معركة ناجحة ضد اللوبي الإسرائيلي في واشنطن: تفاصيل مقاضاة البنك العربي الأردني
هذا التقرير جزء من مشروع «الحج إلى واشنطن» الذي أنجزه فريق ساسة بوست لتغطية أنشطة لوبيات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة بين 2010 و2020. ومعظم المعلومات الواردة في التقرير تستندُ لوثائق من قاعدة بيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، تتبع لقانون «تسجيل الوكلاء الأجانب (فارا)»، الذي يُلزم جماعات الضغط بالإفصاح عن أنشطتها وأموالها، وكل الوثائق متاحة للتصفح على الإنترنت.
كان عام 2012 عامًا اعتياديًّا بالنسبة للبنك العربي، بنك فلسطيني أردني، حصد في أول شهوره عددًا من الجوائز التي اعتاد على الفوز بها، فقد اختير من قبل مجلَّات مالية واقتصادية عربية وأوروبية مختلفة بوصفه أفضل بنك تمويل تجاري في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واختير أفضل بنك لتمويل المشروعات والبنى التحتية في المنطقة.
لكن الجديد في ذلك العام إعلان إدارة البنك يوم 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 انتصار البنك بإسقاط دعوى مقامة ضده في محكمة فيدرالية أمريكية، رفعها ماتي جيل، مرافقٌ سابق لوزير الأمن القومي الإسرائيلي، طالبَ فيها بدعوى تعويض مالي عما لحقه من ضرر بعد تعرضه لإطلاق نار عام 2008 على الحدود بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية.
هذا النصر المهم، لم يكن سوى قمة الجبل الجليدي، فالبنك العريق الذي تأسس في القدس عام 1930، غرق لسنوات عديدة في حزمة من القضايا رفعها 500 مواطن أمريكي، و6 آلاف مواطن إسرائيلي، بدعوى تعرضهم لأضرار ناجمة عن عمليات المقاومة الفلسطينية، فما علاقة البنك بهذه القضايا؟ ولماذا يلاحقه الإسرائيليون؟
سنستعرض هنا حملة الضغط السياسية التي نفذها البنك العربي والحكومة الأردنية بكلفة 7 ملايين دولار ونتائجها.
الطريق إلى محاكم شرق نيويورك… مقاومة وقضايا تعويض بمئات الملايين
على الرغم من وعود النمو الاقتصادي التي رافقت الترويج لعملية السلام بين العرب وإسرائيل مطلع تسعينيات القرن الماضي فإن عنوان المرحلة، ومنذ عام 1993، كان انسداد الأفق السياسي الفلسطيني؛ إذ لم يتمكن الفلسطينيون من تحصيل أيٍّ من وعود النمو الاقتصادي أو التطلعات السياسية التي وعدوا بها.
وبدأت الأحداث والتطورات على الساحة الفلسطينية تأخذ منحىً صداميًّا تحديدًا منذ عام 2000، مع اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، آرييل شارون، للمسجد الأقصى؛ ما تسبب باندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وسببها الظاهر اقتحام الأقصى وأسبابها الحقيقية مرتبطة بشعور الفلسطينيين بالاختناق السياسي وغياب فرص الحياة.
وفي الأعوام الخمس اللاحقة، ارتفع معدَّل العمليات الفلسطينية بعد أن اتخذت «انتفاضة الأقصى» شكلًا مسلحًا بوصفها رد فعل فلسطيني على الاعتداءات الإسرائيلية. فقد خسر الفلسطينيون حتى 2005 عددًا كبيرًا من قياداتهم السياسية في عمليات اغتيال إسرائيلية متعددة، بدأت باغتيال الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أبو علي مصطفى، عام 2001، وانتهت بمقتل ثلاثة من أهم قيادات الشعب الفلسطيني عام 2004، فسُمِّم ياسر عرفات، واغتيل الشيخ أحمد ياسين وخَلَفُهُ في قيادة حركة حماس، عبد العزيز الرنتيسي.
هذه الاغتيالات بجانب احتلال مدينة بيت لحم، وحصار كنيسة المهد، واجتياح مخيم جنين واقتراف مجزرة بحق سكانه عام 2002، دفعت الفلسطينيين وحركاتهم المُقَاوِمة لتنفيذ عمليات فدائية في الداخل الإسرائيلي، ألحقت أضرارًا مادية وبشرية بالإسرائيليين.
وإن كانت هذه المرحلة قد انتهت بانتخاب محمود عباس رئيسًا للسلطة الوطنية الفلسطينية عام 2005، وبانسحابٍ إسرائيليٍّ أحاديّ الجانب من مستوطنات قطاع غزة. فإنها كانت فاتحة فصل مزعجٍ للبنك العربي قضائيًّا على مدار الأعوام اللاحقة حتى نهاية عام 2018.
فقد رفع مواطنون أمريكيون (500 شخص) وإسرائيليون (6 آلاف شخص) دعاوى قضائية على البنك العربي أمام المحاكم الأمريكية، مطالبين بتعويضاتٍ مالية بدعوى تضررهم أو تضرر أقاربهم من هجماتٍ فدائية تعرضوا لها في الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل إسرائيل، بدءًا من عام 1995 عمومًا وخصوصًا بين 2000- 2005.
بنيت القضية على أساس أن البنك خالف القوانين الدولية بسماحه بتحويلاتٍ مالية إلى حسابات قادة في حركتي الجهاد الإسلامي وحماس من أجل تمويل «أعمال عنف»، بحسب الدعوى.
القضية باختصار
ببساطة، هنالك قضيتان أساسيتان ضد البنك العربي، الأولى من المواطنين الأمريكيين عرفت باسم «قضية ليندي»، والأخرى من مواطنين إسرائيليين عرفت باسم «قضية جيسنر». بدأت القصة في يوليو (تموز) 2004؛ إذ رفعت دعوى قضائية ضد البنك نيابة عن الضحايا الأمريكيين للعمليات الفدائية الفلسطينية، في المحكمة الجزئية الأمريكية للمنطقة الشرقية من ولاية نيويورك.
وهي أول دعوى مدنية مرفوعة ضد البنك بموجب قانون مكافحة الإرهاب الأمريكي المعروف باسم «ATA, Anti-Terrorism Act». فقد سعى المدعون إلى تحميل البنك العربي المسؤولية عن الوفيات والإصابات الناجمة عن أعمال «الإرهاب الدولي»، في إشارة للعمليات التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية بين 2000-2004 خلال الانتفاضة الثانية. إذ كان جون ليندي، وهو متعاقد أمني أمريكي، قُتل بالقرب من معبر بيت حانون شمال قطاع غزة، بتفجير سيارته عن بعد يوم 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2003.
وبعد 10 سنوات من الدعاوى القضائية التي تضمنت طعونًا متعددة، تمكن ذوو الضحايا الأمريكيون من عرض قضيتهم على هيئة محلفين في بروكلين في شهري أغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) 2014. إذ ركزت المحاكمة الأولى على 24 هجومًا يقول المدعون إن حركة حماس مسؤولة مسؤولية مباشرة عنها. وبالطبع استفاد محامو المتضررين من تصنيف الولايات المتحدة لحركة حماس بوصفها منظمة وكيانًا إرهابيًّا في عام 1995.
المعركة الأولى: تسوية بـ100 مليون
وجدت هيئة محلفين مؤلفة من 11 شخصًا، بالإجماع، في 22 سبتمبر 2014 أن البنك العربي مسؤول عن تسهيل وتقديم خدمات مالية لحركة حماس بعلم مسبق، والرابط: أن لأفراد ومؤسسات من الحركة حسابات مصرفية بالبنك.
اتهم المدعون البنك العربي بتعمد تمويل «الإرهاب» بما في ذلك العمليات الفدائية والهجمات الأخرى. وقالوا إن البنك استخدم فرعه في نيويورك لتحويل الأموال التي ساعدت حماس، وغيرها من الجماعات الفلسطينية المقاومة الإسلامية، في تمويل الهجمات ومكافأة عائلات منفذي العمليات، أو ما يعرف ببرامج دعم عوائل الشهداء والأسرى بين أعوام 1995-2005.
وأشارت تقارير صحفية عدة إلى أن الطرفين وبموجب شروط تسوية سرية حلَّا القضية بالكامل، وتقدَّر التسوية بحدود 100 مليون دولار ستدفع لـ579 من قتلى عمليات المقاومة أو أقاربهم.
نجاح أصحاب الدعوى الأمريكيين في مقاضاة البنك العربي في المحاكم الأمريكية شجَّع قرابة 6 آلاف مواطن وعائلة إسرائيلية على رفع دعوى مشابهة ضد البنك في المحكمة نفسها. وقد عُرفت القضية الثانية باسم المدَّعي الرئيسي فيها، وهو جوزيف جيسنر، الذي قُتل ابنه –بريطاني الجنسية– عن عمر 19 عامًا في تفجير لحافلة في تل أبيب عام 2002.
استند المدَّعون في هذه القضية إلى جزء من قانون باسم «التعويض عن الفعل الضار للأجانب – (Alien Tort Statute (ATS»، وأصل القانون يعود لعام 1789، ويسمح لغير الأمريكيين برفع دعاوى قضائية في المحاكم الفيدرالية الأمريكية. يُعتقد أن القانون تاريخيًّا قد وضع بهدف مساعدة الأجانب، خصوصًا الدبلوماسيين والتجار، المقيمين على أراضي الولايات المتحدة لينتصفوا قانونيًّا في حال تعرضهم لانتهاكات. وجاء القانون نتيجةً لأحداث سياسية وقعت في أمريكا، مثل الاعتداء على دبلوماسيٍّ فرنسي عام 1784، فاستصدر الكونجرس الأمريكي القانون الذي بين أيدينا. إلا أن القانون منذ ذلك العام وحتى عام 1980 لم يستخدم سوى في حالتين، وهو القانون الذي حاول محامو المدعين الإسرائيليين تفعيله ضد البنك العربي.
ولكن الإسرائيليين ومحاميهم فشلوا تمامًا في إدانة البنك العربي. فقد أصدرت المحكمة العليا الأمريكية بتاريخ 24 أبريل (نيسان) 2018 قرارها برد دعاوى المدعين الأجانب –غير الأمريكيين- المقامة ضد البنك في الولايات المتحدة الأمريكية. وجاء هذا القرار تأييدًا لقرارات سابقة من محكمتي الاستئناف والمقاطعة الأمريكيتين برد هذه الدعاوى، مؤكدًا أنه لا يمكن مقاضاة الشركات الأجنبية أمام المحاكم الأمريكية بموجب قانون التعويض عن الفعل الضار للأجانب.
وكسب البنك الدعاوى المقامة ضده في نيويورك من قبل المدعين الأمريكيين حين أصدرت محكمة الاستئناف الأمريكية بتاريخ 9 فبراير (شباط) 2018 قرارها بفسخ قرار المسؤولية المدنية (الصادر ضد البنك) وإغلاق ملف تلك الدعاوى أيضًا.
حملة أردنية لحسم القضية
أرَّقت القضايا التي رفعت ضد البنك العربي الدوائر السياسية الأردنية العليا. فالبنك العربي الذي يتخذ من عمَّان مقرًّا رئيسًا له، ليس مؤسسة مصرفية عادية مثل باقي المؤسسات، وإنما هو ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية في المنطقة عامة والأردن خاصة. وهو لاعب رئيسي في الأنشطة الاقتصادية في الأردن بكل جوانبها، وهو كما وصفه الاقتصادي الأردني، سلامة الدرعاوي، «عنصر أساسي لاستقرار الاقتصاد الوطني الأردني، والمؤسسة الأكبر في المسؤولية الاجتماعية، والمُساهم الإستراتيجي الأهم في غالبية المشروعات الحيوية في الدولة، وهو ذراع تنموية واستثمارية ضاربة في جذور القطاعات المختلفة في الاقتصاد الأردني».
فالبنك العربي بحسب درعاوي يساهم بما يقارب 23% من الناتج المحلي الإجمالي الأردني. وله قرابة 35% من مجمل الأسهم المتداولة في سوق بورصة عَمّان، كما أنه مؤسسة مصرفية يشترك في رأسمالها عدد من المستثمرين المحليين والعرب والأجانب تحت مظلَّة واحدة. فقد كانت مؤسسة الضمان الاجتماعي الأردني، وشركة «سعودي أوجيه المحدودة»، «وأوجيه الشرق الأوسط القابضة» من أكبر المساهمين فيه عام 2010، بحسب وثيقة تسجيل نشاطات الأجانب في وزارة العدل الأمريكية.
لكل هذه الأسباب، تعاونت الحكومة الأردنية مع البنك في ملف القضايا المرفوعة ضده. وفي بداية عام 2010، استعان البنك العربي عن طريق السفارة الأردنية بواشنطن بشركة «وايت آند كيس»، وهي شركة محاماة دولية وعلاقات عامة تخدم الشركات والحكومات والمؤسسات المالية في مساحات واسعة مختلفة مثل مكافحة الاحتكار، والملكية الفكرية، والعمالة والضرائب، وقانون الخصوصية. ولها فروع حول العالم في: أمريكا اللاتينية، وأوروبا، والشرق الأوسط، في دول: مصر، وقطر، والسعودية، والإمارات، وإسرائيل.
ثم استعان البنك بشركة «هوجين لوفيلز» في 2013، وهي شركة محاماة وضغط سياسي أمريكية بريطانية تأسست عام 2010، لها مقر في واشنطن العاصمة وآخر في العاصمة البريطانية لندن.
اعتمدت إستراتيجية البنك مدعومًا بالسفارة الأردنية في واشنطن على شركتي محاماة وضغط سياسي. فإلى جانب الجهد القضائي الذي تكفلت به شركة «وايت آند كيس – White & Case»، ضغطت شركة «هوجان لوفيلز – Hogan Lovells» على أجهزة مختلفة في الإدارة الأمريكية. فقد قدمت عامي 2013 و2014 ما يعرف بـ«Amicus curiae» للمحكمة الفيدرالية. وهو عبارة عن رأي قانوني ومعلومات بخصوص القضية المطروحة أمام المحكمة، يقدمها طرف ثالث من غير المتقاضين.
أوضحت المذكرة الأهمية السياسية والأمنية والإستراتيجية للأردن والبنك العربي بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية، وحربها على «الإرهاب». وأوضحت المذكرتان بعض جوانب القصور القانونية في الحكم الأول ضد البنك، وبيَّنت كذلك مدى خطورة اتخاذ قرار ضد البنك على الاستقرار الاقتصادي للأردن ودول الجوار؛ إذ يعد البنك أهم مؤسسة مالية في المنطقة، ولم يزل البنك يكرر الإعلان عن التزامه بالتقييد بالتعليمات المصرفية العالمية في مكافحة تمويل «الإرهاب». ما يتفق مع ما وصفته به الحكومة الأمريكية بأنه «شريك فعّال في جهود منع تمويل الإرهاب، إلى جانب الدور الحيوي المتواصل في منطقة الشرق الأوسط على صعيد دفع عجلة التنمية الاقتصادية، وتطوير الصناعة المالية والمصرفية فيه».
نصر للبنك العربي
استطاع البنك العربي والسفارة الأردنية، وعدد من السفراء الذين تعاقبوا على إدارة البيت الأردني في واشنطن، تجاوز واحدة من أقسى محن التقاضي بمزاعم تمويل «الإرهاب». وقد كشفت وثائق منشورة على قاعدة بيانات «فارا» التابعة لوزارة العدل الأمريكية عن أن السفارة الأردنية أنفقت أكثر من 7 ملايين و446 ألف دولار نظيرًا لخدمات الشركتين، ومقابل خدمات ضغط سياسي لم يأت ذكرها بالتفصيل في الوثائق المذكورة.
بعد الجولة الأولى من المرافعات أمام المحكمة كان البنك العربي على وشك عقد تسوية مع المدَّعين بقيمة مليار دولار في أواخر عام 2013، إلا أن البنك وبعد استعانته بشركة «لوفيلز» عام 2014 استأنف القرار لينجح بعد تنفيذ حملة ضغط سياسي بإسقاط جميع الدعاوى الموجهة ضده، في عام 2018.
فقد رفض القضاة تمديد العمل بقانون عام 1789 الذي استند إليه المدَّعون، وذلك «خوفًا من إثارة توتر دبلوماسي»؛ إذ صوَّت خمسة قضاة لصالح القرار مقابل أربعة عارضوه. ووجدوا أن الصلة بين الهجمات محل النظر في القضية والسلوك المزعوم للبنك العربي في الولايات المتحدة محدودة نسبيًّا.
ورغم الانتصار الساحق للبنك العربي على دعاوى خصومه، فإنه يبدو أن الإسرائيليين لم يستسلموا بعد. فقد أوردت إحدى الصحف الإسرائيلية أن قرابة 1130 إسرائيليًّا ينوون مقاضاة البنك العربي في المحاكم الإسرائيلية بعد فشلهم في المحاكم الأمريكية. ما ينذر بفصلٍ جديد من المواجهات بين الطرفين في قادم السنين.
هذا التقرير جزءٌ من مشروع «الحج إلى واشنطن»، لقراءة المزيد عن «لوبيات» الشرق الأوسط اضغط هنا.