دينيس ديدرو ومدخل إلى فكر التنوير الفرنسي
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
يتمثل الفلاسفة الكتّاب الأكثر بروزًا في حركة التنوير الفرنسي في القرن الثامن عشر في فولتير وروسو وديدرو. يمتلك الاثنان الأوّلان شهرةً كبيرة نسبيًا في العالم الناطق بالإنجليزية، لكن ديدرو ليس كذلك. وللإنصاف، يجب القول إن إنتاجه نفسه يتم الاعتراض عليه في فرنسا نفسها. ففولتير وروسو تم إدخالهما إلى مقبرة العظماء (البانثيون) في أواخر القرن الثامن عشر، لكن انتظر ديدرو حتى عام 1913 كي ينال هذا الشرف، ورفضته الجمعية الوطنية بعد ذلك، ولم يحرز هذه المكانة حتى الآن.
حياته
ولد دينيس ديدرو في لانجري في شامبان عام 1713. كان مُخططًا له أن يخلف عمه في وظيفة الممجد الكنسي، ولذلك تم جزّ شعرِه في الثالثة عشر من عمره. لكنه بعد إنهاء دراسته عاش حياةً منحلة في باريس. وفي 1741 قابل خادمةَ غسيل اسمها أنطوانيت شامبيون. رفض والده علاقتهما وحبسه في دير. هرب وتزوج أنطوانيت عام 1743. بعدها استقر في وضع مقبول، وأقام حياته على الترجمة من الإنجليزية. ومن الممكن أنه لم يكن زوجًا وفيًا للغاية، لكن يبدو أن علاقاته مع مدام دو بوزيوه وصوفي فولان كانت قائمة بالأساس على حاجته لمشاركة فكرية. فقد كتب في كتابه «ابن أخِ رامو Le Neveu de Rameau» قائلا: «أفكاري هي عاهراتي».
كان ديدرو طوال حياته معروفًا باعتباره ناقدًا فنيًا بالأساس، وأحد محرري الموسوعة the Encyclopédie. وكان دوره بعد ذلك قلقًا من الناحية السياسية. فالموسوعة تم الترخيص لها، ثم حظرها، وإزالة الحظر عنها، ثم حظرها مرة أخرى في فرنسا، حتى استسلم المحررون وأعلنوا أن الإصدارات الأخيرة سيتم نشرها رسميًا في سويسرا. وعام 1766 تم وضع ناشر الموسوعة في سجن الباستيل.
واعتُقل ديدرو لشهور قليلة (في فينسين وليس الباستيل). ويعد كتابه (1776) «مقابلة مع المارشال Entretien avec la Maréchale» كاشفًا في هذا السياق. وفيه يحاول ديدرو أن يقنع محاوره المتدين أن الملحد مثله يمكن أن يكون إنسانًا شريفًا (un honnête homme). لكن في الخاتمة ينقل:
وفي 1765، باع ديدرو مكتبته للإمبراطورة الروسية كاترين مقابل مبلغ مالي، ومعاش دائم، بالإضافة إلى استخدامها طوال عمره. كانت هذه الصفقة هي التي قادته بعد ذلك إلى الرحلة الوحيدة له خارج فرنسا. فمن 1773 إلى 1774 غادر إلى هولندا أولًا، ثم إلى سانت بطرسبرغ ثم إلى هولندا مرة أخرى.
ويبدو أن ديدرو كان رجلًا لينًا. فقد تعاون مع روسو لخمسة عشر عامًا قبل أن يتشاجرا (كان روسو يتشاجر مع الجميع) ثم عاد ليعمل معه لعامٍ آخر.
وبعد أن أصبح آمنًا ماليًا، عاش ديدرو آخر حياته في رفاهية مقبولة. وعمّر أكثر من روسو وفولتير، ومات ميتةً طبيعية عام 1784. وضمن مستقبل ابنته الوحيدة، ماري آنجليك، بتزويجها. وكان فاندال صهره هو الذي نشر أعمال ديدرو شبه الكاملة عام 1796.
مهنة الكتابة
لم ينشر ديدرو تقريبًا أيًا من كتاباته الفلسفية في حياته، على الرغم من أنه قرأها على أصدقائه وتداولها بشكل مخطوط فيما بينهم.
كان هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى نشر أعماله بعد وفاته. أولًا، كانت الأفكار التي قدّمها خطيرة في ذاتها. فقد اقترب قدر إمكانه من إعلان مذهب مادي (وبالتبعية، ملحد)؛ وحتى فولتير على الرغم من معاداته لرجال الدين، فقد ادعى أنه ربوبي [محرر المجلة: الربوبية أي الاعتقاد بأن هناك إله، لكنه غير مهتم بشئون البشر]. وحتى وضع الرؤى الإلحادية على لسان متحدث خيالي كانت مجازفة بالوقوع في فخاخ سلطات الكنيسة والدولة. واكتفى ديدرو من ذلك في نهاية حياته. وأيضًا، قام بتقديم أفكاره في هيئة حوارية (أو كما كان يحب أن يسميها: محادثات entretiens)، وكان العديد منها يحتوي أشخاصًا معاصرين له. وبعض هذه الحوارات، كحوار Mystification، تبدو وكأنها عبارة عن محادثات حقيقية تم تعديلها. وأخيرًا، كان ديدرو باحثًا عن الكمال (أو عابثًا). فقد كان يعكف على مراجعة أعماله، حتى يرضى عنها (بشكل أو بآخر). ولذلك، أصبح تحرير كتابات ديدرو تحديًا رئيسيًا في المعرفة العلمية الفرنسية.
كانت حواراته المبكرة صريحة إلى حد كبير. ففيها يظهر ديدرو نفسه ويقدّم آراءه. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك حواره مع دالومبور عام 1769. ففي هذا العمل يقدّم ديدرو مذهبًا ماديًا تمامًا، متضمنًا حجة تم عرضها في صفحات عدة يشير فيها إلى أن الصخور قد يكون لها درجة ما من الشعور والوعي. أصبحت طريقة ديدرو أكثر مكرًا في الحوارات التالية، ويمكن القول إنها أصبحت ملتوية. ففي نهاية هذا الحوار السابق ذكره، يقبل دالومبور قوة حجج ديدرو لكنه يصر على الالتزام بمذهبه. لكن في حوار «حلم دالومبور» (1769)، يصبح دالومبور هو من ينقل أفكار ديدرو، ولكن وهو نائم على كرسي. ويناقش بعد ذلك د. بوردو والآنسة دولاسبيناس ما قاله دالومبور في نومه. وعندما يستيقظ يطلبون منه أن ينام مرة أخرى، أو لا يتدخل في حوارهما (في بقية الحوار، يُكملان من دونه). تعكس هذه الصياغة تصور ديدرو الحديث بأن نجد أفكارنا الحقيقية في الأوقات التي نفقد فيها الوعي، حيث تقوم أذهاننا بتحريرها كي تظهر في وعينا. وبالتالي، ما قاله دالومبور في حالة فقدانه للوعي هو ما يعتقده بالفعل، إلا أن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك.
حوارات مشتركة
أحد أبرز أمثلة فلسفة ديدرو الحوارية هو حوار تكملة رحلة بوينفيل Supplément au Voyage de Bougainville (1772). يواجه ديدرو في هذا الحوار إحدى النظريات الرئيسية في القرن الثامن عشر، والتي تتحدث عن حالة الطبيعة التي كانت تعيشها الإنسانية البدائية، والهمجي النبيل الذي كان يعيش فيها. قارب روسو فكرة الحالة البدائية للإنسان من مدخل نظي؛ فقد افترض حالة الرجل البدائي وكيف وصل الجنس البشري إلى الحالة المتحضرة الحالية. (لاحظ هذه الضمائر الذكورية، سيكون لها أهمية). وعلى الجانب الآخر، ينطلق ديدرو من مثال حقيقي –وصف بوينفيل للمجتمع التاهيتي. (ومع ذلك، وبصفاقة أكبر، يدعي ديدرو أنه ينقل ما حذفه بوينفيل مما نشر!).
وعلى عكس عادة ديدرو، كان المشاركون في هذا الحوار مجهولين. وفقط يتم الإشارة إليهم بـ A و B. ويمكن التخمين أن B هو ممثل ديدرو لأنه لديه الكثير ليقوله. ولكن كما سنرى، لا يعد هذا التخمين آمنًا.
كانت بداية الحوار هو الخطاب المزعوم لزعيم تاهيتي مسن يندد بالتدخل الأوروبي في الأعراف المحلية. وهو جزء رائع على طريقة خطابة روسو (مع أن لغة ديدرو ليست خطابية البتة)، مما يثير الطرف A للتعليق بأنه يبدو أوروبيًا. ويرد B على ذلك بأنه تم ترجمته من التاهيتية للإسبانية ثم إلى الفرنسية. ثم يضيف أن الزعيم أعطى النص لمترجمه أورو في الليلة السابقة على إلقائه، كي يستطيع ترجمته إلى الإسبانية كي يحصل بوينفيل على النص الإسباني في يده وقت إلقاء الخطبة اللاذعة.
هذه البداية نفسها تقوض أساس الفكرة الساذجة عن الهمجي النبيل. فأولًا، ترجمة الخطاب تذكرنا بأن المفهوم نفسه تم تنقيحه من خلال الإدراك الغربي بشكل ما من الترجمة؛ أي أننا نرى «الهمجي النبيل» من خلال منظورات أوروبية. وثانيًا، تشير البداية إلى أن الهمجي النبيل ليس جاهلًا أو عفويًا كما أراد منا روسو أن نعتقد؛ بل يمكنه على سبيل المثال أن يعد خطابًا مناسبًا بشكل مسبق.
يركز معظم الخطاب على حوار دار بين أورو وقس أتى مع بوينفيل. سكن القس مع أورو، وعرض عليه أورو أن يختار بين واحدةٍ من بناته الثلاث أو زوجته لتكون شريكة جنسية له. اعترض القس باسم دينه وتبتله. وتتوسل أصغر بنات أورو للقس أن يختارها؛ لأن كلتا أختيها لديها أطفال، وهي لا، والذي كان وضعًا محرجًا لها. يخضع القس، وهو يشعر بالذنب (سيمارس الجنس بعدها مع الأخرتين، ومن باب التأدب مع زوجة أورو أيضًا). يجادل أورو في الحوار التالي بأن الأخلاق التي يتبعها تجعل الناس يختارون بشكل حر في علاقاتهم، بينما يعترف القس بأنه على العكس من ذلك، يعطي الأوروبيون وعودًا في العلاقات لا يحفظونها.
لكن في منتصف هذا الحوار، بطلب من A، يقطع B الحديث ليروي حكاية بولي بيكر (كما تم تنقيحها من تقرير كتبه بنجامين فرانكلين). ففي البداية سقطت بولي بيكر في إغواء رجل محلي وحملت منه، ثم أنجبت خمسة أطفال خارج إطار الزواج، والذي نظرت إليه باعتباره عملًا نافعًا لإنجلترا الجديدة، على الرغم من أنها تمت إدانتها بشكل مستمر في المحاكم.
وفي نهاية الحوار، يتم افتراض أن A وB يجب عليهما أن ينضما إلى السيدات. وكان الحوار التالي مثيرًا:
A: افترض أننا قرأنا لهم الحوار الذي دار بين القس وأورو؟
B: ماذا تظنهم سيقولون؟
A: حقًا لا أعلم.
B: وماذا سيَرَون فيه؟
A: ربما عكس ما قد يقولونه.
نتذكر فجأة أن الحوار بين أورو والقس؛ أي معظم النص، كان بين رجلين، فقد كان الصوت النسائي الوحيد الذي ظهر هو صوت ابنة أورو الأصغر وبولي بيكر؛ وأنها كانت تواجه مجتمعًا أبويًا تسامح مع إغوائها لكنه ندد بمحاولتها التعايش مع النتائج. وكذلك أورو من مجتمع أبوي. فعن نسائه يقول للقس: «إنهم ملكي، وأنا أهديهم إليك، إنهم ملكك، وسيمنحونك أنفسهم». ويظن المرء أن الجزء الأول من الجملة أكثر دقةً من الثاني. ويشدد ديدرو على أن نتيجة الحرية الجنسية هي الحمل، أو بعبارة أخرى، يستمتع الرجل باللذة، وتتحمل المرأة العواقب. ففي هذا النموذج، يعد العيش في «حالة الطبيعة» خيارًا أفضل للرجل وليس المرأة.
وعلاوة على ذلك، إذا كان النساء يقولون شيئًا غير ما يعتقدون، هل يمكننا التأكد من أن A وB أنفسهم يعبرون عن أفكارهم الحقيقية؟ وكل ما كان ينقص هذه المحادثة هو النفي القائل بأن «الأفكار المتضمنة في هذا الحوار لا تمثل بالضرورة رأي الكاتب –أو المتحدثين فيها».
فلسفة حقيقية
كان فولتير وروسو يعرفان جيدًا ما يعتقدانه، وحاولا إقناع الآخرين بأن يفكروا مثلهم. ولكن يبدو أن ديدرو كان يعلم ما يعتقد، لكنه في حواراته الأخيرة كان يعرض رؤىً متعارضة ومختلفة، ثم يقوّضها بمكر. ويُظهر هذا أن ديدرو كان فيلسوفًا محبًا للحكمة بحق. فقد أحب الوقائع، وجمعها في الموسوعة Encyclopédie، لكنه أيضًا استكشف الأفكار ووجدها، على عكس الوقائع، ليست مطلقة، وأن الناس عادةً ما يهملون أن هنالك أفكارًا قد تتعارض مع أفكارهم. فكما فعل سقراط، لم يخبرنا ديدرو ماذا نعتقد، بل شجعنا على أن نعتقد بأنفسنا. وبناءً على هذا، كان ليتعاطف مع من صوتوا ضد انضمامه إلى البانثيون. وفي الحقيقة كان من الممكن أن يصوّت معهم.
* ملاحظة للكاتب عن كتابات ديدرو: لا تتوفر حوارات ديدرو الفلسفية اليوم بترجمة إنجليزية، باستثناء إصدارات penguin لـRameau’s Nephew وd’Alembert’s Dream. وأفضل إصدارٍ فرنسي هو إصدار جان فارلوت: Le Neveu de Rameau et Autres Dialogues Philosophiques من دار Folio Classique.