أكتب اليوم عن «الرواية السودانية» ممثلة في أحد كتّابها الواعدين والمغتربين، وهو الروائي «حمّور زيادة» وروايته «شوق الدرويش».

فازت «شوق الدرويش» بجائزة نجيب محفوظ التي تقدمها الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والتي اتخذت من الثورة المهدية مسرحًا زمنيًا لأحداثها، خاصة أنه فيما يخص الثورة المهدية، لم تكن منجزات السرد الروائي داخل السودان سوى ترجمة حكائية عابرة لتكريس مفاهيم الاحتفاء الخالص والتمجيد المحض لوجه تلك الثورة السياسي.

فلم يكن بإمكان الروائي السوداني تحت وطأة ذلك الاحتفاء، إلا أن يتغاضى عن «وجه الثورة القبيح» وما تعلق به من قهر وتهميش وإقصاء للسوداني الحالم بالخلاص، وأن يغض الطرف عن النبش الصادم في أعماق فترة شائكة من تاريخ السودان الجريح، انتصر لها البعض، وعدها البعض الآخر من أكثر تراجيديات التاريخ السوداني وحشية ودموية، لكن روائيّ اليوم أكثر جرأة وتحررًا من روائيّ الأمس.

لذا جاءت «شوق الدرويش» لتكشف المستور من خبايا «المهدية»، ولتضع النقاط فوق الحروف، بالنسبة للخلفية التاريخية المظللة بالسواد لتلك الثورة عبر حكاية ممتعة.

في رمزية مراوغة، وإشارة متسللة إلى تراجيديا الثورة وما تفعله بالإنسانية والإنسان، اختار المؤلف بطل روايته «بخيت منديل»؛ شخصية مقهورة، على موعد مع الحظوظ العاثرة والأقدار الصادمة، بطلًا معذبًا، تتقاذفه أمواج العبودية وأطماع النخاسة منذ الصغر، ولا حيلة له في جلب السعادة لنفسه أو دفع الشقاء عنها، فهو مع أسياده عبد، ومع خلوته أنيس للحزن، وفي بعض الأحيان أنيس للموتى حفار للقبور.

لم تغفل الرواية ذلك التناسب القائم بين موضوعها «ثورة المهدي» واسمها «شوق الدرويش»، فكلاهما بنى على تماس معتبر من صوفية سودانية شعبية

وعلى خلفية متعلقة بتداعيات «المهدية» صعودًا وهبوطًا، تتوالى معاناة البطل المعذب من محنة العبودية والأسر، إلى محنة الحب المستحيل؛ فعندما تفاجئه الأقدار السعيدة بـ «ثيودورا» السكندرية من أبوين يونانيين، تلك التي أجبرها ثوار المهدية على اعتناق الإسلام بعد أن وقعت سبية أيديهم أسيرة معتقدهم، يقع في حبها، ثم لا تلبث تلك الأقدار أن تستحيل مجددًا إلى عهدها المعتاد معه، فتقتل محبوبته على أيدي آسريها، ليجد نفسه أمام خيار الانتقام من قتلة ثيودورا، وهو الخيار الأصعب الذي يضعه وجهًا لوجه أمام جنود المهدية، تلك الثورة التي ظن يومًا أنها مخلصته من عذاباته ومحنه، فإذا بها تدفعه دفعًا لاحتراف القتل والانتقام.

وبنظرة متأملة للبناء الروائي وتشابك السرد والحكي في هذه الرواية، يلمح القارئ طرحًا متأنيًا لأسئلة وجودية حائرة على ألسنة شخوصها وأبطالها، وهي أسئلة تتماشى مع «قدرية وجودية» ارتضاها الكاتب لهؤلاء الأبطال وتلك الشخوص، وهي قدرية تمنح – من الناحية الشكلية – صك براءة للمهدية مما ينسب لها على أيدي شانئيها، بينما هذه القدرية ذاتها – من حيث المعنى والمضمون والمآل – تشي بظلمها الطاغي، وبسوطها الجلاد، وربما يرجع ذلك إلى «توازن الحكي» لدى الكاتب، ولموضوعية النتائج الحدثية في الرواية، تلك المترتبة على مقدماتها المتطورة.

ولعل حالة اللوم العنيفة المشوبة بالحيرة والندم والتساؤل، والتي انتابت طالب القرآن المتصوف «حسن الجريفاوي»، أحد شخوص الرواية، تمثل نموذجًا لتلك القدرية المزدوجة؛ فبعد أن يطلق زوجته من أجل التفرغ للجهاد مع دراويش المهدي المقدس، وبعدما تتلوث يداه بدماء الأبرياء، إذا به في نهاية المشوار يكتشف سقوط النموذج الثوري وفراغ القداسة الزائفة ويقف على فظاعة تساؤلاته القدرية.

إن كنّا على الحق، فكيف ظلمنا وقتلنا ثم هُزمنا؟ إن كنّا على الباطل فكيف نكون أكثر عبادة وخشية لله من الترك والمصريين؟ أليسوا كفرة؟ ألسنا مؤمنين؟ وهكذا تطرح الرواية أسئلة شخوصها، فتكشف من خلالها عوالم الخاص والعام، وتجسد عبرها واقعًا وجوديًا ساحرًا مفتوح الأفق مشرع الأبواب والاحتمالات.

ومن ناحية أخرى، لم تغفل الرواية ذلك التناسب القائم بين موضوعها «ثورة المهدي» واسمها «شوق الدرويش»، فكلاهما بنى على تماس معتبر من صوفية سودانية شعبية، لها جذورها الممتدة وثقافاتها المستقرة على مستوى الشفاهة والتدوين.

لا يمكن قصر «شوق الدرويش» على مجرد المحاكمة التاريخية والمساءلة الثورية لأخطاء المهدي وأنصاره، ففي هذا ظلم كبير لها

وهنا محور ربط دقيق يكتشفه القارئ للرواية كالمسَلَّمة في ذهنية كاتبها ومؤلفها، والذي جاءت روايته – لغة وتركيبًا وأسلوبًا – عاكسة لحالات وعبارات وفلسفات «الوجد الصوفي» انطلاقًا من مقولات محيي الدين ابن عربي التي يعشقها المهدي وأنصاره، سواء في مفتتح الرواية «كل شوق يسكن باللقاء، لا يعوّل عليه أو في منتهاها»، و«العشق داء في القلوب دفين»، وما بين «شوق اللقاء» و«داء القلوب» رمزية حاضرة في أجواء الرواية، مفعمة بالتلميح تارة عبر المسكوت عنه، وبالتصريح تارة أخرى عبر المنطوق والمكتوب، إنها «حمى الدروشة» تلك التي مكّنت لدى شخوص، وسلبت لدى آخرين، لكن تظل الخيارات مفتوحة، والقناعات مغرية «أن تصبح درويشًا لمن تهوى».

وباعتبار الرواية واقعًا موازيًا، وبناءً سرديًا مسائلًا، فإنه لا يمكن قصر هذه الرواية «شوق الدرويش» على مجرد المحاكمة التاريخية والمساءلة الثورية لأخطاء المهدي وأنصاره، ففي هذا ظلم كبير لرواية بحجمها ومقدارها هي وكاتبها، ذلك أن حمور زيادة استطاع بفطرة الكاتب الموضوعي المغترب أن ينأى بانتمائه للذات والوطن عن اقتحام خصوصية الأبطال والشخوص، حتى على مستوى التباين النوعي والمحلي بين الطبائع البيئية والثقافية لهؤلاء جميعًا.

ليس هذا فحسب، إنما استطاع أيضًا من خلال تفاصيل ومناطق عديدة بالرواية، أن يصل إلى حالة من التجريد الروائي عبر الاشتباك مع المعاني الكبرى للوجود، والهواجس المؤرقة للإنسانية الحائرة، بحيث صارت «المهدية» كقضية معنى خلفيًا متضائلًا أمام سطوة القضية الإنسانية وعنفوانها المتأزم فوق بركان الأقدار المتلاحقة والأحداث المتلاطمة، وهو ما انعكس – في المجمل – إلى محنة الإنسان المعاصر مع «الثورة الكونية» بما تنطوي عليه من تراجيديا الشر المراوغة، وانكسارات الخير المؤقتة.

بقي القول إن «شوق الدرويش» رواية جديرة بالقراءة مرات ومرات؛ فقد أثارت ردود فعل متباينة لدى النقاد والجماهير؛ إذ عدها أكثرية النقاد علامة روائية بارزة في تاريخ الرواية السودانية، وخطوة مبشرة لبزوغ نجم جديد في سماء السودان الروائي إلى جانب الطيب صالح وأمير تاج السر وغيرهما.

وفي جانبها التقني والفني، وُوجهت الرواية ببعض التحفظات نتيجة إفراط منتقد في شقها الرومانسي. أما الجماهير فغالبيتهم استقبلها بحفاوة قرائية جيدة، بينما قام بعضهم باتهام وصل إلى حد التهديد لكاتبها بسبب ما اعتبروه تشويهًا للثورة المهدية المقدسة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.