رغم محاولات الاقتصاد المصري للتعافي من عدم الاستقرار الاقتصادي الذي بدأ مع الأزمة المالية العالمية في 2008/9 وتفاقم مع ثورة 25 يناير 2011 وتبعاتها، في أحد أهم الدراسات لسوق العمل المصري، وُجد أن محاولات التعافي الاقتصادي خلال العقد الماضي لم تسفر في واقع الأمر -وحتى الآن- عن خلق فرص عمل جديدة!

فمعدل العمالة، الذي يعرف بأنه النسبة المئوية من عدد السكان في سن العمل الذين يعملون بالفعل، خلال تلك الفترة استمر في الانكماش رغم الجهود المبذولة، مما يشير إلى أن محاولات خلق فرص للعمل لا تتناسب مع النمو السكاني. تستمر هذه الظاهرة رغم تزايد معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، والتي بلغت 5.6 ٪ في يونيو 2019.

ففي عام 2008، وصل معدل العمالة إلى 46% واستمر في الارتفاع إلى أن وصل إلى 48% في 2010. ولكن انخفض ذلك المعدل إلى 43% في عام 2011، واستمر في الهبوط حتى وصل إلى 39% بحلول عام 2018، وهي نسبة مقاربة لتلك من عامي 2001 و 2002. 

السقوط من المدرسة إلى سوق العمل

في ثمانينيات القرن الماضي، كانت مرحلة الانتقال إلى سوق العمل أكثر سلاسة وسهولة حيث وظائف القطاع العام التي كانت في انتظار روادها فور تخرجهم. أما الآن، ومع تناقص فرص العمل في القطاع العام مقارنة بأعداد خريجى المدارس والجامعات، فقد أصبحت مرحلة الانتقال إلى سوق العمل أكثر صعوبة للشباب.

بغض النظر عن سياسات تنظيم بيئة العمل وسوق العمل، تعد معدلات البطالة المرتفعة، بين الشباب خاصة، علامة على عدم التوافق المحتمل بين مخرجات نظام التعليم واحتياجات سوق العمل. فقد وصل معدل البطالة في عام 2018 إلى 8.2%.

وعلى الرغم من أن معدل البطالة القياسي-والذي يشمل عدد العاطلين الحاليين الذين يبحثون بجدية عن عمل- مستقر إلى حد ما، إلا أن معدل البطالة بالمعنى الواسع- والذي يشمل الأشخاص العاطلين المحبطين الذين لا يبحثون عن عمل في ضوء قلة الوظائف المتاحة- قد ارتفع من 9.6% إلى 11.1 % بين عامي 2012 و 2018. 

في ظل انكماش عدد الوظائف الحكومية وعجز القطاع الخاص الرسمي عن توفير وظائف شاغرة، ورغم ارتفاع أعداد الشباب خريجي المعاهد المتوسطة فما أعلى، فقد انخفضت معدلات مشاركة الشباب في القوى العاملة من 52% في عام 2006 إلى 48% في عام 2018.

ورغم أن معدل مشاركة الشباب الإناث في سوق العمل ضعيف بصفة عامة في مصر و لم يتعدّ الـ20%، نجد أن هناك اتجاهًا جديدًا ومثيرًا للاهتمام في بطالة الشباب الذكور في مصر، حيث انخفضت نسبة المشاركين في سوق العمل من 77% في عام 2012 إلى 72% في عام 2018. 

الأرقام تكشف صعوبة حقيقية في إيجاد فرصة عمل خلال الـ18 شهرًا الأولى فور التخرج، فقد تمتع خريجو الجامعات قبل الأزمة المالية في 2008 بفرص أعلى للالتحاق بأول وظيفة لهم خلال 18 شهرًا من تخرجهم، مقارنة بأقرانهم الذين تخرجوا بعد ثورة يناير على سبيل المثال، إذ انخفضت نسبة الشباب القادر على إيجاد وظيفة خلال أول 18 شهرًا من تخرجه من 47.4% في 2005 إلى 27.9% في 2012.

الطبقية تحدد فرص العمل

في واقع الأمر فالمشكلة ليست اقتصادية فقط، فالقضية لها أبعاد اجتماعية أيضًا، حيث إن إيجاد فرصة عمل ملائمة يتناسب طرديًا مع الخلفية الاجتماعية والتعليمية التي ينحدر منها الباحث عن الوظيفة.

تجدر الإشارة إلى أن احتمال العثور على وظيفة جيدة، خلال 18 شهرًا من التخرج، أعلى بنسبة 8.8% بالنسبة للشباب الذين حصل آباؤهم على تعليم عالٍ، مقارنة بأولئك الذين حصل آباؤهم على تعليم ثانوي أو أقل. 

ونجد أنه من إجماليأولئك الذين تخرجوا أو تركوا التعليم من 2000 إلي 2009، قد حصل 14% من المتعلمين تعليمًا عاليًا، لكنهم من ذوي الخلفية الاجتماعية والاقتصادية المنخفضة، على وظيفة في القطاع الخاص؛ بينما حصل 22٪ من أقرانهم ذوي الخلفيات الاجتماعية المرتفعة على وظيفة في القطاع الخاص.

أما وظائف القطاع العام رغم قلتها، إلا أنها ما زالت قاصرة على المتعلمين تعليمًا عاليًا، وتعتبر أكثر إنصافًا مقارنة بالقطاع الخاص. فقد كان 25٪ من الذكور الحاصلين على مؤهلات عليا وذوي خلفيات متواضعة خلال نفس الفترة يعملون في القطاع العام مقابل 20٪ من ذوي التعليم العالي والخلفيات الاجتماعية العالية.

وعليه، يبدو أن القطاع العام هو الملاذ الأول لأصحاب الأصول الاجتماعية المتواضعة للحصول على وظائف جيدة، في حين أن القطاع الخاص الرسمي يختار موظفيه بالأساس بناء على خلفياتهم الاجتماعية والتعليمية. 

بإذن الله .. مندوب مبيعات

مع تناقص فرص التوظيف في القطاع العام، وعدم كفاية فرص العمل التي يخلقها القطاع الرسمي الخاص، كان الخيار الحتمي للشباب هو العمل بأجر غير رسمي، بينما ظلت الشابات المتعلمات -في الأغلب- عاطلات.

استمرت العمالة المأجورة غير الرسمية في الزيادة كنسبة من إجمالي العمالة، حيث ارتفعت من 24% في 2006 إلى 31% في 2012 حتى وصلت إلى 39% في 2018. تعد العمالة المأجورة غير الرسمية خارج المنشأة الثابتة واحدة من أكثر أشكال العمالة هشاشة، إذ لا توفر للموظف تأمينًا اجتماعيًا أو طبيًا ولا أجازة مدفوعة. 

ويمكن تعزية نمو هذه الأنواع من الوظائف إلى تسارع نمو العمالة في الشركات الصغيرة والمتوسطة، حيث نما التوظيف في المنشآت الصغيرة من 2.9٪، من إجمالي نسبة التوظيف في الفترة 1996-2006، إلى ما يقرب من 7.7٪، في الفترة 2006-2017، بينما ارتفعت النسبة في المؤسسات المتوسطة الحجم من 2.8٪ سنويًا إلى 8.8٪ سنويًا في نفس الفترتين.

الجدير بالذكر أن الصناعات العشر الأولى التي ساهمت في خلق فرص العمل -أغلبها غير رسمي- في المؤسسات الخاصة تكمن في مناطق البيع بالتجزئة والتوزيع والخدمات، وتشمل مختلف القطاعات الفرعية للبيع بالتجزئة، مثل الأغذية والمشروبات والمتاجر المتخصصة وغير المتخصصة، وتشمل أيضًا التخزين والمطاعم والخدمات الغذائية، والمنظمات غير الحكومية، والخدمات المالية، والبناء.

ساهمت هذه الصناعات العشرة الأولى مجتمعة بنسبة 65% من صافي نمو العمالة في مؤسسات القطاع الخاص من عام 2006 إلى عام 2017.

ورغم أهمية تلك القطاعات، إلا أنها في الغالب تعد وظائف بدائية وقليلة الجودة، وبالتالي قليلة العائد، إذ لا تتطلب مهارات التفكير العليا التي من شأن التعليم العالي أن يغذيها.

على الجانب الآخر، نجد مثلاً أن وظائف مثل التي يتنافس عليها العالم الأول من وظائف مرتبطة بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي و تحليل البيانات الكبيرة محدودة للغاية في السوق المصري.

العدالة الاجتماعية وخلق الوظائف

منذ عام 2011، لم يتحسن كم وجودة الوظائف في الاقتصاد المصري. في الواقع، انخفض معدل التوظيف بثبات منذ ذروته الأخيرة في 2010. علاوة على ذلك، زادت نسبة العمالة المأجورة غير الرسمية خارج المؤسسات الثابتة زيادة كبيرة، ما أدى إلى تفاقم صعوبة ظروف العمل والحماية الاجتماعية للموظفين. 

أحد الأغراض الرئيسية للتعليم هو تكوين المعرفة والمهارات للأفراد، للمساهمة في دعم مجتمعهم. كما تهدف إلى فتح الأبواب المحتملة للعمل في المستقبل والحراك الاجتماعي.

مع ذلك، في مصر، بالإضافة إلى عدم المساواة في الوصول إلى المدارس الجيدة، أحد العناصر الظالمة التي تحد من المنافسة الحقيقية بين المرشحين المؤهلين، هو اعتماد التوظيف بشكل كبير على الشبكات الاجتماعية. بالتالي، يجب أن تكون المنافسة العادلة هي شعار الإصلاح القادم لكل من أسواق العمل وأنظمة التعليم.