عمق ثقافة الحرية في الاجتهادات الفقهية
في مقالٍ سابق (في إضاءات بتاريخ 12 يناير/كانون الثاني 2022)، ناقشنا مفهوم «العِتق» الذي استعمله قدماء الفقهاء وهم يعرِّفون «الحرية» ويشرحونها باعتبارها مسألة فطرية لا يجوز المساس بها، وهم يؤكدون كذلك على أنه يتعين التخلص من موانعها. وبإدامةِ النظر فيما ذهبوا إليه لاحَ لنا أنَّهم قصدوا تركيزَ النظر على أن «القوة هي جوهر الحرية»، وهي «مركز عملية العتق»؛ باعتبار أن القوةَ هي الركنُ الركين في الجذر اللغوي لكلمة «العِتق»، و«العَتاق»*.
والقوةُ التي قصدوها لها جانب معنوي؛ ينبع من داخل نفس الإنسان، وهو جانب غير مرئي وشفاف ويحتاج لمجاهدات هائلة لبنائه وصونه، ولها جانب مادي؛ يتحددُ في ضوء علاقات هذا الإنسان بمحيطه الذي يعيشُ فيه، وعليه أن يكابد من أجل إزاحة الموانع التي تعترض حريته أو تنتقص منها. ويكاد قدماءُ الفقهاء – بمختلف مذاهبهم – يجمعُون على أن مقصدَ العتق هو حصولُ: «القوة» معنويًّا وماديًّا، والتخلص من الضعف المعنوي والمادي أيضًا. وقد كان «الرِّقُّ» أوضحَ صورةٍ من صور هذا الضعف؛ فأصل الرِّقِّ هو الهشاشة، أو «الضَّعْفُ»، ومنه ثوبٌ رقيقٌ، وصوتٌ رقيقٌ، ونقيضه هو: «العتق».
يقول الكمال بن الهمام الحنفي (ت 861هـ/1457م): «العِتقُ وَالعَتَاقُ لغة عبارَتان عَنْ القوةِ، ومنهُ: عَتَاقُ الطَّيرِ لِجَوَارِحِهَا. وَعَتَقَ الفَرْخُ إذَا قَوِيَ على الطيرانِ، وفرسٌ عَتِيقٌ إذَا كان سَابِقا وذلكَ عَن قُوَّتِهِ، والبيتُ الْعَتِيقُ لِاختصاصهِ بِالقوَّةِ الدافِعَةِ عَنْهُ مِلْكَ أَحَدٍ فِي عَصْرٍ مِنْ الأَعْصَارِ، وقيلَ للقدِيمِ عَتِيقٌ لقوةِ سَبْقِهِ … وباعتبارِ القِدَمِ وَالسَّبقِ جَاءَ بَيتُ أَوْسِ بنِ حَجرٍ حيثُ قَالَ:
نطالعُ في كتب المذاهب الفقهية المختلفة ثلاثة أمثال شارحة، أو ثلاث صفات مشبِّهة؛ قصدوا بها بيانَ أبعاد مفهوم الحرية ومستوياتها في «النظرية» و«التطبيق» معًا، وهي: الطائر العتيق، والفرس العتيق، والبيت العتيق*. وقبل الاستطراد في بيان مغزى هذه الأمثال الثلاثة، نؤكد أن قدماء الفقهاء بعامة – وعلماء أصول الفقه بخاصة – لم يضربوا «الأمثال» الشارحة – عمومًا – منفصلة عن المعاني اللغوية لألفاظها، ولا بمعزل عن معطيات البيئةِ الاجتماعية والبيئة الطبيعية من حولهم، ولا بمنأى أيضًا عن الثقافية السائدة في أزمانهم. وبعض تلك الأمثال لا يزال صالحًا في الدلالة على ما قصدوه بمعايير واقعنا المعاصر، ومنها الأمثال الثلاثة المذكورة، وبعضها الآخر لم يعد ملائمًا للشرح والبيان في السياق الحاضر، ولهذا حديث آخر ليس هنا مجاله.
في أبواب العِتق بكتب الفقه، تردُ الأمثال الثلاثة المشار إليها في معرض بيان معنى «العتق»، كما أسلفنا. والطائر والفرس والبيت ثلاثتها أشياء محسوسة في الواقع، وحاضرة في وعي الخاصةِ والعامةِ، وهي قاسمٌ مشترك في أساس الوعي الجمعي لهؤلاء وأولئك. وقد استعملها قدماء الفقهاء على سبيل «المجاز» لتشبيه المعنى الغائب بمعنى حاضر ومألوف لكل عربي، وقصدوا بها أيضًا تجسيرَ المسافة بين المعنى المجرد الذي يصعب على العامة إدراكه في عمومه من جهة، والمظهر المحسوس المستقر في وعي العربي وبيئته التي يعيش فيها وتجاربه اليومية من جهة أخرى. ولا تكاد هذه الأمثال الثلاثة تتغير عند المذاهب الفقهية المتعددة، وكأنها محل إجماع على جدارتها في الكشف عن شمول مفهوم «الحرية»، المعبر عنه بكلمة «العِتق»، أو «العَتاق» في لغة فقهاء المذاهب ومجتهديها.
نفهمُ من اطِّراد تشبيههم عتق الرقيق بـ «الطائر العتيق»، و«الفرس العتيق»، و«البيت العتيق»؛ أنهم قد استَقلُّوا المعاني اللغوية للفظة «الحرية» – في جذورها اللغوية – مقارنة بمعاني لفظةِ «العتق»، ففضلوا الثانية على الأولى، وكأنهم رأوا أن «العِتق» ودلالته اللغوية – التي هي المادة الخام لمعناه الاصطلاحي الشرعي – أوسعُ مجالًا وأدق تعبيرًا وأوضح تصويرًا لدلالات عملية الخروج من الرق والضعف وفقدان الإرادة وكسر أغلالها والتخلص من أوزارها، وإعادة وضع الأمر في أصل نصابه. وبما أن أصل نصابه هو ما نسميه بلغتنا المعاصرة: «الحرية»، فإن السؤال هنا هو: لِمَ وقع اختيارهم على هذه الأمثال الثلاثة دون غيرها؟
أمَّا «الطائر العتيق» فلأنه مألوفٌ في البيئةِ العربية وبواديها. والعتيق من الطير هو الذي استقلَّ وقوِيَ على الطيران بمفرده من عشه إلى حيث يشاء، بعد أن نَبتَ في أجنحته ريشٌ «جُلْذِيٌّ» – كما في لسان العرب – أي: شديد، بعد أن تخلص من ريشه الأول، أو ما يعرف بــ«الزَّغَب» [1]، والزغب ريش صغير وضعيف لا صلابة فيه. وعليه قالوا: عِتاقُ الطير كواسبُها؛ وجوارحُها ذوات المخالب الصلدة والمناقير الحادة؛ أي التي تكسب قوتها بنفسها ولديها قوة ذاتية تدفع بها عن نفسها.
وفي هذا السياق، نجد الجاحظ – مثلًا – يُصنِّف الطيور في صنفين، يقول: إن السباعَ من الطير على ضربين: فمنها العتاق الأحرار الجوارح كالنسور والعقاب، ومنها البغاث؛ إذا لم يكن من ذوات السلاح والمخالب المُعَقَّفَةِ. والعتاق الجوارح هي: «سباع الطير». وسباع الطير «ما أكلَ اللحمَ خالصًا» [2]. وليس أسرع إلى ذهن العربي، وأقرب إلى إدراكه من هذه الاستعارة التي تشبه عملية تخلص الآدمي من «الرق» بـ «عَتاقِ الطير»؛ التي يراها حوله بعيني رأسه مرات لا حصر لها في حياته، ويعرف نتائجها من طول مراقبته لها بقصد أو عفو الخاطر.
وأما الفَرَسُ فهو رمز القوة والعزة والكرامة والجمال والغرور والسلطان في آن واحد. وقد تغنَّى به الشعراء في الجاهلية وفي الإسلام، وورد ذكرُه في آياتٍ من القرآن الكريم، وفي أحاديثَ للنبي صلى الله عليه وسلم. والفرَسُ العتيقُ هو الحصان الذي أبواه عربيان. وهو أكرم أنواع الخيلِ عند العرب. والهجين على الضد منه، وهو الحصان الذي أبوه عربي وأمه غير عربية. وسُمِّي عتيقًا لِخلُوِّه من العيوب، ولأنه شديدُ المِراسِ ولا هُجنةَ فيه، والهُجنة هي اختلاط النسب.
وكانت العربُ تستدِلُّ على عَتاقةِ الفرسِ بمظاهر منها: رقة جحافله، [وجحافل الفرس بمنزلة الشفتين للإنسان]، وعرض منخريه، ورقة جفونه، ورقة أعالي أذنيه، ولين ناصيته [3]، وكانت العرب تستدلُ عليه أيضًا ببعض الحركات في بعض المواقف، ومنها: أن الفرَسَ الهجينَ يثني ساقيه الأماميتين عندما يشرب، في وضع يشبه جثو الإنسان على ركبيته، علامة على انكساره، أما الفرسُ العتيقُ فلا يثنيهما ويشرب وقوائمه منتصبة علامة على إبائه. [4]
ومن بين أنواع الخيل الكثيرة التي سجلتها كتب «الخيل»، اختار قدماء الفقهاء «الفرس العتيقَ» دون غيره لشرح معنى «التحرر من الرق»، وفي هذا الاختيار إشارة لا تخطئها عين إلى عمقِ معنى العتق وشموليته لمعاني القوة المادية والمعنوية التي طالما حُرم منها الرقيق والعبيد في مختلف الأزمنة.
وأمَّا «البيت العتيق»، فهو الكعبةُ المشرفة بمكة المكرمة. وهي أولُ بيتٍ وضع للناس «مباركًا وهدى للعالمين». وسميت الكعبة باسم «البيت العتيق» لسلامتها من عيب الرِّق؛ حيث لم يملكْها ملكٌ من الملوك الجبابرة قط. وإنما صار البيتُ العتيق عتيقًا لتقدمه في الزمان، وفي المكان، والرتبة، والشرف، ولاختصاصه بالقوة الدافعة عنه، وخلاصه من الأيادي الباطشة، وقد شرَّف الله تعالى الحجيجَ بأن أمرهم بالطواف حوله، قال تعالى: «وليطوفوا بالبيت العتيق» (الحج – 29). قال ابن الجوزي: وصفه الله تعالى بذلك لأنه لم يزل معتقًا أن تسومه الجبابرة صَغَارًا. [5]
ويروى عن سفيان بن عيينة أنه قال: سُمي البيتُ العتيق عتيقًا لأنه لم يُملك قط لا قبل الإسلام ولا بعده. وقيل سمي عتيقًا لأن الله أعتقه من الغرق أيام الطوفان في زمن نوح عليه السلام. وجاء في الأثر أن كل من يحج إليه حجًّا مبرورًا يعتق الله رقبته من النار. وروى الترمذي في السنن والحاكم في المستدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق: «أنتَ عتيقُ الله من النار». ويقال: سُمِّي أبو بكر عتيقًا لأنَّ أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما عاش سمَّته عتيقًا لأنه عُتق من الموت. [6]
وقدماء الفقهاء بسردهم هذه المعاني التي يسعها مفهوم «العتق»، كأنهم يبوحون لنا -ن حن أبناء اليوم – بِسِرِّ تشبثهم بمثال «عتق الرقيق»، أو «تحرير العبيد» لبيان منابع إدراكهم معنى الحرية، وهذا السر هو: أن لحظة العتق من الرق، أو فك الرقبة من العبودية هي نفسها لحظة التخلص من كل ما يشين وينتقص من الكرامة الآدمية، وهي أيضًا لحظة إثبات كل ما يزينها ويعوضها ما فاتها من: القوة، والسبق، والشرف، والحسب، والكرم، والجمال، هكذا دفعة واحدة! ولسنا بحاجة هنا إلى التأكيد على أن وجود هذه المعاني نفسها لغيرِ العبيد وغير الرقيق أمر مفروغ منه، بل وجودها ثابت لهم من باب أولى.
ويلوح لنا هنا أن اهتمامَ قدماء الفقهاء بمسألة «عتقِ الرقيق» – أو «عتق الرقاب» أو «فك الرقبة» بحسب التعبير القرآني – هو من قبيل العناية بفئة مستضعفة اجتماعيًّا، ومُهمَّشة اقتصاديًّا رغم قلتها عدديًّا مقارنةً بعموم أبناء المجتمع. ولو أن مبادئ الشريعة وتعاليمها تغض الطرف عن ظاهرة الرقيق أو العبيد، أو تشجع عليها، كما يزعم قليلو المعرفة في أيامنا هذه، لكان بوسعِ قدماء الفقهاء أن يتجاهلوا مسألتهم، وأن يوفروا جهدهم، وأن لا يجتهدوا في إيجاد حلول لهذه المشكلة المزمنة والموروثة عن عصر الجاهلية. ولكنهم أشبعوها درسًا وبحثًا وتأصيلًا وتفريعًا بحسب ما تشهد به أبواب «العتق» في كتبهم.
وإذا كانت «القوة» هي النواة الصلبة في معنى العتق، فإن الحقل الدلالي لهذه النواة يمتد ويتسع ليشمل معاني أخرى ومنها: «السَّبقُ» وذلك بفضل القوة، «والجمالُ»، والعراقة في الخير، و«الشرف» و«الحسب»، و«الكرم»، وغير ذلك من مكارم الأخلاق ومحاسنها.
والسؤال الآن هو: لِمَ كان هذا الاحتفاء الهائل بأطروحة «القوة» باعتبارها مركز مفهوم «العتق» (الحرية) في إدراك قدماء فقهائنا؟ وإذا كان ما أوردناه يمثل خلاصة الخلفية اللغوية والثقافية لمفهوم «العتق» (الحرية) التي استند إليها فقهاء المذاهب: فهل مفهومُ الحريةِ واحدٌ في الإدراك الفقهي العام عندهم؟ أم هو متعددٌ بعددِ تلك المذاهب؟ وإذا كانت «الحرية» حق فطري، فلماذا جعلَ الفقهاءُ «الحقَّ» على مراتب وليس مرتبة واحدة كما سنرى؟ أليس الحق واحدًا؟ وما الفرق عندهم بين «الحقِّ»، و«الرُّخصة» في ممارسة الحرية ولماذا كان هذا الفرق؟ وكيف يؤثر هذا التمييز على معنى الحرية بحسب إدراكهم قديمًا، وبحسب إدراكنا نحن حديثًا؟
الإجابة على هذه الأسئلة تحتاج إلى «نفس عميق … وعميق جدًّا» يكفي للغوص أطول مدة ممكنة في أعماق بحار الفقه بمذاهبه المتنوعة، وباذخة الثراء المعرفي، كما تحتاج إلى «صبرٍ جميل» لا شكوى معه لكي نقْشَعَ عناصر الصورة كلها – أو أغلبها على الأقل – وهي مستوية ومتكاملة وبلا تشويش. وحديثنا مستطردٌ في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.
* أشار عبد الله عتر إلى ذلك في بحثه: «مفهوم الحرية في الفقه الحنفي» (Journal of Islamic Ethics, 2021). (تمت إضافة هذا الهامش في ٣٠ أبريل ٢٠٢٢)
- الثعالبي، “فقه اللغة وسر العربية”، تحقيق سليمان سليم البواب، (دمشق: دار الحكمة للطباعة والنشر، 1409هـ/1989م) ص47.
- الجاحظ، “كتاب الحيوان”، تحقيق عبد السلام هارون، (القاهرة: ط2، 1384هـ/1965م) ج2/28-30.
- أبو عبيدة التيمي (ت209هـ)، “كتاب الخيل”، رواية أبي حاتم السجساتي، (الهند: مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، طبعة أولى، 1358هـ)، ص60.
- ابن الكلبي (ت 206هـ)، “نسب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها”، رواية أبي منصور الجواليقي (ت450هـ)، تحقيق نوري حمودي القيسي، وحاتم صالح الضامن، (بغداد: مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1406هـ/1985م). وانظر أيضًا: الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.
- ابن الجوزي، “تذكرة الأريب في تفسير الغريب”، تحقيق طارق فتحي السيد، (بيروت: دار الكتب العلمية،1425هـ/2004م)، 8/2.
- الدميري (ت808هـ)، “حياة الحيوان الكبرى”، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط2ـ 1424هــ) 2/69.