معضلة الأسعار: كيف نُحدد أسس التسعير العادل؟
في كتابها المُلهم عن آلية التسعير وتداخل العديد من المعايير الشخصية والمجتمعية في تلك العملية، تَعرِض الكاتبة «سارة ماكسويل» إشكالية تحديد السعر المعقول بالنسبة للبائع والمُشتري دون أن يتم حدوث أي نوع من الظلم لأي طرف، وإذا كان الرأي السائد لدي الكثيرين أننا اليوم نعيش في عالم المُشتري، وذلك في ظل وجود سوق كبير من الباعة وتعدد المنتجات والخدمات المطروحة من مختلف الأماكن، فما الإشكاليات التي تعوق التوصل إلى حلول يرضى عنها المجتمع؟
نستعرض في السطور التالية أهم ما جاء في الكتاب مع تسليط الضوء على عدة فقرات وموضوعات متعلقة بعملية السوق والتسعير والمجتمع وكل من البائع والمشتري.
سيكولوجية المُشترِي
تأمل سيدة – لنطلق عليها سالي – تريد شراء سيارة رياضية جديدة، طالعت سالي إعلانات مغرية تطرح أسعارًا تبلغ 35.000 دولار، لكن عندما توجهت للتاجر، أثار حنقها أن السعر الفعلي كان 45.000 دولار، وهو ما يزيد كثيرًا على ما توقعت، ويؤدي ذلك الفرق الشاسع إلى تنافر معرفي وضيق شديد؛ لأن مقدار الضغوط التي يتعرض لها المستهلك يعتمد على ما توقعه، فيمكن أن تكون لعميلين استجابات مختلفة إزاء السعر نفسه، فإن شخصاً آخر توقع أن يكون السعر 50.000 دولار سيعتقد أن 45000 سعر عظيم؛ وفي حالة سالي، المشترية المُحبَطة، فإن بإمكانها تقليل الضغوط التي ألمَّت بها، بتغيير أفكارها التي أفضت لشعورها، بإمكانها – مثلًا – تغيير الإجراء الذي تنوي اتخاذه، فتقرر ألا حاجة لها لسيارة رياضية، أو يمكنها التفكير فيما إذا كان السعر المرتفع يتفق ومقياس المجتمع للعدالة الاجتماعية.
ولكن المتغير الملحوظ من قبل العديد من الشركات هو أن تغيير الأسعار بوتيرة سريعة سيترتب عليه إثارة عداوة العملاء، لذلك ثمة استراتيجية بديلة تتمثل في الحفاظ على استقرار السعر لكن اختزال المنتج، وهذا ما يطلق عليه (تسعير الحلوى) تيمنًا بشركات الحلوى التي تحافظ على سعر قالب الحلوى، ولكنها تخفض من مقدار الحلوى.
وفي بعض الأحيان يترتب على عمليات التسعير الجائرة بالنسبة لشريحة كبيرة من المجتمع سخطًا مجتمعيًا، ففي فترة من الفترات قاطع الجمهور الأمريكي دور السينما في مدينة نيويورك، لأنها رفعت أسعار التذاكر من 8.5 دولار إلى 9.5 دولار، وقُوطعت شركة «جلاسكو سميثكلاين»، لأنها أوقفت المبيعات إلي الصيدليات الكندية التي كانت آنذاك تبيع المستحضرات الدوائية بأسعار مخفضة للأمريكيين.
آليات التسعير
أجمع المفكرون وعلماء الدين في العصور الوسطي من أمثال توما الأكويني، أن سعر السوق هو السعر المستحق، أي هو أي سعر يتفق عليه طرفان، وأن الأشياء يتم تحديد قيمتها بناء على الفائدة المستحقة منها، فسعر رغيف الخبز – مثلًا – آنذاك أعلى من سعر الفأر، فهناك فرق بين القيمة الاقتصادية والقيمة الطبيعية بالنسبة للسوق.
وفي القرن اللاحق، رفض آدم سميث (1723 – 1790) فكرة الأسعار المعتمدة على السوق، وحبَّذ فكرة الأسعار المعتمدة على التكلفة، وفقًا لسميث، تُحدَّد قيمة المبادلة من خلال (الكَّد والعَناء) المستثمر في تكلفة العمالة، إضافة إلى اليد الخفيَّة (والمقصود بها أن الأفراد في سعيهم لتحقيق صالحهم الخاص بحرية في سوق تنافسية يحددها قوى العرض والطلب، يحققون المصلحة العامة بشكل مباشر أو غير مباشر). وفي وقت لاحق، أيَّد الاقتصادي الإنجليزي ألفريد مارشال (1842-1924) فكرة تحديد السعر بفعل العرض والطلب.
وعمومًا فإن استراتيجيات التسعير الأساسية هي: التسعير القائم على العُرف، والتسعير القائم على المنافسة، والتسعير القائم على التكلفة، والتسعير بناءً على المستهلك. يظن المستهلك أن كلًا من التسعير القائم على العرف، والتسعير القائم على المنافسة، عادلان على المستوى الشخصي. حيث إن التسعير القائم على العُرف عادل؛ لأنه يتبع المعايير الوصفية والتي ترسخت بصفتها عرفًا، ويقبل التسعير القائم على المنافسة بوصفه عادلًا؛ لأنه ينجم عنه أقل سعر ممكن بالنسبة للمستهلك.
أمّا التسعير القائم على التكلفة والتسعير بناءً على المستهلك، فيظل الحكم عليهما (آليات عادلة أم لا) متوقف على الظروف؛ حيث لا يجوز اجتماعيًا استغلال حاجة الناس لسلعة أو خدمة معينة لرفع سعرها بشكل كبير من أجل زيادة الأرباح، ولكن من العادل أن تُجري مقايضة منصفة على سلعة ما.
الأناني مقابل الاجتماعي
نحن غالبًا ما نميل إلى قبول معاملة غير منصفة إن كانت في مصلحتنا، لكن عندما نضطر للدفع أكثر مما يدفع الآخرون تثور ثورتنا، ويتأثر ويرتبط بذلك معيارا الإنصاف والتكافؤ في أسعار البيع للمستهلك. وعندما نتحدث عن المعايير، يستحضرنا عدة تساؤلات، على سبيل المثال لا الحصر: هل المعايير الاجتماعية تعزز أم تقيَّد المصلحة الشخصية في النظام الاقتصادي؟ وهل يستغل الناس المعايير من أجل إكساب أفعالهم الأنانية شرعية؟ أم أن تقييدات المعايير تثنيهم عن الأفعال الأنانية؟
تقول الفيلسوفة «كريستينا بيكاري» إن المعايير المختلفة مصدرها مواقف مختلفة؛ ففي بعض الأحيان يكون المعيار هو التصرف بناءً على المصلحة الشخصية، وفي أحيان أخري لا يكون المعيار كذلك؛ ففي حالة تفكيرنا في شراء إحدى سلعتين متطابقتين، سننتقي بالطبع السلعة الأرخص؛ لأن ذلك يخدم مصلحتنا الشخصية، لكن في حالات أخرى سننتقي ما يكون في مصلحة المجتمع، مثلًا: ندفع مقابل ما نشتري بمحل البقالة من تلقاء نفسنا حتى إذا كان هذا يخالف مصلحتنا الشخصية.
ولا يعني ذلك أن أسعار السلع والخدمات دائمًا ما تكون غير منصفة، مثال على ذلك، لا تكتفي شركة خطوط «جيت بلو» الجوية بتنويع الأسعار وحدها بل المنتج أيضًا، حيث تتيح الشركة للركاب في مؤخرة الطائرة مساحة أكبر للقدمين عن التي يحصل عليها ركاب المقدمة، ومنطق الشركة هو أن هذا لتعويض سرعة الخدمة التي يحصل عليها ركاب المقدمة، وسرعة خروجهم من الطائرة، وهكذا تظل المقايضة منصفة.
ورغم أن معيار التكافؤ يتأثر تأثيرًا كبيرًا بالمصلحة الذاتية، فإن مفعول المعيار على السلوك يتجاوز تأثير المصلحة الذاتية عليه، واختبر الباحثون ذلك باستخدام «لعبة الديكتاتور»، وتتكون اللعبة من شخصين، ينفصلان عن بعضهما ولا يُسمح لهم بالحديث معًا، ويتم إعطاء أحدهما مبلغًا من المال ليقسم عليهما. في النسخة التقليدية من اللعبة، بإمكان المتفاعل إما قبول القسمة أو رفضها، فإن رفضها، لا يحصل أيهما على شيء، وفي النسخة المعدَّلة من اللعبة، لا يملك المتفاعل خيارًا سوى قبول أي مبلغ يخصصه الديكتاتور له، ولا يوجد أي عقاب، ومن ثَمَّ لا سبب يُثني الديكتاتور عن الاحتفاظ بالمبلغ كله لنفسه، لكنه لا يفعل ذلك، وتمت تجربة عدم إطلاع مراقب اللعبة على أفعال الأفراد المشاركين، ومجددًا اقتسم الديكتاتور جزءًا من المبلغ مع المتفاعل؛ فالمرء يلتزم بمعايير التكافؤ الاجتماعي حتى عندما لا يوجد رقيب.
وحسبما كتب عالم الاجتماع «إدوارد سامبسون»:
وبتطبيق هذا المبدأ علي الأسعار، فمن حق كل المستهلكين الحصول علي السلع بشكل متكافئ بأقل سعر ممكن، فإذا قدت سيارتي – مثلًا – إلى بقعة بعيدة من البلدة لكي أحصل علي خصم 20%، فمن العادل لي أن أحصل على سعر أقل من هؤلاء الذين لم يتكبدوا مشقة الانتقال، ففرصة التمتع بالخصم متاحة لهم كذلك.
ولكن يُنتهك معيار تكافؤ الفرص عندما تفرض المحلات بوسط المدينة – مثلًا – أسعارًا أعلى من أي مناطق أخري، فكثير من سكان وسط المدينة الذين يرتادون تلك المحلات بانتظام، لا يُتاح لهم سبيل الذهاب إلى متاجر أخرى. لكن تحديد إن كانت نتيجة السعر عادلة اجتماعيًا أم لا ليس بالأمر اليسير؛ إذ يصعب التوصل إلى ما يُعتبر منصفًا أو متكافئًا، ومتى ينبغي منح تنازلات واستثناءات نظرًا للحاجة؛ ولمن؟
وكان على شركة «جينيتك» للأدوية مجابهة هذه المعايير المتضاربة، فهي تدافع عن التكلفة المحتملة لعقارها المعالج للسرطان «أفاستين»، والبالغة مائة ألف دولار أمريكي سنويًا، بقولها إن السعر منصف؛ فهو يعكس قيمة قدرة العقار على إنقاذ حياة المريض.
لكن السعر يعني أن بعض المرضي لن يتمكنوا من شرائه، حتى مع المظلة التأمينية، سينفق المريض من جيبه ما بين عشرة آلاف إلى عشرين ألف دولار، ويطلق المعلقون على ذلك (مغالاة في التسعير). وترد شركة جينيتك بالاستشهاد ببرامجها لمساعدة المرضي المحتاجين كي يشتروا العقار بما فيها تبرعها بملايين الدولارات إلى الجمعيات الخيرية التي تساعد المرضى على سداد المبلغ المتبقي بعد التغطية التأمينية، وتزعم الشركة أن سعرها عادل؛ لأنه ينقذ حيوات المرضي، ولأنها تقدَّم المساعدة للمحتاجين، لكن الجمهور لا يقبل ذلك؛ إذ يشعر بأن الشركة ربما تلتزم بمعيار الإنصاف في أن عقارها ينقذ حياة المرضى، لكنها لا تنفك تنتهك معيار الحاجة، وهذا تضارب في المعايير.