انتحار المكتئب: المسئولية في الدين والطب
لا يكاد يمر شهر، إلا ويطالعنا خبرٌ صادم عن واقعة انتحار مأساوية لمصابٍ بالاكتئاب. وتتضاعف صدمة الجمهور وتفاعله المتأثر عندما يكون المنتحر من وضع ثقافي واجتماعي مرموق، مما يجعل كثيرين يفترضون أنه محصَّن من مجرد الاكتئاب، إذ لا ينقصه في نظرهم شيء.
مؤخرًا، ثارت ضجة خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي المصري لواقعة وفاة طبيب نفسي شاب، من المرجح وفاته منتحرًا، خاصة أنه قد امتلأت حساباته الاجتماعية بالكثير من المنشورات التي قد يُفهَم منها حالته النفسية المترديّة، وفقدانه الإحساس بالمشاعر والحياة… إلخ، تلك العلامات الشهيرة المرجحة للإصابة بالاكتئاب.
مع كل واقعة انتحار جديدة يتجدد جدالان لا ينتهيان، رغم كثرة تكرارهما. أحدهما في الدين، والآخر في الطب. الأول يدور حول الموقف الشرعي من المنتحر بسبب الاكتئاب هل هو كافر أم مؤمن؟ ومدى جواز التعاطف مع قراره الصادم بإرهاق روحه لما تكبَّده من معاناة ثقيلة مع الاكتئاب.
أما الثاني – وهو مرتبط بالأول من وجوهٍ عديدة – فهو مدى سيطرة المصاب بالاكتئاب على فعل الانتحار، وهل هو مسئول مسئولية كاملة واعية عن هذا الفعل، أم أن الاكتئاب الشديد قد ذهب ببصيرته.
سنبدأ بنقاش الدين أولًا، لأن جوانبه الرئيسة قد قُتِلَت بحثًا.
هل المنتحر كافر لا يجوز الدعاء له بالرحمة أو الصلاة عليه؟
هذا هو الرأي العارم الطاغي فيما يخص قضية الانتحار، وغير مقبول إظهار أية ذرة من تلطيف الكلام في قضية الانتحار، أو محاولة الترحم على المنتحر. مثال ذلك الهجوم الشرس على الشيخ يوسف القرضاوي منذ سنواتٍ عندما سئل عن الشاب التونسي البوعزيزي الذي أحرق نفسه في ديسمبر/كانون الأول 2010 احتجاجًا على صفع شرطية له، فأشعل شرارة ثورات الربيع العربي.
سبب الهجوم أن الدكتور القرضاوي دعا بالرحمة والمغفرة للشاب، وركَّز انتقاداته اللاذعة على الاستبداد والطغيان والأوضاع الظالمة التي دفعت به إلى مدارك اليأس حتى انتحر بتلك الطريقة المأساوية. عند البحث عن آراء الفقهاء في حكم المنتحر، نجد ما يعتبر إجماعًا على أن الانتحار من أكبر الكبائر، ومنهيٌّ عنه نصًا في القرآن الكريم:
وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا.
سورة النساء 29-30
وهناك طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تحمل وعيدًا شديدًا لمن يقتل نفسه بأنه سيعذب في النار بمثل ما قتل به نفسَه. ونُقِلت أخبار صحيحة عن النبي، عليه الصلاة والسلام، أنه لم يصلِّ على بعض المنتحرين، لكنه لم ينهَ الصحابة عن الصلاة عليهم، ولا الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة.
الحالة الوحيدة التي لا يعتبر فيها الانتحار ذنبًا هي الإصابة بمرض عضوي أو نفسي يفقد الشخص القدرة على الوعي والتمييز، فيكون حينها مرفوعًا عنه القلم بالتعبير النبوي.
ما قد لا يعرفه الكثيرون أن هناك أيضًا ما يعتبر إجماعًا على أن المنتحر ليس كافرًا خارجًا من الملة، طالما مات مسلمًا لا يشرك بالله أحدًا. وهو بين يديْ الله، إما يغفر الله له برحمته، لسابق أعماله الصالحة، بعد أن ينال قسطًا من العذاب لما جنتْه يداه، وإما كتب عليه الخلود الأبدي في عذاب النار، ولذا فالمنتحر – على عكس الشائع بين الناس – بحاجة إلى الدعاء له بالمغفرة والرحمة، وتجوز الصلاة عليه لعدم وجود نهي قاطع عن ذلك، بل في صحيح مسلم رواية عن معاصرٍ للنبي عليه الصلاة والسلام، مرض مرضًا عضويًا بعد الهجرة إلى المدينة، فلم يطِقْ صبرًا على تحمل المرض، فقتل نفسه، ثم رآه صديق له في المنام في هيئة حسنة، وأخبره – المنتحر – أن الله غفر الله لسابق هجرته، فحكى الصديق ذلك المنام للرسول، عليه الصلاة والسلام، فأقره ودعا للمنتحر بالمغفرة.
إذن، فسواء كان المكتئب فاقدًا للإرادة أو غير فاقد – وهذا هو ما زلنا ننتظر من الطب إجابة شافية له – فهو على الأقل ليس كافرًا وإن ارتكب فاحشة عظمى، وقد يغفر الله له، وترسيخ هذا المعنى واجب، لإعلاء قيمة الحق، وكسلوانٍ عن أهل المنتحر وأحبائه الذين يفجعهم الظن الشائع أنه كافر مطرود بلا رجعة من رضوان الله. قد يخشى البعض أن ذيوع هذا الفهم قد يشجع المكتئبين على الانتحار، وهذا وهم، فمن يصل به الاكتئاب إلى القنوط لن ينتظر مثل هذا التوضيح.
وقبل أن نترك مساحة الدين إلى الطب، لا بد أن نشير إلى جانب أكثر خطورة من علاقة الدين بالاكتئاب. يلجأ الكثيرون لوعظ المصاب بالاكتئاب بكليشيهات عن الإيمان والتقوى، وأن اكتئابه ما هو إلا ضعف في التدين… إلخ. خطورة هذا الاتجاه الشائع أنه ينم عن جهل كبير بطبيعة هذا المرض القاتل، وأنه يزيد مريض الاكتئاب اكتئابًا، فهو كشخص منطلق من نفس البيئة الثقافية، غالبًا ما يفكر كما يفكرون، ويجلد ذاته لضعف إيمانه الذي أوقعه في حبائل الاكتئاب، فهو ليس بحاجة لإلقاء المزيد من الحطب في لهب اكتئابه.
الاكتئاب المرضي: أرقام وحقائق مفزعة
تذكر منظمة الصحة العالمية أن هناك أكثر من 300 مليون مصاب بالاكتئاب المرضي حول العالم، أي حوالي 4% من سكان العالم. لا يشمل هذا الرقم بالطبع النوبات المؤقتة من الضيق النفسي، واعتلال المزاج الذي يصاب أكثرنا به، كذلك يعتبر الاكتئاب السبب الأول للعجز عن الإنتاج.
أما الإحصائية الأكثر إفزاعًا، فهي أن الاكتئاب مسئول عن ثاني أشهر سبب للوفاة في شريحة الشباب من عمر 18-30 عامًا وهو الانتحار، حيث يقدر عدد ضحاياه سنويًا بحوالي 800 ألف حول العالم، أغلبهم في تلك الشريحة الحيوية. في دولة متقدمة، وقليلة السكان كأستراليا، يعتبر الانتحار هو السبب الأول للوفاة من سن 15 إلى 44 عامًا، إذ يحاول أكثر من 200 أسترالي الانتحار يوميًا، ينجح منهم 8 على الأقل. وفي الولايات المتحدة عام 2016، توفي أكثر من 45 ألف شخصٍ منتحرين.
ورغم توافر العديد من الأدوية الفعالة المضادة للاكتئاب، وكذلك التطور الملحوظ في الطب النفسي في السنوات الأخيرة، فإن الوصمة الاجتماعية للمرض النفسي، والهواجس الشخصية، ونقص الوعي، تجعل معظم المصابين بالاكتئاب يعزفون عن تلك الرعاية الطبية اللائقة، حيث تصل نسبة من يتلقون العلاج الكافي إلى أقل من 10% في العديد من المناطق حول العالم، وهذا يعني تزايد فرص تفاقم الاكتئاب، ووقوع الملايين في دائرة الاستهداف بالانتحار.
الاكتئاب والانتحار
كلمة السر في علاقة الاكتئاب بالانتحار هي الألم والقنوط. تهيمن الأفكار والأحاسيس السلبية على المكتئب، وتؤلم كيانه من الداخل، كأشد الآلام العضوية، وتتصحر مشاعره ورغباته، فيقنَط من نفسه، ويقنط من الحاضر والمستقبل، ويقنط من فكرة قنوطه نفسها، وعجزه عن السيطرة عليه، فيقنط من نفسه أكثر، ويدخل في حلقة مفرغة من القنوط، حتى يصل في نهاية المطاف إلى أن يعتبر وجود نفسه مصدرًا لألمها وقنوطها، فيبدأ العد التنازلي للتخلص من نفسه، ويقع الانتحار.
لكن أيملك المكتئب كسر تلك الدائرة والخروج منها؟
نظريًا نعم، لكن ليس الأمر سهلًا. الاكتئاب مرض مركب، يسببه تفاعل عوامل عديدة بيئية ووراثية وفكرية... إلخ، بجانب الاختلال في التوازن الكيميائي الطبيعي لموصلات عصبية مهمة بالدماغ كالسيروتونين والنور-أدرينالين، مما يسبب اضطرابًا في العملية الشعورية والفكرية الطبيعية.
نعم هناك العديد من أدوية الاكتئاب التي تعمل بشكل فعال فى علاج الاختلال الكيميائي، لكن مسار العلاج طويل، يحتاج شهورًا وسنين، وقد يتطلب تبديلًا للدواء عدة مرات لحين الوصول إلى الأنسب للحالة. والسيطرة على العوامل البيئية الضاغطة، والمحفزة للاكتئاب، من الصعوبة بمكان، وتغيير العوامل الوراثية مستحيل، والتحكم في الخلفيات الفكرية والثقافية المساهمة في الاكتئاب عملية شاقة ومرهقة، وتتطلب خبرة كبيرة من الطبيب والمعالج، وفهمًا جيدًا للمريض، وأفكاره، ونظرته للأمور.
كذلك هناك بعض الدراسات الحديثة التي أثبتت وجود اختلالات كيميائية معينة في الدماغ، مرتبطة بزيادة الميل للانتحار لدى المكتئب، ويأمل الباحثون في هذا المجال في الوصول إلى تحاليل معينة تكشف القابلية للانتحار، بدلًا من مجرد الاعتماد على جوانب معنوية مثل توعية المكتئب والمحيطين به بالعلامات الأولية الخطيرة للنزوع للانتحار ككثرة الحديث عن الموت، واحتقار الذات، والحديث عن الرغبة في إراحة الآخرين من هم الشخص، ومحاولة التخطيط للانتحار… إلخ.
كذلك رجحت دراسات صدرت في السنوات الأخيرة وجود عوامل وراثية وجينية تزيد القابلية للانتحار. في دراسة سويدية ضخمة شملت أكثر من 80 ألف حالة، وجدت زيادة 5 أضعاف في نسب الانتحار لدى ذرية عائلات سبق فيها وقائع انتحار في الأجداد.
كذلك كشفت بعض الدراسات عن أن بعض الضغوطات البيئية مثل تعرض الشخص للإهمال الأسري، أو اعتداء جنسي في طفولته… إلخ، قد تسبب تغييرات تركيبية في المادة الوراثية DNA في بعض المناطق المهمة بالمخ والمسئولية عن تنظيم المشاعر مثل قرن آمون hippocampus. وهناك أكثر من 200 جين تحت الدراسة للاشتباه في علاقتها المباشرة بزيادة الميل للانتحار. أيضًا أظهرت دراسة تشريحية لأدمغة بعض المنتحرين وجود نقص في السيروتونين في بعض مناطق المخ.
تقرب تيريسا بورشارد – وهي كاتبة أمريكية متخصصة في قضايا الطب النفسي، وتعتبر مدونتها من أهم 10 مدونات تأثيرًا في تقديم الدعم الطبي لمرضى الاكتئاب – الصورة بمثال توضح به كيف أن الدافع للانتحار قد يكون ضاغطًا، فتذكر أن انتحار المريض شديد الاكتئاب أشبه بالعطس، هل إذا تحسست أنفك، وبدأت في عملية العطس، هل تملك إيقافها؟ وهل يصح أن يعاتبَك أحد لعدم تحكمك في العطسة؟
من استعراض ما سبق، لا يمكن الادعاء أن المكتئب المنتحر هو صاحب إرادة 100% فيما فعل، كذلك لا يمكن أن نجزم بأنه قد رُفِع عنه قلم المسئولية عن هذا الفعل.