«غرّب مال»: استعادة السيرة الهلالية روائيًا
لا تزال السير الذاتية ملهمة ومحفزة لعدد من الكتاب والروائيين لاستعادة كتابتها والدوران حول عالمها لصياغتها روائيًا. وإذا كانت سير الأدباء أو العلماء قد سبق ودار حولها عدد كبير من الروائيين، فإنه لا شك أن السير الشعبية أيضًا تمثل معينًا هامًا ومصدرًا خصبًا للكتاب المهتمين بذلك النوع من السير الأكثر رسوخًا وانتشارًا في الوجدان الشعبي.
من هذه السير والتي ربما تكون الأكثر ذيوعًا وشهرة في مصر والعالم العربي «سيرة أبو زيد الهلالي» المعروفة باسم «السيرة الهلالية» والتي اجتهد الكثير من الشعراء والرواة الشعبيين في حكايتها وصياغتها شعريًا، وحرص الشاعر الكبير «عبد الرحمن الأبنودي» على كتابة ما وصله منها في مجلدين كبيرين.
اقرأ أيضًا:أنت قلت .. الشاعر في مواجهة الموت
ووسط عدد كبير من الرواة والشعراء الشعبيين برز اسم الشاعر «علي جرمون» كواحد من الرواة المعتمدين للسيرة الهلالية، وصادف أن تربى الشاعر والصحفي «أحمد عطا الله» على حكايات يتناقلها الناس في صعيد مصر تدور حول سيرة «أبو زيد الهلالي» برواية علي جرمون.
لكنه لم يكتفِ بما سمعه من الناس في طفولته، بل شغله حسه الصحفي لكي يبحث بنفسه عن أصول تلك الحكايات ومصادرها الحقيقية من رُواتها الأصليين. فحمل على عاتقه هم السعي وراء رواة السيرة في أماكنهم المختلفة، وجمعها وإعادة صياغتها وفقًا لما يحب، فخرجت لنا رواية «غرّب مال» في جزئها الأول الذي يحكي طرفًا كبيرًا من حكاية «أبو زيد الهلالي» ومغامراته.
رحلة طويلة للبحث عن الأصول
أربعة أعوام وأكثر قضاها «أحمد عطا الله» في البحث والتنقيب وراء سيرة «علي جرمون» حتى يصل لحكايتها الأصلية. والمفاجأة التي يكتشفها أن السيرة الهلالية في إجمالها تصل إلى خمسة ملايين بيت من الشعر، وهي بذلك تعد ملحمة عظيمة أكبر من الإلياذة لهوميروس، ولكنه يكتشف أيضًا أن كل ما سجله وكتبه الرواة عن السيرة الهلالية لم يستكمل صوتيًا ولا ورقيًا رغم أن «الأبنودي» قد بذل مجهودًا كبيرًا لجمعها من أحد الرواة هو «جابر أبو حسين»، إلا أن قدرًا كبيرًا منها لا يزال عند رواتها الذين برز منهم علي جرمون.
اكتشف أحمد عطا الله من متابعته لرواية جرمون للسيرة الهلالية أنه كان راويًا متمردًا يأخذ ما يعجبه في السيرة كما تُروى في صعيد مصر ويضيف إليها المزيد، وربما تكون هذه السمة من أهم سمات السيرة الشعبية بصفة عامة، إذ تعتمد طوال الوقت على الراوي وقدراته في التخيل والإبداع وإضافة شخصيات وأحداث ومواقف تثري حكايته وتجعلها ذات خصوصية.
من شرائط الكاسيت التي سجلت عليها السيرة الهلالية تحديدًا في إستوديو «فلفل فون في العتبة» بدأ عطا الله رحلته لرصد تغيرات وأحداث وخط سير روايته عن السيرة الهلالية، وانتقالاً إلى نجع حمادي بصعيد مصر، ورواة السيرة الذين لا يزالون على قيد الحياة، حيث استطاع جمع المادة التي مهدت له الطريق بعد ذلك لكتابة روايته.
بين سيرة الكاتب وسيرة الفارس
وعلى الرغم من ثراء حكايات «السيرة الهلالية» واحتشادها بالتفاصيل وما فيها من مغامرات وحروب ومواقف، إلا أن الروائي والشاعر آثر أن يتدخل في النص بنفسه، فقرر أن يصوغه بطريقته الخاصة، وأن يضع جزءًا من حياته وسيرته الخاصة جدًا في الرواية التي صاغها، باعتبار أنها «ما لم يروِه ابن جرمون في السيرة الهلالية»، وكأنه بذلك يضع سيرته البسيطة العابرة في موازاة مع سيرة كبيرة ملحمية كما وصفها، آملاً أن يجد القارئ ما بين هاتين السيرتين من رحلة للإنسان بين أزمنة وأمكنة مختلفة.
هي الحياة والرحلة والغربة والتجارب، كل واحد يخوض التجربة بطريقته، قد يحمل السيف ويحارب من أجل مكانٍ ومكانة، وقد يكتفي بمحاربة طواحين الهواء من أجل الحصول على لقمة العيش.
وهكذا استطاع «أحمد عطا الله» أن ينقل للقارئ طرفًا من سيرة كبيرة وهامة هي «السيرة الهلالية» من خلال تلك الرواية الهامة، كما نجح في أن ينقل «الحالة الإنسانية» التي تشيع في أجواء السيرة بعيدًا عما عرفت به من صراعات ومعارك وما سال فيها من دماء، من خلال التركيز على الجوانب الإنسانية والنفسية لأبطال الحكايات، واستطاع أن ينقل للقارئ أهم ما في هذه السيرة من مشاعر ومواقف وأشخاص. وهو على الرغم من تعدد شخصيات الرواية عنده، إلا أن القارئ لن يشتت ذهنه بل سيبقى متابعًا للحكايات متشوقًا لإكمال الرواية حتى سطورها الأخيرة.
قسّم «أحمد عطا الله» روايته إلى ثلاثة أقسام. يأتي الأول ممهدًا للسيرة بعنوان «لدي أمل أن أعود الطفل الذي كنته» وفيه نلمح أثر تلك الحكايات على نفس الطفل الذي شب وكبر لكي يتتبع أصولها ويسعى لتدوينها. ثم القسم الثاني والثالث بعنوان «يسمى الهلالي سلامة» يتخلل كل قسم منهم خمسة فصول/حلقات يجمع في كل فصل بين طرف من سيرته وأطراف من رحلة «أبو زيد الهلالي» وما قابله في رحلته من مشاقٍ وصعاب.
لا شك أن القارئ سيتذكر أثناء القراءة أن تلك السيرة معروفة بتحولها إلى مسلسل درامي، ربما يكون البعض قد شاهده أو سمع عنه، وكان قد عرض في التلفزيون المصري في أواخر التسعينات، من بطولة الفنان «أحمد عبد العزيز» وتأليف «يسري الجندي» وإخراج مجدي أبو عميرة.
في حوار له مع مجلة «7 أيام» يشير أحمد عطا الله إلى أن ذلك العمل لم يكن يليق بالسيرة الهلالية، وأنه تعاون مع الكاتب «هاني كمال» الذي سمع أنه يسعى لتحويل السيرة الهلالية لعمل درامي مرة أخرى من إخراج «بيتر ميمي»، ولكن العمل يحتاج لإنتاج ضخم لكي يحتوي هذا القدر الكبير من الشخصيات والمعارك والحروب.
تجدر الإشارة إلى أن فكرة صياغة المادة الصحفية روائيًا يبدو أنها شغلٌ شاغل عند أحمد عطا الله وهو الصحفي الذي بدأ حياته الأدبية شاعرًا وأصدر عددًا من الدواوين الشعرية، ثم سحبه عالم الصحافة لدنياه ولكنه لم يبتعد عن الكتابة، فأصدر كتابًا يحمل سمت الكتابة الأدبية الروائية مع كونه تقارير صحفية عن شخصيات عادية من المهمشين سماه «الناس دول» وصدر عام 2011، كما كتب حكاية «مريم» التي سرد فيها حكاية المسيحي الذي أحب مسلمة وكيف واجهته الكثير من الصعوبات، وتعد رواية «غرّب مال» هي روايته الأولى الصادرة مؤخرًا عن دار العين.