رغم مساومات ترامب: الاتفاق النووي وُجد ليبقى
في قاعة استقبال الدبلوماسيين بالبيت الأبيض، وتحت صورة «جورج واشنطن»، أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية،أعلن الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» يوم الجمعة الماضي قراره بعدم التصديق على الصفقة النووية مع إيران، مُهددا بإلغاء الصفقة تماما إذا لم يتم تعديلها لمنع طهران بشكل قاطع من امتلاك سلاح نووي في المستقبل، وكذا وقف تطوير برنامجها الصاروخي.
يأتي هذا القرار بعدم التصديق على الاتفاق النووي ليحيل الأمر برمته إلى الكونجرس، ليصبح الكونجرس الأمريكي أمام خيار بفرض عقوبات جديدة على طهران لعدم التزامها بالاتفاقية، وبالتالي نسف الاتفاقية برمتها.. فهل هذا ما يريده ترامب؟
ما يريده ترامب من الكونجرس هنا أن يمرر تشريعًا لصنع ما أسماه هو «نقاط تحفيز» لتفعيل العقوبات تلقائيا على طهران في حال خرقها الشروط الجديدة التي وضعها ترامب في خطابه والمتعلقة بأنشطة طهران التوسعية في المنطقة وبرنامجها للصواريخ الباليستية.
لم يتأخر ترامب كثيرًا عن وعوده الانتخابية إذن، يمكننا أن نتذكر جميعًا كيف وصف ترامب الاتفاق النووي بـ «الكارثة»، وفقًا لتعبيره، وكذلك بأنه «أسوأ صفقة على الإطلاق». وفي لقاء له مع الأيباك AIPAC (اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة) إبان حملته الانتخابية، قال ترامب إن أولويته الأولى ستكون «تفكيك الصفقة الكارثية مع إيران»، فهل يرغب ترامب حقا في تفكيك الاتفاق النووي؟ ولماذا؟ وما تبعات هذه الخطوة على إيران وأمن المنطقة؟
ما قبل الاتفاق النووي
لكي يمكننا فهم دوافع العالم الغربي في السعي نحو اتفاق نووي مع طهران، علينا أولا أن نعود بالتاريخ إلى الفترة التي سبقت توقيع الاتفاق، وتحديدًا ما قبل العام 2013، وهو العام الذي جمدت فيه طهران أنشطتها النووية. كيف كان شكل العالم وقتها؟ وما حجم المخاطر التي واجهها العالم العربي والغربي معا؟ هذا لكي نفهم حدود الإنجاز الذي حققته الصفقة مع إيران.
كان السؤال الرئيسي حينها والذي يواجهه الرئيس الأمريكي هو: هل يقبل أن يعيش مع سلاح نووي في طهران، أم أن عليه أن يتجه نحو خيار عسكري؟
لم يكن هذا سؤالا نظريًا حينها. ففي العام 2013، كان لدى إيران ما يكفي من اليورانيوم المخصب لبناء ما يتراوح بين 6 و8 قنابل نووية، ولو أن إيران وقتها اختارت أن تزيل كل القيود المفروضة عليها من المجتمع الدولي، كان يمكنها أن تبني القنبلة النووية في فترة من شهر إلى اثنين تقريبًا.
وكان الموقف الدولي معقدًا حينها. فبوجود «علي خامنئي» كمرشد عام، والرئيس الإيراني السابق «محمود أحمدي نجاد»، كان التفاوض مع الإيرانيين أمرًا صعبًا. ولو أن إيران وقتها استطاعت امتلاك سلاح نووي، فإن هذا كان ليضاعف من أزمات الإقليم، ويضاعف فرض إيران الهيمنة على المنطقة، ويجعل إمكانية إخضاعها أمرًا مستحيلا.
كان أمام الرئيس الأمريكي إذن خيار من اثنين: الأول هو توجيه ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية، وهي ضربة كانت ستؤدي إلى تأخير برنامج إيران النووي عدة أشهر على أقصى تقدير، لكنها لم تكن لتؤثر على حجم المعرفة التي تمتلكها إيران عن السلاح النووي وإمكانية تطويره. بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت ضربة كتلك لتشعل حربا إقليمية في المنطقة، ما يعني تورطًا أمريكيًا جديدًا في الشرق الأوسط قد يدوم لسنوات حينها.
الخيار الثاني كان أن يتقبل الرئيس الأمريكي حقيقة أن إيران أصبح بحوزتها سلاح نووي، وكان هذا خيارا مستحيلا حقيقة، فيمكن لإيران حينها وبدون محفز خارجي أن تقرر قصف إسرائيل مثلا أو أن تهدد في حال نشوب حرب بين إسرائيل وحزب الله بضرب إسرائيل نوويًا إذا لم توقف إسرائيل الحرب. كان هذا خيارًا آخر كارثيًا، وكان سيؤدي من جانب آخر إلى إشعال سباق تسلح نووي في المنطقة، لتصبح إسرائيل محاصرة بعدة دول نووية في آن واحد؛ بعضها صديق.. نعم، لكنه لن يكون صديقًا إلى الأبد.
ضمنت الصفقة إذن خلو الشرق الأوسط من سلاح نووي لمدة عشرة أعوام على الأقل؛ فلماذا يرغب ترامب في تدميرها؟
لماذا يكره ترامب الاتفاق النووي؟
بعقلية تجارية تهيمن عليه يرى ترامب أن من غير المرضي الموافقة على صفقة يمكن التفاوض على ما هو أفضل منها.
يرى ترامب أن الاتفاق النووي كان «خط حياة» لإيران، وفقًا لتعبيره، حيث أعطاها دفعة اقتصادية أنقذت النظام الإيراني من الانهيار، كما منح الاتفاق النووي طهران ما يربو على مائة مليار دولار وفقًا لتعبير ترامب، وسمح لها بالاستمرار في ممارسة أنشطتها الإرهابية في المنطقة ودعم جماعات مثل حزب الله وتهديد أمن إسرائيل.
هذا، وفي خلال عدة سنوات من الآن، سترفع القيود النووية عن طهران، ما يمكنها من الإسراع في برنامجها النووي. في النهاية، يرى ترامب أن الاتفاق مع طهران لم يقم إلا بتأخير سيْر إيران نحو القنبلة الذرية، بينما أعطى أنشطتها الأخرى دفعة حيوية تهدد بها أمن أمريكا وإسرائيل وحلفائهما في المنطقة.
عجز ترامب حقيقة عن تقديم دليل واحد يؤكد عدم التزام إيران بالاتفاق النووي، ولكن ما قاله هو أن إيران «لم تلتزم بروح الاتفاق»، والمعنى هنا لا يمكن تفسيره إلا على محمل واحد، وهو أن ترامب لا يرضى أصلا عن الصفقة النووية، ولم يصدّق عليها هذه المرة ليس لخروقات قامت بها طهران، ولكن رغبة منه في إجبار طهران على إعادة التفاوض حول شروط الصفقة.
ولكي يدفعها إلى ذلك قدم ترامب ما أسماه بـ «الاستراتيجية الجديدة نحو طهران»، وهي تتضمن مجابهة أنشطة طهران الإرهابية في المنطقة، وفرض مزيد من العقوبات المالية على النظام الإيراني، وتحديدًا على الحرس الثوري الإيراني وأكبر رموزه، وقطع الطريق على طهران نحو تطوير منظومتها الباليستية وكذا طريقها نحو سلاح نووي.
ورغم كل ما ذكرناه، وكل ما قاله ترامب فإنه لم يُقدِم على نسف الاتفاق النووي، كما قام في خلال الشهور السابقة بالتصديق على الاتفاقية مرتين، حيث يفرض القانون الأمريكي أن يتم التصديق على الاتفاقية كل 90 يومًا من طرف الرئيس أو من ينوب عنه، فلماذا لم يقدم ترامب على نسف الاتفاق النووي بدلا من إحالته للكونجرس؟
محاولة فهم دوافع ترامب أمر صعب جدا، لكن يمكننا أن نفترض الآتي: رغم كره ترامب الشديد للاتفاقية وما تمثله فإنه يواجه وحده إجماعًا من البنتاجون ووزارة الخارجية على مضمون الاتفاق النووي وكونه الخيار الأفضل لأمريكا، لذا كان خيار عدم التصديق على الاتفاقية هو الحل الوسط، فبهذا الخيار ألقى ترامب الكرة في ملعب الكونجرس، ويمكنه في أي وقت أن يلوم الكونجرس على التساهل في أمر إيران بدلا من أن يحنث هو بوعوده الانتخابية.
لا ننسى هنا أن نشير إلى أن معظم العقوبات التي سيتم فرضها على النظام الإيراني تخص الحرس الثوري تحديدا، إلا أن ترامب لم يضع الحرس الثوري الإيراني ضمن قائمة الجماعات الإرهابية.
التردد الأمريكي
يحمل العزف المنفرد للرئيس الأمريكي رسالة، لا لإيران تحديدا، ولكن للكونجرس أولا، ولحلفاء أمريكا الأوروبيين ثانيًا. فاستراتيجية الرئيس الأمريكي تهدف إلى التهديد بأسوأ الخيارات التي لا يريدها أحد إطلاقًا، لا إيران ولا المجتمع الدولي، لإجبار الجميع على التوجه نحو ما يريده ترامب، وهو المزيد من الضغوط على أنشطة إيران غير النووية والتفاوض على تعديل شروط الاتفاق النووي، وليس نسفه تمامًا.
وفي ردود الفعل الأمريكية،صرّح «ريكس تيلرسون» وزير الخارجية الأمريكي بأنه «لا يطلب من الكونجرس إعادة فرض العقوبات على طهران لأن هذا سيعني خروج أمريكا من الاتفاق النووي».
أما داخل الكونجرس الأمريكي، فقد صرح السيناتور «بوب كروكر»K والسيناتور «توم كوتون» (كلاهما من الحزب الجمهوري) بأنهما قد أعدّا تشريعًا يهدف لمعالجة ما رأوه نقصا في الاتفاق النووي، وقالا إنه إذا تم تمرير المشروع داخل الكونجرس فإنه سيؤدي إلى فرض رقابة مكثفة وتجديد تلقائي للعقوبات إذا ثبت أن إيران على بعد سنة واحدة من الحصول على سلاح نووي.
أما السيناتور الجمهوري تيد كروز فقال إنه يؤيد رفض ترامب التصديق على الاتفاقية، ويرى أنه لابد من إعادة فرض العقوبات على طهران. ولكن من ناحية أخرى، يبدو أن الضبابية تخيم على موقف الكونجرس الأمريكي، حيث قال رئيس الأغلبية الجمهورية بالكونجرس إنه «لا يعرف ما الذي سيفعله»، ويمكننا أن نقرأ نفس الضبابية في موقف معظم النواب الجمهوريين.
أما الحزب الديمقراطي الذي شهد انقسامات سابقًا حول رفض الاتفاقية أو تأييدها، فيؤيد غالبية أعضائه الإبقاء على الاتفاق النووي كما هو، حيث قال السيناتور «تشاك شمر»، رئيس الأقلية بمجلس الشيوخ، إنه يؤيد بقاء الاتفاقية كما هي مع بذل الجهود لمحاصرة أنشطة إيران الباليستية.
العزف الأمريكي.. نشاز
أما الجانب الأوروبي، فلا يبدو قادرًا على استيعاب الخطوة الأمريكية الأخيرة، حيث قال الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» إن باريس والاتحاد الأوروبي «يدافعان عن الاتفاق النووي بقوة»، وفي اتصال مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، قال ماكرون إن سياسات البيت الأبيض حيال الاتفاق النووي «ناتجة عن خلافات واشنطن الداخلية».
وقد علقت مسئولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني أيضًا على خطاب ترامب قائلة إنه «لا يحق لأي دولة إنهاء اتفاق إيران النووي»، وأضافت موغيريني أنه «لا سلطة لدى ترامب لإلغاء الاتفاق النووي».
أما روسيا، فقد شدّدت من جهتها على ضرورة التزام الأطراف كافة بالاتفاق حول البرنامج النووي، ومواصلة العمل على تنفيذ الاتفاق في صيغته التي تمت المصادقة عليها من قبل مجلس الأمن الدولي.
تدل تلك المواقف على أن إعادة التفاوض حول الاتفاق النووي تبدو أمرًا مستبعدًا للغاية لن تقبل به إيران، ولن يسعى إليه المجتمع الدولي لما يحمله من خطر تفجير الاتفاقية تماما، خاصة أن كل تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية تفيد بالتزام إيران الصارم تجاه الاتفاق النووي.
القلق الإيراني
فيما يخص طهران، فيبدو أن الصفقة في المدى المنظور تحقق أفضل مصلحة اقتصادية وعسكرية لإيران. فمن الناحية العسكرية، ورغم كبح الصفقة للمسار النووي الإيراني، فإنها أطلقت يد إيران في الإقليم لتدعم بشار الأسد في سوريا، وتحارب المملكة العربية السعودية في اليمن، وتمد حزب الله بالمزيد من السلاح والتدريب.
ومن الناحية الاقتصادية، ورغم الثقة التي تحاول إيران أن تضفيها على مغامراتها الخارجية، فإن إيران تواجه مشكلة اقتصادية عميقة في الداخل، حيث ترتفع معدلات البطالة بين الشباب الإيراني، وينتشر الفساد الذي يؤثر بالسلب على فرص الاستثمار، مع سيطرة الحرس الثوري على العديد من فرص الاستثمار في البلاد، وخاصة في مجالات المال والبناء والاتصالات للدرجة التي أوصلت الرئيس الإيراني «حسن روحاني» إلى الشكوى من تغول الحرس الثوري في الاقتصاد.
كل هذا وغيره يعني أن بيئة الاستثمار في إيران تصبغ بعدم الثقة، لذا فـإيران أكثر من الكل بحاجة ليس إلى الاتفاق النووي وحده ولكن إلى استقراره وضمان استمراريته لخلق بيئة استثمارية مشجعة، وفي ذلك قال الرئيس الإيراني حسن روحاني: «إن إيران ستظل ملتزمة بالاتفاق النووي ما دام يخدم مصالحها».
ومن المتوقع أن يؤدي الضغط الذي يقوم به ترامب إلى حرص إيران على عدم خرق القيود الموقعة على نشاطها النووي من ناحية، ومن ناحية أخرى التغطية على أنشطتها التوسعية في الإقليم، وهذا يبدو أمرا مستحسنا بالطبع.