«الديوبندية» والأصول الفكرية للإسلام السياسي في آسيا
مع صعود حركة طالبان واشتهارها بالتطبيق الصارم لأحكام الشريعة، ظن كثيرون حول العالم أنها إحدى نسخ تيارات الإسلام السياسي المعروفة في الشرق الأوسط. وقد ساعد على وقوع هذا الخلط عدة أمور منها التزام عناصر الحركة بشدة بالمظهر الديني وتطبيق الشريعة وإيواؤها تنظيم القاعدة، حتى حسب بعض المتابعين لنشرات الأخبار أن الجماعتين شيء واحد دون أن يلتفتوا إلى التمايز العقدي بين الطرفين، والاختلاف في المنهج الحركي بين جماعة محلية نطاق عملها محصور داخل حدود دولتها، والتنظيمات المسلحة العابرة للحدود.
نشأت طالبان في بيئة آسيوية مختلفة كثيراً عن تيارات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، سواء في الأصول أو الفروع أو حتى مناهج السلوك والتربية، وحتى يمكن فهم جذور نشأة الحركة فلا بد من تتبع مسيرة المدارس الدينية الديوبندية في جنوب آسيا التي خرجت هذه الحركة من رحمها.
النشأة والمنهج
كانت مدينة ديوبند التي تقع شمال الهند موطناً لكثير من العلماء المسلمين الهنود، برز من بينهم الإمام شاه ولي الله دهلوي (1703 – 1762) الذي عمل على تجديد الفكر الإسلامي في ظل تدهور سلطنة المغول الإسلامية في الهند أمام ضغوط الصفوية الشيعية من جهة، والضغوط الاستعمارية البريطانية من جهة أخرى، وصعود الحركات الهندوسية والسيخية من جهة ثالثة. فشجع على الاجتهاد في الفروع، والتفكر لإبراز محاسن العقيدة والشريعة الإسلامية. وهكذا صارت ديوبند من بعده أحد المراكز البارزة للفكر والدراسات الإسلامية.
وفي ظل الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية، وبعد إلغاء المدارس القديمة للمسلمين في دلهي ولكناو وغيرهما من المدن وسحق ثورة الهند عام 1857، شعر مسلمو البلاد بالخطر وظهرت محاولات فردية لتأسيس مدارس دينية بديلة. كان من بين تلك المحاولات مبادرة تعليمية صغيرة على يد معلم يدعى محمود الديوبندي كان يدرس لطالب واحد في قرية ديوبند في شمال الهند في منتصف ستينيات القرن التاسع عشر ثم زاد عدد الطلاب مع مرور الوقت، فتم بناء بعض الغرف الملحقة بمسجد القرية، ولما ضاق المكان بطلابه وُضع حجر الأساس لمبنى المدرسة عام 1876، وكثر معلمو هذه المدرسة التي عُرفت في البداية باسم «المدرسة العربية الإسلامية» قبل أن تُسمى بعد ذلك باسم «دار العلوم ديوبند».
اشتهرت المدرسة وانتشر تأثيرها في فترة زمنية قصيرة، وصار يؤمها الطلاب من كل حدب وصوب، وبدأ مسلمو الهند يعتمدون عليها في شؤونهم الدينية والاجتماعية، وتخرجت فيها قيادات وقامات في شتى المجالات. وقد برز من علمائها رشيد أحمد الجنجوهي الذي برز في الفقه والحديث، ومحمد قاسم الناتوتي الذي برزت أعماله في العقائد والأصول الإسلامية ومقارنة الأديان.
وكان هناك صراع كبير بين مؤيدي هذا الاتجاه المحافظ والطائفة البريلوية الصوفية التي كانت تدعو للتعاون مع الاحتلال البريطاني ومسايرة الواقع، واتهموا الديوبنديين بالتشدد، واتهمهم الأخيرون بالتهاون في أمور الدين والغلو في تقديس الصالحين.
مسلك علماء ديوبند
يوضح حكيم الإسلام محمد طيب القاسمي الذي عمل في قيادة الجامعة الإسلامية، «دار العلوم ديوبند»، لأكثر من نصف قرن، أن انتماء علماء ديوبند إلى المنطقة التي تحمل هذا الاسم ليست نسبة طائفيّة، بل تعليمية بحتة. وفي كتابه «مسلك علماء ديوبند»، يوضح أن الديوبندية ليست فرقة أو طائفة مستقلة ذات رؤية مختلفة للدين، بل مؤسسة تعليمية تلتزم الكتاب والسنة وتحاول اقتفاء أثر العلماء السابقين على مدار تاريخ الإسلام، وتأثرت على وجه الخصوص برؤية الإمام ولي الله الدهلوي والشيخ أحمد السرهندي.
وتُدرّس هذه المؤسسة مذهب الإمام أبي حنيفة في الفقه، والمذهب الماتريدي في العقيدة، وينتمي عدد من علمائها إلى طرق صوفية كالنقشبندية والقادرية، ولكن خريجيها الذين يبلغ عددهم مئات الآلاف ينتمون إلى اتجاهات فكرية عديدة وجميعهم قد يُطلق عليهم الناس «علماء ديوبند» رغم وجود اختلافات فكرية بينهم وبين أساتذتهم الذين درسوا على أيديهم، فمنهم من اقترب من المنهج السلفي في بعض القضايا وأغلبهم تأثروا بدرجات متفاوتة بالطرق الصوفية.
ونشأت آلاف المدارس في شبه القارة الهندية التي تنتسب إلى دار العلوم ديوبند وتحاكي طريقتها في التعليم. وبعد رحيل الاحتلال الإنجليزي وانقسام شبه القارة الهندية إلى عدة دول، انتشرت هذه المدارس بشكل كبير في باكستان التي تأسست عام 1947 لتكون وطنًا للمسلمين، ولعب قادة جمعية علماء الإسلام المنحدرة من المدرسة الديوبندية دوراً كبيراً في ترسيخ الهوية الإسلامية في الدولة الوليدة آنذاك.
الحقانية
شهد عهد حكم الجنرال ضياء الحق (1977 – 1988) في باكستان فترة ازدهار لهذا النوع من المدارس الملحقة بالمساجد، فقد تزامن عهده مع غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان المجاورة عام 1979، مما أشعل مخاوف إسلام آباد من أن الهدف التالي لموسكو هو إقليم بلوشستان الباكستاني الواقع على بحر العرب حيث نشطت فيه الدعاية الشيوعية آنذاك لتمهيد الأرض للسوفييت، فلجأ ضياء الحق لدعم المدارس الدينية للتصدي للمد الشيوعي وقاد عملية واسعة استهدفت «أسلمة» الدولة.
انقسمت جمعية علماء الإسلام بعد وفاة مؤسسها مفتي محمود عام 1981 إلى مجموعتين: الأولى يرأسها الشيخ فضل الرحمن، والثانية يرأسها سميع الحق بن عبد الحق، رئيس المدرسة الحقانية في بيشاور القريبة من الحدود مع أفغانستان، وهو الذي تحالف مع الجنرال خلافاً للمجموعة الأخرى التي نأت جانباً عنه. أنشأت الجامعة الحقانية المئات من المدارس على النمط الديوبندي، ونشطت بشكل كبير في إقليم خيبر بختونخوا الذي تقطنه قبائل البشتون.
خلال الحرب، نزح ملايين الأفغان إلى دول الجوار وعلى رأسها باكستان، وسكن كثير منهم إقليم خيبر بختونخوا المحاذي لبلادهم، وتعلم العديد من أطفال وشباب قبائل البشتون الأفغانية في المدارس الحقانية في باكستان.
دعم الجيش الباكستاني الفصائل والجماعات الإسلامية الأفغانية المسلحة في الحرب ضد السوفييت، وتلقى مساعدات أمريكية ضخمة لهذا الغرض خلال فترة احتدام العداء بين موسكو وواشنطن.
الطالبان
خلال الحرب ضد السوفييت، تلقى الأفغان دعمًا من الدول العربية والجماعات الإسلامية حول العالم، وترافق مع هذا الدعم جهود لنشر المنهج السلفي، واشترك عدد من الشباب العربي في القتال وكان العديد منهم يحمل أفكارًا سلفية أو حتى جهادية، وهي أفكار لم تكن منتشرة في أفغانستان، لذلك لم تؤثر كثيراً في البنية الفكرية في البلاد خلال فترة الحرب، وإن ظل المجاهدون العرب موضع ترحيب من الأفغان باعتبارهم جاءوا لنصرتهم على عدوهم السوفييتي.
وبعد اندحار الغزاة في نهاية الثمانينيات، لم تستقر الأوضاع الأمنية في أفغانستان، لذا ظلت نسبة كبيرة من اللاجئين في باكستان وتعلموا في مدارسها الدينية، وهم الذين نشأ من بينهم «طالبان»، أي الطلبة بلغة البشتون.
وبعد انصراف كثير منهم عن المشاركة في «قتال الفتنة» بين الجماعات الأفغانية الذي استمر لسنوات، وتصاعد نقمة السكان على تردي أحوال بلادهم، بدأ بعض طلبة المدارس الحقانية ممن ينتمون إلى قبائل البشتون في تجميع رفقائهم لتكوين حركة مسلحة للسيطرة على الوضع المنهار بدايةً من عام 1994، ودعمت الحكومة الباكستانية طالبان ودفعت بطلبة ومشايخ المدارس الدينية للانضمام إليهم.
وسلم بعض قادة الأحزاب مناطق سيطرتهم للحركة الصاعدة مثل يونس خالص وحقاني وكذلك معظم قوات سياف، وبعد سنتين من القتال ضد أمراء الحرب الآخرين دخل الطالبان العاصمة كابل وأصبحوا القوة الضاربة في عموم البلاد وحشروا معارضيهم في شمال البلاد حيث تحالفوا معًا فيما عُرف بـ«التحالف الشمالي». وخلال حكم طالبان، انتشرت في أفغانستان المدارس الديوبندية لا سيما في مناطق قبائل البشتون.
معضلة تنظيم القاعدة
وقد استغل تنظيم القاعدة سيطرة طالبان على أفغانستان وسافر عناصره إليها وبايعوا الملا عمر رئيس الحركة على السمع والطاعة رغم الخلاف المذهبي والحركي بين الطرفين لكنهم وجدوا هناك الملاذ الآمن الذي يبحثون عنه.
وقد عدد أبو مصعب السوري، أبرز منظري تنظيم القاعدة، انتقادات جماعته للحركة الأفغانية في كتابه «أفغانستان وطالبان ومعركة الإسلام». ومن أهم تلك الانتقادات المنهجية «انتشار الصوفية بمختلف مراتبها» بين عناصر الحركة، و«التعصب للمذهب الحنفي»، وسماحهم بعمل منظمة الصليب الأحمر الدولي وأمثالها في أفغانستان، و«تعسفهم في بعض الحالات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتيجة الجهل أو الفظاظة والبداوة»، وحكم كثير من علماء الطالبان بـ«تفسيق وتبديع المودودي، وكذلك سيد قطب وحسن البنا»، و«موقفهم من المحافل الدولية».
وكانت تلك النقطة الأخيرة من أبرز العوامل التي جعلت عدداً من الجهاديين العرب يأخذون موقفاً سلبياً من طالبان، بخاصة بعد مطالبتها مراراً بعضوية الأمم المتحدة عندما كانت في السلطة، وعرضها الاحتكام إلى المحافل الدولية في مشاكلها مع إيران التي كادت تصل إلى الحرب عام 1998.
ومارست الولايات المتحدة ضغوطاً كبيرة على طالبان وفرضت عليها عقوبات بسبب وجود تنظيم القاعدة على أراضيها لكن ذلك لم يزد الحركة إلا رفضاً للتخلي عنهم لأسباب دينية والتزاماً بتقاليد البشتون التي تمنع ذلك.
لكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001 واتهام الولايات المتحدة لتنظيم القاعدة بالمسؤولية عن الهجوم وإصرار طالبان على الرفض قادت واشنطن تحالفاً دولياً في أكتوبر تشرين الأول من نفس العام نجح في إسقاط حكم الحركة.