رغم وباء كورونا: أحلام الهيمنة الصينية ما زالت بعيدة
منذ أن ظهرت أزمة فيروس كورونا المستجد تعالت صيحات البعض ما بين واصفٍ لها كمؤامرة من الصين على الولايات المتحدة الأمريكية، وآخر يرى العكس، معتبرًا إياها مؤامرة من الولايات المتحدة على الصين لتخفيف حدة وسرعة تقدمها على المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وكبح جماح ذلك التنين الذي انفلت من عِقاله على حين غرّةٍ مفاجئًا الغرب، معززًا تقدمه ذلك معدلاتُ نمو مرتفعة تتجاوز 6% سنويًا.
وتدور احتمالات فيروس كورونا المستجد حول ثلاث: الأول، أنها حرب بيولوجية من الولايات المتحدة لإثناء الصين عن تقدمها المحسوس عالميًا. وهذا الطرح مستعبد، لأن فيروس كورونا أصبح فعليًا موجودًا في الولايات المتحدة وفي القلب منها نيويورك أعظم مراكزها الاقتصادية والسياسية، فوفقًا لآخر الإحصاءات التي تُوافينا بها (Johns Hopkins University (JHU، فقد اعتلت الولايات المتحدة المركز الأول عالميًا من حيث عدد المصابين بالفيروس، بإجمالي إصابات يقترب من مليون حالة، وعدد وفيات يتجاوز 50 ألف حالة. [1]
علاوة على ذلك، طال هذا الفيروس أوروبا، الحليف التاريخي للولايات المتحدة والمكون المهم ضمن حلف الناتو، وأحدث خسائر في الأرواح فاقت ما لدى الصين نفسها كمستهدف من الحرب البيولوجية المزعومة.
ومما يدحض هذا الطرح أيضًا، أنه إذا ما تضررت الصين فهذا لا شك سيسبب أضرارًا كبيرة بالاقتصاد الأمريكي، نظرًا للاعتمادية الكبيرة بين الاقتصادات الكبرى فيما يخص حركة رؤوس الأموال وتمويل عجز الموازنة الأمريكية؛ إذ تُعد الصين أكبر مشترِ لسندات الخزانة الأمريكية، وكذلك فيما يتعلق بسلاسل إمدادات السلع الوسيطة التي تتطلبها آلة الإنتاج الأمريكية؛ حيث تُعد الولايات المتحدة أكبر الشركاء التجاريين للصين. تشير آخر إحصاءات مركز التجارة الدولية (International Trade Center (ITC إلى أن حجم الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة بمفردها يبلغ 418.6 مليار دولار (16.8% من إجمالي الصادرات الصينية)[2].
أما الاحتمال الثاني، أنه فيروس مُخلّق في معامل صينية في إطار مشروع قومي لتطوير أسلحة بيولوجية، وأنه تسرب خارج معاملهم. هذا احتمال وارد، فأسلحة الحرب البيولوجية يجري تطويرها على مستوى العالم. لكن من المنطق ألّا تُطور دولةٌ مثل هذا السلاح إلا وطورت بالتوازي معه مصلاً مضاداً يوقف تأثيره العكسي عليها إذا ما حدث وانقلب السحر على الساحر.
كما أنه لا يوجد منطق يقول بأن تضحي الصين بما يجاوز 4600 من مواطنيها وإصابة ما يزيد على 83800 حالة[3] – وتلك الأرقام مُرشحة للزيادة – فضلًا عن أنها خلال فترة هذه الأزمة قد عانت هي الأخرى، كغيرها، وستعاني على الأقل في المستقبل القريب من خسائر اقتصادية تقدر بمليارات الدولارات، وهناك توقعات بانخفاض كبير في معدل نمو اقتصادها، على الأقل خلال النصف الأول من عام 2020.
أضف إلى ذلك أنه باستشراء هذا الفيروس في الولايات المتحدة وأوروبا، فقد انخفض طلب العالم الخارجي على الصادرات الصينية بشكل ملحوظ، بما يعزز تباطؤ النمو الاقتصادي الصيني المدفوع، في شق كبير منه، بالصادرات[4].
أما الاحتمال الثالث – وهذا هو الأرجح – أن انتشار هذا الفيروس يؤول إلى ما تتصف به البيئة الصينية من تنوع ضخم من الكائنات الحية، التي تعيش على أرضها جنبًا إلى جنب مع البشر في مزارع خاصة، ولما يتعلق بعادات وأنواع الأكل الصيني التي ترى أن كل الكائنات على كوكب الأرض – عدا الإنسان – تُعد محل تناولٍ كطعام، واستخدامهم لتلك الحيوانات ضمن ما يعرف بالطب الصيني القديم واعتقاد كثيرٍ منهم بأن تناولها يدعم فحولتهم.
يعزز الاحتمال الثالث تاريخُ الصينيين القديم والحديث المرتبط بظهور كثير من الفيروسات والأوبئة.
اختلال ميزان القوى لصالح الصين
في سياق الحديث عن إمكانية فقدان الولايات المتحدة الأمريكية سيطرتها كليةً على قيادة دفة الاقتصاد والسياسة العالمية أو جزء منها لصالح الصين بسبب فيروس كورونا، فليس الأمر بهذه السهولة. إذ إن تربّع الولايات المتحدة على عرشهما قد بدأ يتخذ زخمًا فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، واكتمل بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ضمن العوامل التي أسهمت في ذلك، عدم اشتراك الولايات المتحدة بقوةٍ في حروب خارج أراضيها ما قبل الحرب العالمية الأولى، كما لم تُقصف أراضيها بشكل مباشر – وفي خِضم حربٍ – في العصر الحديث إلا مرة واحدة عندما قصف اليابانيون القاعدة العسكرية الأمريكية في ميناء بيرل هاربر في أواخر عام 1941. وبالتالي لم تُستنزف قواها، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية تنفرد الولايات المتحدة بهيمنة واضحة على دفة الاقتصاد والسياسة الدوليتين.
ولا نستطيع القول بأن الولايات المتحدة الآن – وبسبب هذا الفيروس – سوف تفقد سيطرتها كليّةً على مجريات الأمور عالميًا، فهذه السيطرة – وإن شهدت خفوتًا نوعًا ما – ما زالت تُدعَم بإمكانات عسكرية واقتصادية وتحالفات عالمية قوية وعملة عالمية (الدولار) يُسعَر بها معظم السلع والخدمات المباعة عالميًا وعلى رأسها النفط، كما أن لها سيطرة عظمى على النظام المالي الدولي، وتتميز بتقدم كبير في المجالات العلمية؛ فبها أكبر وأعظم جامعات ومراكز أبحاث العالم، وأعظم بورصاته وأضخم الشركات دولية النشاط المنتشرة به. علاوة على ذلك، فلها قدرة كبيرة على تحريك رؤوس الأموال، وغيرها من العوامل التي تكسبها قوة وزخمًا مقارنة بنظرائها من روس وصينيين.
يمكن في هذا السياق، سرد بعض الأرقام الدالّة على السيطرة الأمريكية عالميًا. ففي المجال العسكري، ووفقًا لمؤشر Global Firepower (GFP) Index، تأتي الولايات المتحدة في المركز الأول عالميًا، بينما تأتي روسيا في المركز الثاني وتلحق بهم الصين ثالثًا. ومن حيث حجم الإنفاق العسكري، تقدر ميزانية الدفاع للولايات المتحدة بـ750 مليار دولار، بينما تقدر نظيرتها الصينية بــ237 مليار دولار، في حين تقدر ميزانية الدفاع الروسية بــ48 مليار دولار.
ولا ينبغي في هذا السياق تجاهل دور التحالفات الدولية القائمة بين كل من الولايات المتحدة وأعضاء حلف الناتو، وكذلك القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط، وسيطرة الولايات المتحدة على قرارات منظمة أوبك OPEC لكبار مصدري النفط، بما يشكل عقبة أمام الروس، وكذلك العلاقات القوية بينها وبين كلٍ من اليابان وكوريا الجنوبية بما يشكل تطويقًا للتنين الصيني[5].
وعلى الصعيد الاقتصادي، فوفقًا لقاعدة بيانات البنك الدولي World Development Indicators، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي (GDP) بالأسعار الجارية للولايات المتحدة حاليًا 21.4 تريليون دولار (24.8% من حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي)، في حين يبلغ نظيره الصيني 14.1 تريليون دولار (16.3%)، بينما يبلغ نظيرهما الروسي 1.64 تريليون دولار (1.9%). وعن سيطرة الدولار الأمريكي على وسائل الدفع العالمية، فوفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي International Monetary Fund (IMF)، واعتبارًا من أغسطس 2019، يحتل الدولار الأمريكي، كعملة ارتكاز دولية (وسيلة دفع عالمية)، المركز الأول (42.52%)، يليه اليورو (32.06%)، والجنيه الإسترليني (6.21%)، والين الياباني (3.61%)، بينما يحل اليوان (الرينمنبي) الصيني خامسًا بحصةٍ سوقية بلغت (2.22%).
علاوة على ذلك يمثل الدولار حاليًا نحو 60% -65% من إجمالي احتياطيات العملات الدولية لدى البنوك المركزية، في حين مثلت حصة اليورو نحو 20% والرينمنبي الصيني نحو 2%. كما يحظى الدولار بمكانة كبيرة في حركة التداولات التي تتم في الأسواق العالمية، إذ يُستخدم في نحو 90% من حجم العقود التجارية عالميًا، ويمثل 87% من إجمالي حجم تعاملات البورصات العالمية. من جهة ثانية، يُعد الدولار العملة الرئيسية التي تتم على أساسها عمليات تداول السلع الاستراتيجية على مستوى العالم وعلى رأسها النفط. كما يمثل الدولار ما نسبته 41.73% من الوزن النسبي لسلة العملات الحالية المكونة لحقوق السحب الخاصة Special Drawing Rights (SDR) [6] في حين تبلغ نسبة الرينمنبي الصيني 10.92%.
أما بالنسبة للصين، فعلى الرغم من قوتها المتزايدة على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، ما زالت الفجوة بين الولايات المتحدة وبينها متسعة نوعًا ما. فالأرقام والمؤشرات المبينة أعلاه تُظهر بوضوح تلك الفجوة – وإن شهدت تقاربًا وضيقًا بمرور الوقت في السنوات الأخيرة.
ومن ثم فليست الصين بعدُ مستعدة لتحمل تكلفة ريادة العالم. نعم هي متطورة عسكريًا، لكن هناك فرق في كمية وكذلك نوعية التسليح ما بين الاقتصادين، وهناك فرق آخر في ما لدى كل منهما من كم ونوع التحالفات الدولية، وفرق ثالث في حجم الناتج المحلي الإجمالي كمًا ونوعًا وجودةً، يحتاج من الصينيين وقتًا أطول من الجهد المستمر لسد فجوته تلك[7].
خلاصة القول، أن هناك استفحالاً نسبياً مُلاحَظاً في السنوات الأخيرة لقوة الصين على حساب نظرائها الدوليين، لكن ما زال الوقت مبكرًا للقول بتلاشي قبضة الأمريكان على النظام العالمي وحلول الصينيين بديلًا عنهم. فرغم ما شهدته القوة الأمريكية من تضاؤل واضح وانسحاب جزئي من الشرق الأوسط والتقوقع نسبيًا داخل حدودها، لصالح كلٍ من روسيا والصين، فإنها ما زالت الأقوى والأكثر هيمنةً على الصعيد الدولي.
لن تخرج الولايات المتحدة مهما حدث – تحت تداعيات هذا الفيروس – بحالةٍ مماثلة لحالة بريطانيا وألمانيا وإيطاليا واليابان وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، خاصةً إذا أخذنا بالاعتبار أن التأثير العالمي لهذا الفيروس منصبٌ على كل دول العالم ومنها بالتأكيد الاقتصاد الصيني.
ربما يحدث مستقبلاً تغيرٌ طفيف – وهذا مستبعد نوعًا ما في الأجل المنظور – في تعامل دول أوروبا مع بعضها البعض من جانب وفي تعاملها مع الولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر بعد انتهاء الأزمة وتوجه بعض الدول الأوروبية المتضررة من هذا الفيروس – والتي لم تجد عونًا إلا من الصين – نحو الصين.
ومما يحجّم زخم هذا التحول، أنه ليس مجرد مجموعة من ملايين الكمامات والمعدات وكذلك الطواقم الطبية التي أرسلتها وترسلها الصين للدول الأوروبية المتضررة بكافيةٍ لتُحدث تحولًا حقيقيًا محسوسًا للأوروبيين نحو الصين. فالشركات دولية النشاط التي يتركز أعظمها من حيث القيمة السوقية في الولايات المتحدة الأمريكية لها كلمةٌ عُليا في هذا الشأن، والشعوب – شاءت أم أبت – خاضعة بشكل ما للمنظومة الرأسمالية المرنة، والتي أثبتت قدرة كبيرة – بغض النظر عن تقييم آليات تلك القدرة – على احتواء الأزمات التي عصفت بالنظام الرأسمالي العالمي.
يُضاف إلى ذلك أن الاختلافات بين توجهات حكام تلك الدول الأوروبية لا تعدو أن تكون مجرد تحول ما بين يمين الوسط واليمين الشعبوي وربما يسار الوسط.
- تعبر هذه الأرقام عن الوضع السائد عند كتابة هذه السطور، وهي بكل تأكيد مرشحة للزيادة في ظل الانتشار الواسع والمتسارع عالميًا لفيروس كورونا المستجد.
- هناك فرق كبير بين القول بأن الصين هي صانع الفيروس لاستهداف نظرائها الغربيين، والقول بأنها تحاول الاستفادة من تفشي هذا الوباء سياسيًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا.
- وفقًا للأرقام الرسمية المعلنة.
- أما عن احتمالات أن يعوض توجه الصين للداخل (محليًا) ما سينتج عن انخفاض الطلب الخارجي على صادراتها، فما زالت معدلات الفقر الموجودة بالصين وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم الدخل القومي تشكل عائقًا أمام تحقيق معدلات النمو الاقتصادي للصين مقارنة بتلك المتحققة من التوجه للخارج (التصدير).
- تجاهلنا هنا الحديث عن القوى النووية لأسباب يأتي على رأسها امتلاك كل من الولايات المتحدة – وحلفائها من انجليز وفرنسيين وإسرائيليين – وروسيا والصين لتلك الأسلحة وكذلك الصواريخ الباليستية حاملة الرؤوس النووية عابرة القارات، والتي تعد أسلحة ردع لا استخدام؛ فاستخدامها لن يسفر إلا عن دمارٍ للكوكب.
- عبارة عن أصل احتياطي دولي تكميلي أنشأه صندوق النقد الدولي عام 1969 كعملة خاصة به؛ لمجاراة التوسع المتزايد في حجم التجارة الدولية. ويمكن للصندوق تخصيص هذا الأصل للدول الأعضاء بصفة دورية عند الحاجة.
- ما زالت معدلات الفقر في الصين مرتفعة نوعاً ما في كثير من مناطقها الجغرافية، كما ينخفض كثيرًا متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بها، فوفقاً لقاعدة بيانات البنك الدولي، يبلغ مستواه في الصين 9771 دولارًا، بينما يبلغ في روسيا 11289 دولارًا، أما في الولايات المتحدة يبلغ 62794,6 دولارًا.