسكرية في جزيرة «سقطري» اليمنية، التي تقع عند مدخل خليج عدن، يُهدد الأمن الاستراتيجي لعمان، وكذلك يطوقها اقتصادياً.
التطبيع المفيد: الطريق إلى بيع القضية الفلسطينية
منذ بداية السبعينات، رسمت السلطنة نهجاً متفرداً في التعاطي مع الصراع العربي الإسرائيلي، تحكمه مبادئ المنفعة والمصلحة السياسية، التي لا ترى بأساً في إقامة علاقات ثنائية طبيعية مع إسرائيل والاستفادة من خبراتها واقتصادها، مع استعدادها لتحمل الانتقادات من الحكومات والشعوب العربية بما فيها الشعب العماني ذاته.
كما أن العلاقات العمانية الإسرائيلية تعتبر مدخلاً هاماً لقابوس في سبيل توطيد علاقاته مع القوى الدولية الكبرى، وهو الأمر الذي قد يدعمه في مواجهة الأنظمة الخليجية والعربية، إذا ما تكررت تجربة «ظفار». وبالتأكيد لم ينسَ قابوس دعم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» لانتفاضة ظفار، وتزويدها بالسلاح والرجال من حين إلى آخر.
فبعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، كانت عمان هي العضو الوحيد في مجلس التعاون الخليجي التي انخرطت مع إسرائيل في عدد من المبادرات الدبلوماسية غير الرسمية. وكانت واحدة من ثلاث دول عربية فقط لم تقاطع مصر بعد معاهدة السلام، فيما دعمت بفاعلية محادثات السلام الأردنية الإسرائيلية في السنوات اللاحقة.
وبعد شهور من توقيع معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994، دعا السلطان قابوس رئيس الوزراء الإسرائيلي حينئذ إسحق رابين لزيارة مسقط. وبعد اغتيال رابين، تم إيفاد وزير الخارجية العماني للمشاركة في جنازة رابين. وفي مقابلة لاحقة مع الإعلام الإسرائيلي، قال الوزير العماني خلال استضافته من قبل رئيس الوزراء بالإنابة شيمعون بيريز:
وسرعان ما حافظت عُمان على قناة دبلوماسية مع إسرائيل منذ عام 1996 من خلال استضافة مركز الشرق الأوسط لأبحاث تحلية المياه MEDRC، والذي يُعد المركز الوحيد الذي لا يزال قائماً من بين خمس مبادرات إقليمية تضمنها اتفاق أوسلو كجزء من جهد تسريع عملية السلام.
وبعد تجميد العلاقات العمانية الإسرائيلية عام 2000 على خلفية انتفاضة الأقصى، سرعان ما تحركت المياه الراكدة مُجدداً عام 2008، عندما التقى وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي نظيرته الإسرائيلية آنذاك تسيبي ليفني في الدوحة.
ثم شاركت عمان في جنازة شيمعون بيريز عام 2016. وأخيراً جاءت زيارة نتنياهو العلنية الأخيرة لمسقط، لتفتح ملف التطبيع العماني الإسرائيلي مرة أخرى على مصراعيه.