دينيس بيركامب: شارب الخمر الذي ظلّ عقله في الإبريق
تلفاز غير ذكي، يدار بريموت وأحيانًا بدون. موصل بسلك طويل من الخلف، عُرف في الأوساط المصرية بالوصلة، للحصول بطريقة غير شرعية على حق مشاهدة القنوات المشفرة. تقوم بالبحث حتى تصل لقناة «art sport» لإشباع شغفك بالكرة فتجد أمامك المشهد التالي: دينيس بيركامب يستلم الكرة بقدمه اليسرى خارج منطقة الجزاء، خلفه مدافع نيوكاسل، يحدث شيء غير مفهوم لتجد بيركامب والكرة أمام الحارس في انفراد صريح. المدافع يريد أن يعرف ماذا حدث ولكنه يفشل مثلك تمامًا!
كل هذا وموسيقى لن تستطيع إسقاطها من خيالك تلعب في الخلفية. كانت الموسيقى الرسمية للبريميرليج في أوائل الألفية ممزوجة بصوت الجمهور في إعلان حصري للقناة عن موسم آخر من المتعة والحماس في بلاد الإنجليز!
هذا المشهد لابد وأن يكون قد شاهده معظم شباب التسعينيات من هواة الكرة الأوروبية. الأكيد أن جميعهم قد تعلقوا بصاحب الشعر الأشقر والقدم الساحرة، دينيس بيركامب.
في هولندا حيث الخمر مركز
مثل هولندي شهير يقول عندما يكون الخمر في جوف الرجل يكون عقله في الإبريق؛ أي أنه يفكر في الاستزادة قبل أن ينتهي مما في جوفه مهما كان الثمن.
من المرجح أن بيركامب كان يرى الكرة إدمانًا، كان يحبها، لذلك كانت تطاوعه في فعل المستحيل. ذلك الحب كان منطقيًا لطفل من مواليد هولندا عام 1969، هولندا التي بعدها بسنوات أصبحت مركز الكرة الجميلة والشاملة بمفهومها الثوري وقتها بالتزامن مع نضج دينيس يومًا بيوم. إذن لم يكن غريبًا أن يكون يوهان كرويف هو أول مدربي دينيس في أيامه الاولى بأياكس وبعمر 11 عامًا لتبدأ مسيرة أحد أفضل لاعبي الكرة في تاريخها.
تنقل بيركامب بين هولندا وإيطاليا وإنجلترا، وفي كل مرة يظهر بيركامب بشخصية مختلفة، ويظهرون جميعًا في بيركامب آخر مع هولندا. ربما لأنه موهوب أو لأنه يحب كرة الشوارع التي كان يسعى وراءها دومًا ويظهرها في هدف لا يُسجل إلا في حارة بكرة شراب. تلك الحالة و صفها بول ميرسون اللاعب الإنجليزي السابق بأنه لم يرَ قط لاعبًا محترفًا بتلك الجودة.
كرة الشارع كانت هي خمر بيركامب التي كان يريد أن يستزيد منها منذ وطأت قدماه الملاعب الخضراء، وفي الأخير وجدها بأرسنال.
من إيطاليا إلى إنجلترا: الرحلة من الفشل للملل
دينيس بيركامب عن مفهومه للعبة
ربما ذلك المفهوم هو ما عطله في إيطاليا دون غيره، إيطاليا التي كانت حلمًا لأي لاعب وقتها، فما بالك إذا كنت هولنديًا وترى الثالوث العظيم فان باستين وخولييت وريكارد يعيشون أيامًا لا مثيل لها مع الميلان؟
هكذا فكر بيركامب مع مسئولي الإنتر لقيادة ثورة مشابهة في النصف الأزرق والأسود من مدينة ميلانو، ولكن هناك كان الوضع أسوأ بكثير حيث كان بيركامب انطوائيًا ولم يُجد التعامل مع الإعلام الذي أسماه مرة (حمار الأسبوع) لسوء مستواه، كذلك عانى مع أسلوب اللعب وقوة المدافعين. فالفكرة التي تسبق اللعبة لم تكن لتترجم بالإضافة لأنانية شريكه في الهجوم روبن سوزا الذي على حد تعبير بيركامب كان يفكر بنفسه أكثر من الفريق.
حياة الهولندي ازدادت سوءًا، فبعدما كان نجمًا صاعدًا في أياكس وهدافًا لهولندا للاعب فاشل لم يتأقلم مع عنف الطليان، حتى أنه بعدما تعاقد مع أرسنال وصف ستيوارت بيرس اللاعب الإنجليزي السابق التعاقد معه بأنه مقامرة وضياع للمال، في حين سخر ماسيمو موراتي من بروس ريوخ مدرب أرسنال وقتها بقوله له ستكون محظوظًا إن سجل دينيس معك عشرة أهداف.
لم ينتبه أو يكوّن أحاسيس سلبية على حد تعبيره؛ ولذلك ربما عرف برجل الثلج «ice man». لم يكن ينتبه للضغوط، هل سمعتم عن مخمور أدرك شيئًا مهمًا يحدث حوله؟ هو يدرك شيئًا واحدًا على الأرض وهو الكرة.
تزامن وصول بيركامب في منتصف التسعينيات مع وصف أرسنال بالفريق الممل؛ لتمسكه باللعب الإنجليزي التقليدي. مهاجم طويل وأجنحة سريعة وكرات طويلة من قلوب الدفاع، ولكن لحسن حظه وربما حظنا كمشاهدين أن فينجر جاء بعده بعام ليضع تراثًا جديدًا لأرسنال وللكرة الإنجليزية. أسلوب جديد يسر الناظرين وينقل بيركامب من مركز المهاجم لمركز المهاجم الثاني أو صانع الألعاب الهداف.
كانت أجمل سنوات حياته، أهداف كثيرة، ليست بغزارة أهدافه مع أياكس ولكنها أكثر من أهدافه مع الإنتر بكثير. أكثر ما يميزها هو غرابتها! ربما توصيف غير شعبي للأهداف، فالأهداف إما جميلة أو إعجازية أو قاتلة، ولكن بيركامب كان يسجل أهدافًا غريبة، أهدافًا لا يمكن أن تفهم ماذا فعل بها من أول مشاهدة وربما من أول زاوية عرض. هدفه الشهير في نيوكاسل وشقيقه في ليستر، وهدفه الأجمل من وجهة نظره في ربع نهائي كأس العالم أمام الأرجنتين، حتى صناعته الخيالية لليونبيرج أمام يوفينتوس، كرات من السماء.
من مسجل أهداف عظيم، لمسجل أهداف عظيمة
كان يلعب الكرة من وجهة أخرى، شيء ما بين تحكم زين الدين زيدان وإنهاء توتي رغم أنه في التصنيفات العالمية لا يرقى لهما ولا يحظى بشعبيتهما، ربما لأنه خارج المقارنة من الأساس. لا يصف تلك الحالة الغريبة سوى تصريح كرويف عنه بأنه لا يعترف بشيء يسمى اللاعب الأفضل في العالم، ولكنه عندما يسمع كلمة كرة القدم يتذكر دينيس بيركامب.
حينما كان شابًا في أياكس الهولندي سجل 1.2 هدفا في 185 مباراة بالدوري ويحصد لقب الهداف 3 مرات متتالية، ولكن عند وصوله لقمة مستواه مع أرسنال سجل 85 هدفًا في 315 مباراة! تم وصفه من الكثيرين بأنه تحول من هداف عظيم لمسجل أهداف عظيمة، تركزت قدرات دينيس معظمها في التسجيل والصناعة، ولكن بلقطات خالدة كالسابق ذكرها وكأنه يرفض أن يتاجر بالكرة التي بين قدميه وكأنه يريد أن يسكر أكثر وأكثر من الخمر التي لا يدرك الناس متعتها حتى رأوه يشربها علانية.
بيركامب كان يريد ركل الكرة والتفكير بها فقط دون أن يتحمل أي أعباء أخرى قد تكدر صفوه،لا يحب الطيران ويصاب باضطراب حين يفكر بالأمر، إذن لا يجبر نفسه على السفر بالطائرة وأحيانًا كان يسافر بالسيارة مثلما فعل مع منتخب هولندا حينما تحتم عليهم مواجهة ويلز.
كما أنه لم يسدد ولا ضربة جزاء منذ إضاعته لواحدة تسببت في خروج الأرسنال أمام مانشستر يونايتد في نصف نهائي الكأس عام ١٩٩٩. قد يفسر البعض ذلك بالاستسلام والضعف ولكني أراه قمة الزهد في كل شيء أو عدم الرغبة في إثبات أفضليته، هو فقط يريد استلام الكرة وترويضها.
بيركامب وجد ضالته في أرسنال، ملعب ضيق وسط المباني والجمهور صاخب تمامًا كأجواء لعب الشارع، مدرب مؤمن بقيمة اللعب على الأرض وبناء الجمل الفنية وزملاء يستطيعون فهمه من مجرد نظرة كهنري ورايت وليونبيرج وغيرهم. وككل مدمني المكيفات بأنواعها لم يكتفِ بيركامب بالسحر لنفسه بل نشره في كل ملاعب العالم، ليكتسب عظمته من لقطات أسطورية وهو يداعب أيالا ويرسله بعيدًا أو وهو يزين هاتريكه في ليستر بهدف خرافي ليصبح ملجأ كل شاب يحب الكرة لا يجد شيئًا يروي ظمأه سوى كتابة (أهداف دينيس بيركام) في محرك البحث على اليوتيوب.